على قبر أبي الفدا في حماة١
حنانيك إسماعيل، أجبني، فدتك نفوس الملوك يا عالمهم وعادلهم وسيدهم، كنت في عصرك مثال العمل الصالح، وها أنت لمن بعدك عبرة لمن يعتبر.
زرت قبرك الشريف، وذكرت سيرتك المثلى، فبكيت على الإسلام والعرب، وقابلت بما قرأته على ضريحك بين السذاجة الغالبة عليك، وفخفخة الألقاب بعدك.
قرأت: «هذا ضريح العبد الفقير إلى رحمة ربه الكريم إسماعيل بن علي بن محمود بن محمد بن عمر بن شاهنشاه بن أيوب عمر في شهور سنة سبع وعشرين وسبعمائة»، جملة لا يجوز نقشها اليوم على قبر أحد العامة، فأين أنت منها يا أبا الفدا في مفاخرك وسؤددك، ومجدك التالد والطارف.
حنانيك إسماعيل كنت في حياتك قدوة الملوك العادلين، تعلم الناس حب الخير، وتعلم العلماء فيما توفروا عليه، والفاتحين ما يفاخرون بمعرفته، والحكماء ما هو ثمالة أمجادهم، وها أنت الآن رهين حفرة، قد كاد يُنسى بين قومك ذكرك فلا تبدي ولا تعيد، وقومك نسوا دينهم ودنياهم، فكيف لا ينسون رجالهم.
نشأت أيها السلطان العادل من بيت عز وملك، فلم تأخذ الزخارف بلبك، بل تخرجت في العلم، ورُبيت على أدب النفس وأدب الدرس، حتى جاء منك عالم، بل معلم للعلماء بسيرته وتفننه.
نشأت نشأة عالية في القرون الوسطى، وغيرك من الملوك نشئوا، ولا سيما بعدك نشأة جاهلية: على الخمر والزمر والقمر، لا يعرفون غير القصور، والولدان والحور، وغاية مفاخرهم أنهم يبطشون ولا يبالون، يقتلون ولا يتألمون، يتعاظمون ولا يتواضعون، يقضون فلا يراجعون، يأمرون ولا يعدلون.
أضحت أحكام بعض الملوك بعدك ذوقية، وأعمالهم على الأكثر استبدادية، اتخذوا الإسلام دينًا وهو منهم بريء، وعبثوا بالرخص والعزائم، ليس لهم وازع من أنفسهم، ولا رادع من أممهم، أضحوا جبابرة لا ملوكًا، وشياطين لا إنسًا، وأنعامًا لا يعرفون إلا ما فيه راحتهم، وتوفير قسطهم من اللذائذ والبذخ والنعيم.
كنت أبا الفدا ملكًا بالاسم، وملكًا بالفعل، كنت شريفًا بماضيك وحاضرك، وها أنت إلى يوم الناس هذا وإلى غد وما بعد غد شريف في عامة أحوالك.
لم نعهد لك كما عهدنا للملوك قبلك وبعدك أن عددت الرعية كالسائمة التي تملك، فيتصرف مالكها بدرها ووبرها وجلدها ولحمها، ويعمل مطلقًا في الاستمتاع بما لا ينازعه منازع، بل عهدناك تؤاسي الضعيف، ولا تجور على الفقير، وتحسن للعلماء، وتتفضل على الفقهاء والأدباء والشعراء، وتصرف فضل أوقاتك في التأليف والتصنيف، يا ثاني المأمون بعلمك وعقلك، وثاني صلاح الدين بعدلك وجهادك.
أبا الفدا، إن قومك أغفلوك وسيرتك، بل أهملوا ضريحك، ولو ذكروك لساروا ولو قليلًا على سنتك المحمودة، فعلمت الملوك من بعدك بسيرتك الطاهرة، كما كنت في عصرك خير معلم للملوك العادلين والعلماء العاملين.
