النزلاء المسلمون١
قضى الله على هذا القطر أن يكون منذ القديم مهاجرًا لأمم الأرض، ولا سيما من الأولى قيض لهم الحكم عليه من روم وفرس وترك وجركس وكرد، أو كانوا مجاورين له من شماله وجنوبه وشرقه وغربه، فيأتيه بعضهم متاجرًا، وآخر موظفًا، وفريق غازيًا وغيره مسالمًا، وتربة مصر الجيدة تبتلع من تبتلع من تلك العناصر وتحيلهم بوتقة النيل مصريين، ومنهم من يعود من حيث أتى بعد أن يقضي في ربوعها زمنًا، وقد استفادوا منها ماديًّا أو معنويًّا.
وكان بعض تلك الأجناس إذا نزلوا العاصمة وقواعد المدن في القطر يجتمعون في بقعة واحدة، ويؤلفون جماعة أو حزبًا، ويتخذون لهم حارات خاصة بهم يسكنونها، ومحال تجمعهم وعادات يحرصون على الاحتفاظ بها والجنسية علة الضم، أو كما قال امرؤ القيس:
أما إذا نزلوا الأرياف فقلما كنت ترى لهم كلمة، فيبقون في غمار السكان في الغالب ويمتزجون بأهلها، فيجعل ذلك لهم فقد لغاتهم أن يكونوا لا يتكلمون العربية، أو فقد جنسياتهم إن كانوا عربًا، وما هي إلا بضع سنين حتى يصبحوا مصريين صرفًا.
والغالب أن كل فاتح يستعين بالغرباء على قيام أمره، ويعتمد في الأكثر على أناس من بني جنسه، هكذا فعل الرومي والفارسي قبل الإسلام، وهكذا فعل التركي والجركسي والكردي والأرناؤدي بعده، وإن كان الإسلام قد منع من القول بالجنسية والعصبية، ولكن الدول تراعي في هذا الشأن حالة الزمان والمكان، ثم إن الغالب يرى من الواجب عليه أن يقرب إليه الأقرب والأقرب، والأقربون أولى بالمعروف.
هذا إجمال من تاريخ نزول الذين هبطوا مصر في الأدوار السالفة، وإنا لنرى منه اليوم مثالًا مجسمًا من المحتلين وتوسيدهم الوظائف الكبرى الرابحة إلى أبناء جلدتهم، فإذا لم يجدوا منهم من يرتضونه، يختارون أن يوسدوها إن أمكن لرجل أوروبي بدل المصري أو العثماني، كما يختارون توسيدها للمسيحي أو غيره من غير أهل الإسلام.
بمثل هذه الحال السياسية يحدث الخلف بين الوطني والنزيل، ويلتف كل فريق على فريقه، والحكام من وراء ذلك يُسرون بهذه الفرقة بين الأجناس والعناصر، ما دامت القاعدة التي سارت عليها الحكومات هي «فرِّق تَسُد»؛ ولذلك كان يزداد هذا التنافر بين الدخيل والأصيل، كلما نفخ الحاكم في ضرامه، ويخمد كلما انقطعت عنه مادة التفريق، وهذا ما دعا إلى أن تكون لكل عنصر من النزلاء جمعياتهم الخاصة بهم ومدارسهم وكنائسهم وحاراتهم ومحالهم وأنديتهم.
لا يكاد يمضي شهر إلا ويجيئني كتاب من جماعة، يطلبون إلي أن أشاركهم في جمعية سورية، يريدون تأسيسها لغرض اجتماعي أو أدبي أو خيري، وأن أساعدهم مساعدة أدبية بالقلم إن لم تتيسر لي مساعدتهم بالدينار والدرهم فأعتذر إليهم، فمنهم من يقبل العذر، ومنهم من لا يقنعه قولي ويحمله على ما يقع في نفسه من الظنون، ومعظم هؤلاء الداعين جماعة من المسيحيين يريدون أن يكثروا بالمسلمين سوادهم، ويستعينوا بهم على غرض يرون فائدته لأبناء بلادهم.
المسلمون العثمانيون أو السوريون في مصر أفراد قلائل بالنسبة لسائر العناصر؛ ولذلك لم يرَ اللورد كرومر في كتابه «مصر الحديثة» أن يخصهم بكلمة لقلة سوادهم، وبعبارة أخرى إن أكثرهم من التجار أو من السوقة لا يدخلون في مسائل البلاد العمومية، ولا يتأتى للاحتلال أن يعتمد عليهم؛ لأن الدين يمنعهم من خدمة أفكاره، وهم يرون المصريين إخوانهم في الدين والتابعية واللغة والجوار، وهل أعظم من ذلك رابطة؟!
وما راعني أمس إلا كتاب من أحد المسلمين السوريين من تجار هذه العاصمة، يقول لي: إنه ساعٍ مع بعض أصحابه في تأسيس جمعية خيرية إسلامية سورية بالقطر المصري، تساعد الفقراء السوريين المسلمين ممن لا ناصر لهم ولا ملجأ، يلجئون إليه عند الشدائد؛ وذلك لأن إلقاء حبلهم على غاربهم مما يشين سمعتنا الأدبية بين الخاص والعام، ولا فرق في ذلك بين الدمشقي والحلبي والبيروتي والطرابلسي وغيرهم؛ لأنهم كلهم أبناء طائفة واحدة، وتظلهم راية واحدة، ويدور محور أعمال هذه الجمعية على مواساة الفقراء، وتربية الأيتام على الطرق الحديثة، وإدرار الأرزاق على الأرامل والمرضى، وتجهيز الموتى، وتسفير الفقراء، وتتولى الجمعية غير ذلك من أعمال الخير، وستكون قيمة الاشتراك في الشهر عشرة قروش صحيحة، وإذا تبرع بعض الأغنياء بأكثر من ذلك فيكون لهم الفضل … إلخ.
هذه خلاصة الكتاب، وفيه من الحث على مساعدة الجمعية ما هو طبيعي، ولكن حسن ظن القوم بي لا يمنعني من النصح لهم، بأن يجعلوها جمعية خيرية مطلقًا بدون وضع اسم «السوري» عليها، وأرجو ألا يحمل ذلك على ضعف في الوطنية، بل أن يتدبر القائمون بالأمر فيما أقول.
المسلم السوري هنا لا يعتبر كما يعتبر غيره خصوصًا، وهو — كما قلنا — لم يدخل في معترك السياسة المصرية؛ ولذلك ينظر إليه المصري بأنه أخوه ووطنيه يعامله كما يعامل ابن النيل، ويبوح إليه ببثه وحزنه ويصاهره ويعاشره ويرتبط به؛ ولذلك تدعو الحكمة أن يقوم السوري هنا — إن كان لا يرى مندوحة له عن أن يسمي نفسه بهذا الاسم — في جميع أعماله تبعًا لأخيه المصري.
ليعمل السوري الخير، ولكن لا على أنه سوري، بل على أنه مسلم أو مصري؛ لأن الأدب يقضي عليه أن يندمج في جسم أخيه المصري لينتفع كلاهما بصاحبه، وما جزاء من يحب إلا أن يحب، ومن أدب الغريب ألَّا يجهر بأن مصلحته تخالف مصلحة من ينزل عليه.
المسلمون من أهل البلاد المجاورة لمصر ما زالوا منذ القديم يهبطون هذا القطر كسائر الأمم، ولكنهم يندمجون في سلك أهله، ولا يلبثون أن تكون لهم نفس حقوقهم؛ وذلك لما وقر في النفوس من انتفاء الجنسية في الإسلام؛ ولأن من مصلحة النزيل أن يكون تبعًا للزميل لا يقاومه في رغباته، بل يخدم الغرض الذي يرمي إليه ما دام الغرض لا يتعدى طور العقل، فيجد النزيل من ابن البلاد كرم الوفادة بما لا يعذر به ابن البلاد نفسها، والغريب بالنظر لنشاطه إذا لزم الأدب مع من ينزل عليه يربح أكثر من حرصه على الأسماء.
وما سورية ومصر إلا بلدان متجاوران، والسوري الذي ينفع مصر مصري والمصري الذي ينفع سورية سوري، والحمد لله أن خلقنا في زمان سقطت معه دولة التحزب للجنسيات، فلم يعد الناس كما كانوا في الأزمان السالفة يعادي بعضهم بعضًا في القطر الواحد، بل في البلد الواحد، بل في الحارة الواحدة على أسماء ما أنزل الله بها من سلطان، اللهم إلا عدم المعرفة بطبيعة الكون، وطبيعة تنقل الناس في هذه الأرض منذ القديم.
الحمد لله أن جئنا في زمن نسمع فيه أن البشر يفكرون في اختيار لغة واحدة تجمعهم ليتعارفوا بها، وأن يزيلوا الحدود من تخوم الممالك؛ حتى لا يكون بين أمة وأمة ما يصدهما عن الاختلاط وجلب المنافع ودرء المضار.
وإن كل عاقل ليوقن بأن النغمة التي ضرب على وترها بعض السوريين في هذا القطر على عهد انتشار حرية الأقلام لم تكن إلا من باب «خالف تُعرف»، أراد بها أربابها التذرع إلى نيل الشهرة أو أغراضًا مادية أخرى، ولذلك أخشى أن تكون تلك النغمة التي سكنت نأمتها الآن هي التي بقيت بقاياها في أذهان بعض المسلمين من السوريين، فقاموا اليوم يريدون أن يخرجوا عن الجماعة، ويؤسسوا لأنفسهم جمعية تضم شتاتهم، ولو فعلوا لكان شرها أكثر من خيرها، وعلى الله قصد السبيل.