التمدن الأنثوي١
هذا ما وصف به الرافعي شباننا، وكلامه يصدق على بعض من يتأنقون في الزينة، فيصففون شعورهم، ويحففون خدودهم، ويفتلون سبلاتهم، وينغمون بأصواتهم، وربما مزجوا كلامهم ببعض الألفاظ الإفرنجية، ويختارون من الألبسة آخر زي من صدرة ملونة مخرمة، صنعت من القطيفة المزركشة، وسترة مشقوقة وسروايل ضيقة، وخاتم ماس في اليد، وعصا عقافتها من الذهب، وحذاء ملونًا ملمعًا، وطربوشًا مقرنًا مكويًّا، وبالجملة كل ما فيه ظاهر مموه، ممن تراهم إذا جمعك بهم الاتفاق وقد عبقت منهم رائحة الطيوب والعطور، وقد حرصوا على الأزياء حرصهم على أعز الأشياء.
التطيب والتزين والتجمل باللباس الجيد الجديد حسن في ذاته مباح عقلًا وشرعًا، أُحل لنا كما أحلت الطيبات، ولكن إذا جاوز صاحبه فيه الحد كان أجدر بربات الحجال منه بالرجال؛ لأنه مشغلة عن ارتياد الفضائل والسعي في سبيل الكمال الحقيقي، وناهيك بأن من شبابنا من يصرفون ساعتين كل يوم في التبرج «التوالت»، كأنهن بعض النساء يتزين لبعولتهن.
وهذا مما يسجل علينا ضعف النظر في كل ما اقتبسناه من عادات الغربيين، فقد اقتدينا بسرف المسرفين منهم، ولم نهتد بهدي أهل القصد والاقتصاد، وجاريناهم في التبرج والتزين بعد أن كانا غير معهودَين في الشرق إلا للمخنثين، وشايعناهم على تعاطي المسكر والميسر، فأضعنا آدابنا وديننا طمعًا في إحراز هذا التمدن الذي لا يقوم بزعمنا إلا بالانسلاخ من وطنيتنا وعاداتنا المستحسنة، واقتباس كل عادة تأتينا من طريق الإفرنج.
أخذنا عاداتهم بل عادات السفلة والشعوب النازلة منهم بيننا، وليتنا لما أخذنا ما أخذنا ميزنا بين الصحيح والزيوف، والضعيف والمضعوف، والشريف والمشروف.
عميت علينا السبل، فلم نقتد بأمثل من جعلناهم قدوتنا في حياتنا، بل مددنا اليد إلى ما وجدناه عرضًا، فلم نسقط إلا على الملوث القذر من العادات والأخلاق.
أكثرنا من الإسراف في الملبس مثلًا، حتى نسينا كل نسبة بين الدخل والخرج، فإمبراطورة ألمانيا في أوروبا، وهي من جلال المكانة ما هي لا تستنكف أن تدير ألبسة كبار أولادها لصغارهم عندما تضيق عنهم حتى لا تطرح شيئًا جزافًا، وهو مما يحسن الانتفاع به، والرجل منا قد يصرف على لباسه ربع دخله فيستلف ويمطل ويهون عليه ما يأتي ولو باع الطين ورهن العقار ليلبس كل أسبوع بل كل يوم بذلة جديدة كأنه من نساء الأغنياء في نيويورك، لا يهدأ له بال إلا أن يظهر غناه ليصدق عليه قولهم في الأمثال: «أبت الدراهم إلا أن تخرج أعناقها.»
ماذا يقول الكاتب عن مغالاة بعض شبابنا في الزينة، وإغراقهم في السرف والترف، وما تجلببوا به من عادات لا تلائم الشرق وفقره ودينه، والغرب يشكو من بقائها بين ظهراني أبنائه إلى اليوم، ويتمنى لو نزعت آخر جرثومة منها عنده لتكون له مدنية تامة كاملة، وحضارة رجولية لا نسائية.
