شبه جزيرة كليبولي
إلى هذه البقعة الطيبة بمناظرها وغاباتها وسهولها وجبالها يهوي اليوم ويحق له أن يهوي فؤاد كل عثماني يحب هذا الوطن المحبوب، ويتفانى في التبرك بتربته، ويخاف عليها من عوادي المعتدين، ويكره لها ظل المستعمرين من الغربيين.
جزيرة مستطيلة كهذه يبلغ عرضها — فيما أذكر — من ستة كيلومترات إلى ثلاثين، وطولها ٨٥ كيلومترًا، تتقاذفها القنابل والقذائف والدمرات والمنفجرات وطيارات السماء ودوارع الماء منذ زهاء سبعة أشهر، وهي لا تزال صابرة على الأذى باسمة الوجه للقاء العدى.
في هذه الشبه الجزيرة تجلى العقل العثماني، وتم آخر ما وصلت إليه مدارك أبناء هذا الوطن في استكمال أسباب الدفاع، والأخذ بحظ أوفر من أساليب الكر والفر والتعبئة والمصاف، ولولا هذه العناية والاستهانة بكل عزيز في سبيل الذود عن حمى هذه الشبه الجزيرة؛ لتبدلت وجه الحرب الأوروبية، ولنالنا من الاضطهاد ما لا يكاد يخطر لنا على بال.
هذه الأرض المحاطة بالبحر من أكثر أطرافها عَرفت دول الاتفاق المربع أن هناك قوة أسمى من قوة البشر، وهي القوة الإلهية التي استند إليها العثمانيون قبل كل شيء، ودونها قوى الأساطيل والغواصات والطيارات والمقذوفات والمفرقعات، يضاف إليها يقين مازج الأفئدة، والأرواح من ثقة الانتصار، وكراهة ليس بعدها غاية لحكم الأجنبي والتشبيع بمعاني الوطنية والجنسية.
وقفت على جبهات الحرب في مواقع «آري بروني» و«أنافورطة» و«جناق قلعة»، وأشرفت على أنحاء «سد البحر»، وهي المواقع الأربعة التي دار ويدور عليها القتال، واشتد فيها الطعن والنزال، فعظم في عيني غناء جيشنا، وفاخرت نفسي بقوادنا وضباطنا وجندنا، وأيقنت أننا إذا ضممنا شملنا في كل نازلة وكل شأن، وتذرعنا بعامة الأسباب التي يتذرع بها البشر الممدن، نضاهي أعظم الدول منعة ومضاء، وها قد قضينا باعتصامنا بحبل الله على مطامع الطامعين، وهم ما هم بقواهم البرية والبحرية.
سبعة أشهر مضت على دفاع جناق قلعة والعدو يمخر العباب بدوارعه وطراداته ورعاداته ومدمراته، ويخرج إلى البر الكتائب أثر الكتائب، ويستجلب السلاح، ويتذرع بأقصى ما وصل إليه طوق الإنسان من التفنن في إرهاق الخصم واقتحام السُّبُل، فلم يستطع التقدم شبرًا عن المكان الذي نزله أول يوم، ولا يزال جيشه تحت حماية أساطيله لا ذرى له ولا أكمات، وجيشنا يطل عليه إطلالًا يذيقه كل يوم مرارة الهزائم ألوانًا وأشكالًا، ويفحش القتل في رجاله حتى قُدر الهالك منه بنحو مائة ألف، فقدها وفقد معها جانبًا من أسطوله، وأنفق عشرات الملايين من الدنانير، وهو في مكانه لم ينل ولن ينال بحول الله ما تطمع به نفسه من استباحة حمانا.
هذا المضيق هو في الحقيقة مفتاح دار الخلافة، وكان المتفقون على مثل اليقين بأن عمله سهل يحتاج إلى بضعة أسابيع، ولكن خيَّب المولى ظنونهم ونعى عليهم اعتدادهم بقوتهم، وألقى عليهم أمثولة مما ينال الظلمة من سوء المغبة، وأن التمويه للعبث بعقول الناس لحكمهم كما تحكم البهائم إن جاز يومًا فلا يجوز على الأمم في آخر، وأن الله لا يضيع عمل عامل.
إن دفاعنا في حمانا في جناق قلعة قطع آخر عرق من الآمال للمتفقين، وقضى على مطامعهم فينا أبد الدهر إن شاء الله، ومن رأى ما رأيناه هنا من إبداعنا في طرق القتال، وشاهد استعدادنا في خصومنا وطرقنا وسلاحنا ومدافعنا ونظام جيشنا، وما ينبغي له من المؤنة والذخيرة والتمريض، يجهر بصوته قائلًا: هذا عمل لا يتهيأ إلا لأمة تحب أن تبقى، ولا يتيسر ذلك إلا لمن كُتبت له السعادة.
غابات شبه جزيرة كليبولي ونجادها ووهادها وسواحلها وسهولها، لقد طلت في ربوعك دماء زكية من دماء العثمانيين، ولكنها ستبقى على جبين الأيام مسكية الأريج عطرة بالثناء، تنم عن معرفة من استشهدوا في سبيل الفرض الوطني، وذاقوا معنى الوطن والوطنية، إن الدم الطاهر الذي أريق على تربتك جعل لها ريحًا من ريح الجنة، وسيكون لمن فادوا بها من الذكر الجميل ما كان لأبطال المسلمين في وقائع الصليبيين، وشعار ذلك: هذا عمل أفراد قُتلوا ليُحيوا أمة، وفادوا بنفوسهم في سبيل الله ليحموا ذمار الخلافة المعظمة، ويربئوا بهذا الوطن عن أن يستباح حماه، ويحافظوا بأرواحهم على آخر دولة إسلامية مستقلة، جمعت شمل الإسلام والمسلمين، وحمت حمى الحرمين الشريفين.
كلما هبت الصبا والشمال على أرجاء شبه جزيرة كليبولي، وطلعت عليها الشمس وغربت، وأقمرت السماء وأظلمت وأمطرت وأثلجت، وأرعدت وأبرقت، يردد لسان الحال فيها هذه ثمرة التضامن بين أعضاء البيت الواحد، هنا قضى العربي والتركي والكردي واللازي وغيرهم لإعلاء كلمة الحق، واتقاء عادية الدخيل الثقيل، هنا نظم العثمانيون أرقى جيش انتظم لهم منذ عهد الفاتح وسليم وسليمان وتشبع أهله بروح الوطنية، وغنم غزاتهم أحياء وأمواتًا سعادة الدارين.
أرض شبه جزيرة كليبولي، ستبقين مقدسة في نظر كل مسلم كما قدس الله الأرض المقدسة، وستذكرك الأجيال عقيب الأجيال والدهور أثر الدهور بالإعظام والاحترام، كما تذكر هذه الحرب العامة بالهول والاستغراب، أنت كذبتِ البشر في ادعائهم أن «كل محصور مأخوذ»، وأكدتِ لهم عكس القضية في أن «كل محصور محفوظ»، فسلام عليكِ محاربة ومسالمة، وألف ألف رحمة ورضى على عظام شهداء ضمتها تربتكِ الطيبة، ومروجك السندسية وتلعاتك الزمردية.