أبا الفدا، إن الملوك بعد عصرك جمعوا كثيرًا وأضاعوا كثيرًا، جمعوا فكان ملكك بجانب ما ملكوا جزءًا صغيرًا جدًّا، وما خلفوا إلا ما تحمر وجوههم خجلًا منه، ويأتون في الآخرة، وقد شهدت عليهم لا لهم أعمالهم، وأنت سعدت بمن وُليت عليهم وسعدوا بك، فأبقيت ذكرًا لا تمحوه الأيام.
أنت علمت الخلق بأن القليل مع العقل يستفاد منه أكثر من الجزيل بدونه، وأن وفرة المال والعقار لا تكون من السعادة في شيء، إذا لم تسبقها نفس مهذبة بالآداب والفضيلة، وعقل يُحسن التصرف بما يملك.
من لي بنظرة منك لترى ما حل بالعرب اليوم من التمزيق والتفريق، والفساد في المعاش والمعاد، والجهل المطبق، وضعف العقول، رئم أخلاف من حكمت للمذلة، وخنعوا للاستبداد، وتفرقوا تحت كل كوكب، فرثى لهم الصديق، وشمت بهم العدو، وخانهم الدهر فاستخذوا، وكل ذلك بما فعله سفهاء الأحلام من أمرائهم وعلمائهم إنهم كانوا ظالمين.
قم وانظر، فقد بُدلت الأرض غير الأرض بعد عصرك: اخترع الإفرنج في زماننا البخار والكهرباء، ووفروا مرافق الحياة، وقربوا الأبعاد، وحسنوا العيش، أما قومك فليس لهم من مدنية القرون الأخيرة إلا النظر، وزادوا على جهلهم فسادًا في أخلاقهم، بحيث لم يبق لهم من المجد إلا أن يعودوا إلى صحيفة أجدادهم، ويفاخروا بما تم على أيدي أمثالك، كالقرعاء تفخر بشعر أمها، أو العجوز الشوهاء لا تفتأ تذكر ماضي شبابها.
قالوا: إن نظام الحكومات بعد أيامك ارتقى، وأنكم كنتم في عصر تقل فيه القوانين الوضعية، وكان أكثر العمل بالقوانين السماوية، فمن لنا بعصرك، فإن القوانين الوضعية ارتقت، ولكن عند غيرنا من أهل الغرب، والقوانين السماوية أعرضنا عنها إلا قليلًا، فلم نحسن تقليد المقننين المحدثين، ولا احتفظنا بتراث الأقدمين، فكنا كالعقعق أراد أن يمشي كالحجل، فنسي مشيته ولم يمش مثله، بل كنا من الأخسرين أعمالًا.
ألا عطفة من نظراتك الرشيدة أيها الكريم، تنظر أمتك الآن إلى الانقراض أقرب منها إلى البقاء: كل يوم تصغر رقعة بلادها، ويتحيفها الخراب، وينقصها من أطرافها، تحاول تقليد الراقين من الأمم، فلا نراها تستطيع إلَّا تقليدها في الموبقات والشرور، لا في مقومات الحضارة وأساليب النهوض.
رحماك أبا الفدا، إن أمثالك أنفقوا أموالهم وأموال الأمة في شهواتهم على المغنين والمغنيات، والكواعب الغانيات، وأنت أنفقتها على العلم والعلماء، إنهم إذا كانوا جهلة أغبياء فقد كنت العالم المؤرخ الجغرافي الطبيب الحكيم الفلكي، ومصنفاتك شاهدة لك على غابر الدهر، بأنك عالم الملوك وملك العلماء، خلد أضرابك بسيرتهم صيت بطش وفتك، وقطع وقت في العبث، وأنت أقمت نصاب العدل على من وُليت أمرهم، فكانت أيامك رياض الأزمنة وبهجة العصور، فجزاك الله عن أمتك أجزل ما يجازي ملكًا صالحًا عن رعيته، وعالمًا عاملًا يخدم الناس بعمله وفضيلته. ا.ﻫ.