هم يفكرون ويكتبون وينصحون، ونحن تركنا حبل آدابنا على غواربنا، ولا نبالي بما يدخل علينا من غرائبها وسخائفها، ولكن القوم في أوروبا على ما بلغوه من أسباب التقدم مما نغبطهم على أكثره لم يفتئوا يحاربون نقصهم، ويسعون إلى كمالهم، ونحن نحارب كمالنا، ونسعى إلى نقصنا.
أكتب هذا وأمامي مبحث جليل لأحد علماء التربية في فرنسا، نشره بمناسبة قيام اثنتي عشرة ألف معلمة مؤخرًا في نيويورك، يطالبن حكومتها بأن تنصفهن في الرواتب كما تنصف المعلمين؛ لأنهن يقمن بمثل هذه الأعمال التي يقوم بها الرجال في التربية والتعليم، فاضطرت الحكومة إلى إجابتهن إلى مطالبهن، وزادت ميزانيتها ثلاثة ملايين دولار عن مدينة نيويورك وحدها.
قال: إن تسليم مقاليد التربية للنساء دون الرجال مما يؤخر؛ لأن حب التجمل ينغرس في الصبيان كما لاحظت ذلك اللجنة المؤلَّفة من مئات من أساتذة الإنكليز، الذين انتدبهم المستر موسلي أحد أغنيائهم منذ بضع سنين للبحث عن طريقة التربية في الولايات المتحدة، فكتبوا في ذلك تقريرًا قالوا فيه: إن من تأثير تربية المعلمات قلة أخلاق الرجولية في الأمة الأميركانية. ولم تكن ملاحظة هذه اللجنة الأولى من نوعها، بل إن غير الأميركيين كثيرًا ما كانوا يدهشون مما يبدو لأنظارهم من هذا القبيل في أميركا، ولكن القول يغلو على قدر قائله، ومكانة لجنة ولسلي بمن تألفت منهم.
قال: وكيف لا تحكم هذه اللجنة على الأميركان، ورجالهم يعنون من وراء الغاية في المحافظة على الست والثلاثين ألف قاعدة في مصطلحات التمدن (الإتيكيت)، فيبالغون في التأنق بلباسهم مبالغة مفرطة، ويدققون كل التدقيق في القيام بأقل ما تقتضيه سنة الأزياء، ويرققون ألفاظهم ترقيقًا يقربها أبدًا من التكلف، ولا يُنسب ذلك إلا لتسليم مقاليد التربية للمرأة، ولو استطاع المرء أن يكون تامًّا في هذا المعنى لما كان في ذلك بأس، بل قد يحدث كثيرًا أن المبالغة في التزيي والمنافسة في الحصول على صفات الظرف الذي لم تجعله الطبيعة من خصائصه تعبث بمروءته، قال: ومن سوء أثر هذه التربية في الأميركان أن الرجل يرى في نفسه أحط من المرأة مهما تصنع لها، ويرى من كرمها أنها تعطف عليه، وهكذا حتى أصبح المجتمع الأميركي أنثويًّا، فيه من ضروب التكلف والغرابة أشكال وألوان. ا.ﻫ.
هذا ما قاله كبير من كبار علماء التربية في الحكم على التربية الأميركية، فإذا جاء فوصف تربيتنا، فأي حكم يُصدر علينا يا ترى؟! تلك التربية الملفقة التي ورثناها من مربية رومية، أو فتاة طليانية، أو جارية زنجية، أو كرجية، أو بربري ذي زبيبة، أو ماجن ذي أطوار غريبة.
إن قالت لجنة ولسلي بأن التمدن الأميركي أصبح أنثويًّا، فماذا تقول لو رحلت إلينا، وحكمت علينا بدون مشايعة لغرض سياسي، ولا بدافع هوى نفسي، لا جرم أنها تقول ما قاله شاعرنا الرافعي: