المستشرقون ومؤتمرهم١
الاستشراق أو علم المشرقيات هو كما عرَّفه لاروس علم من العلوم الحديثة ودائرته الحالية واسعة، فإذا نظرنا إلى الألفاظ من حيث مفهومها، نرى أن التعبير عن اللغات الشرقية لا يتناول غير اللهجات التي يُتكلم بها في شرقي أوروبا، أي في آسيا وفي جزء من أفريقيا المتصل بآسيا، ولكن لفظ الاستشراق يُطلق اليوم بتجوز على لغات أميركا وأفريقيا الجنوبية والبلاد الشمالية وآدابها وأخلاق سكانها، فترى اللغة اليونانية الحديثة واللغة الرومانية والروسية تُدرس في مدرسة اللغات الشرقية الحية في باريز كما تُدرس لغات الشرق أي العربية والفارسية والتركية والصينية واليابانية والهندستانية والعبرانية والسريانية والحبشية والقبطية والأمحرية، بل إن اللغة المجرية نفسها بالنظر لعلاقتها باللغة التركية والمغولية تُدرس هناك كما تُدرس اللغات الشرقية.
لم يدخل علم المشرقيات في أسلوب علمي إلا في القرن التاسع عشر، وقد كان اليونان واللاتينيون يدعون اللغات الشرقية التي كانوا يعرفونها (كالفارسية والفينيقية وغيرهما) لغة البربر ولذا يهملون دراستها، وشاعت في القرون الوسطى لغتان فقط من لغات الشرق بين العلماء، وهما اللغة العبرية التي كانت تُعتبر لغة الإنسانية الأصلية، واللغة العربية التي كانت مهمة لكثرة البشر الذين يتكلمون بها ولشهرة فلاسفة الإسلام أمثال ابن رشد وابن سينا؛ ولذلك أنشئ في باريز منذ أواسط القرن الثالث عشر للميلاد درس عام لتدريس اللغة العربية.
ثم إن المذهب البرتستانتي توخى البحث عن النص الأصلي للتوراة، فحمل أشياعه على درس العبرية والكلدانية والسريانية، وأنشأ بعد ذلك البابا غريغوريوس الثالث عشر وأوربانوس الثامن دروسًا لتعليم اللهجات الشرقية بالعمل ليستفيد منها المبشرون بالنصرانية، وفي سنة ١٦٢٧ أنشئت مدرسة انتشار الإيمان، وطفق المبشرون منذ ذاك العهد يأتون بالآثار النفيسة لخدمة الدروس الشرقية، ونشر اليسوعيون في القرن الثامن عشر في العالم الغربي مدنية الصين واليابان ولغتيهما، وأنشأ الوزير كولبر في فرنسا مدرسة الشبان؛ لتعليم اللغات قاصدًا بها تخريج تراجمة تستخدمهم حكومتهم في الشرق، وأنشئوا يدرسون اللغة الفارسية والتركية، وانتشرت القصص والحكايات الشرقية أمثال قصة ألف ليلة وليلة، والرسائل الفارسية وغيرها، ثم إن فتح فرنسا وإنكلترا للهند قد دعا إلى اكتشاف اللغة السنسكريتية.
وبعد نحو عشر سنين تأسست طريقة نحو المقابلة، فدخل درس اللغات في طور جديد حسن الأساليب، وفي الجزء الأخير من القرن الثامن عشر اكتشف أنكتيل دوبرون اللغة الزندية والبهلوية، وكان من حملة بونابرت على مصر (١٧٩٨-١٧٩٩) أن بدأ بها دور السياحات العلمية الكبرى، التي اشتهر بها القرن التاسع عشر، وجيء إلى أوروبا من مدينة رشيد في مصر بالحجر المشهور، وكان حل خطه مبدأ درس الآثار المصرية، وانحلت لغات دثرت منذ ألوف من السنين كاللغة الآشورية، وشرعت الحكومات تنفق على البعثات العلمية، وتؤسس دروسًا لتعلم تلك الأبحاث واللغات، فترى فرنسا تُعلِّم اللغات الشرقية الحية في مدرسة خاصة لذلك، كما أن للغات الشرقية القديمة دروسًا في كوليج دي فرانس «مدرسة فرنسا»، وكذلك في مدرسة الدروس العليا في الكليات. ومن أعظم العلماء الذين ساعدوا على الاستشراق في القرن التاسع عشر شامبوليون «في الآثار المصرية» وأبوبرت ولفورمان وراولنسون وهنكس «في الآثار الآشورية» وبورنوف وجايمس دار مستتر وموللر ولاسن «في الآثار الهندية» وسانيسلاس جولين «في الآثار الصينية».
وكانت رغبة الأوروبيين أولًا في تعلم اللغات الشرقية عن باعث ديني، فقد قضى مجمع فينا سنة ١٣١١م (المقتبس م٧ ص٦٩٥)، وكان برئاسة إكلمنتس الخامس أن تؤسس في باريز وأكسفورد وبولون وصلمنكة دروس عربية وعبرانية وكلدانية؛ لتخريج وعاظ وأهل جدل أشداء؛ لتنصير المسلمين واليهود، وأنشأ الفرنسيسكانيون والدومينيكانيون من الرهبنات الكبرى في أديارهم دروسًا في هذه اللغات، فأصبحت إيطاليا مهد حركة نجحت في المشرقيات، وأخذوا بنوع خاص يدرسون العبرية؛ للتعمق في فهم أسرار التوراة وتنصير اليهود، واللغة العربية لتنصير المسلمين، يأخذون العبرية عن أعلم العلماء الربانيين، والعربية عن أناس من المسلمين أو من السوريين الموارنة أمثال بني السمعاني، ومن مدارس إيطاليا نشأ العلماء الأُوَل في اللغات القبطية والحبشية والأمحرية، ولكن دراسة اللغة العربية بقيت الحاكمة المتحكمة في شبه جزيرة إيطاليا، فكان يُنظر إلى تعلمها أنه من الحاجات الماسة لكل تجار المدن البحرية كالبندقية وجنوة ونابل وبيزا، وظلت اللغة العربية مألوفة في عدة أماكن من إيطاليا الجنوبية عقيب احتلال العرب صقلية، فكانت في بلاط ملوك تلك الأصقاع لغة العلم العالي والشعر والأدب.
كانت رومية أول مدينة في العالم طُبع فيها كتاب عربي عقيب اختراع الطباعة وهو قانون ابن سينا، وظلت حركة المشرقيات تختلف ضعفًا وقوة في بلاد الطليان بحسب الحكومات وهمم الأفراد والمقصد الأصلي ديني والعلميات بالعرض، وكان لأسرة ميديسيس فضل على الآداب العربية، كما لها فضل على الشعر والموسيقى والتصوير والهندسة.
وفي أواسط القرن الثامن عشر لما أخذت أوروبا تتحفز لاستعمار الشرق، أخذ علماؤها يبحثون في تأليف جمعيات لهذه الغاية، فأنشئت جمعية العلوم والفنون في جاوة (١٧٧٨)، والجمعية الآسياوية في البنغال (١٧٨٤)، والجمعية الآسياوية في بومباي (١٨٠٥)، وأنشئت منذ ذاك العهد في أوروبا وأميركا عدة جمعيات للمستشرقين، وأقدمها عهدًا الجمعية الآسياوية في باريز التي أُسست سنة ١٨٢٢ بمعرفة شيخ المستشرقين من الفرنسيس سلفسترودي ساسي، وهو أعظم من خدم اللغة العربية من الأوروبيين والفرنسيس خاصة، وربما كان أعظم مستشرق نبغ ونفع (راجع كتابنا غرائب الغرب)، فأنشأت هذه الجمعية المجلة الآسياوية، وهي خاصة بلغات الشرق وتاريخه وعلومه وآثاره، تصدر مرة كل شهرين، فيتألف منها مجلدان كل سنة، ومن حواها فكأنما حوى أعظم مكتبة في هذه الأبحاث الجليلة.
تخرج في مدرسة اللغات الحية في باريز كثير من مستشرقي الفرنسيس والألمان والطليان والسويسريين، وأنشأت معظم عواصم أوروبا مدارس على مثالها، وإن سبقت هولاندة، فكانت أول من أسس جمعية شرقية في باتافيا كما تقدم سنة ١٧٧٨، وكانت مطبعة ليدن الشرقية أقدم مطبعة طبعت الأمهات من كتب المشارقة والعرب منهم خاصة، وذلك منذ زهاء ثلاثمائة سنة.
أنشأ المستشرقون عدة جمعيات في أوروبا، وأسسوا عدة مطابع شرقية، وطبعوا بها ألوفًا من كتب الشرق ولا سيما اللغة العربية، فإن ما طبع من أمهاتها عندهم هو القسم المهم من كتبنا العلمية والتاريخية والأدبية، وما زالت الكتب التي طبعتها مطابع باريز وأكسفورد ولندن وليدن وغوتنغن وليبسيك ورومية ومجريط وغيرها من حواضر العلم والمدنية في أوروبا باللغات العربية هي المفخر الذي يحق لمدنية القرن التاسع عشر والعشرين في ديار الغرب أن تباهي به الأعصار والأمصار.
وما برحت أسماء دي ساسي ووستنفيلد وفلوغل وريسك وبوركهار وكارليل وكاترمير ودي سلان وغوليوس وشولتنس وأربنيوس وهيتسما وشيد ودي بومباي ونيبوهر وزوزاريو وكولنبرك وجنستون وستونتن وفين وهوغتن وهامر ورازموسن وفلمت وبيبر ودي روسي وإيفلد وغابلنتس وروديغر وسيدليو وكوسان دي برسفال وجوبرت وروزنمولر وكلابروت وهابخت وبولس وفراهن ومهرن وهماكر وفرينل ودي لاغرانج ودي فرجه ورينو ومونك وبرنيه وكمباريل وبرون وموله وكازميرسكي ووفريتاغ وكسغارتن ووابك وبرنستين وأرنلد ووتستشتين وفتزر وفولف وهاربوكر وبورغستال وجوينبول وروردا وفايرس وكورتون وتاسوليس وجونس وغوتوالد وكولسون وكريستيانوفتش وخانيكوف وكاينكوس وكودرا وموهل وبلن ودي تاسي وسولسي وإيفلد وديمانج وشرموا وبوتجانوف وبولديراف وسيانكوفسكي وسافلياف وغريغورياف وبافسكي ونفروتسكي وبرازين وسبنرجر وتورنبرغ وخانيكوف ودوزي ووريخت، ما برحت أسماء هؤلاء الرجال تُذكِّر بالحمد، ويُطلب لها ثواب عملها.
وقد اعتاد المشتغلون بالمشرقيات منذ سنة ١٨٧٣ أن يعقدوا مؤتمرًا لهم، يحضره جلة منهم، ويكون مقره في إحدى العواصم المشهورة، وتنتدب الحكومات من يمثلها في تلك المؤتمرات، فتتلى فيها الخطب المفيدة والمحاضرات التي تنم عن فضل بحث ودرس في لغات الشرق وعلومه وتاريخه واجتماعه، ويتنافس أئمة هذا الشأن في هذا السبيل المحمود، وكانت الحكومة العثمانية والحكومة المصرية تنتدب أناسًا يمثلونها في المؤتمرات التي عُقدت حتى الآن، وكان بعضهم من العلماء والأدباء.
وقد عُقد المؤتمر الأول سنة ١٨٧٣ في باريز، والثاني سنة ١٨٧٦ في لندن، والثالث سنة ١٨٧٧ في بطرسبرج، والرابع سنة ١٨٧٨ في فلورنسة، والخامس سنة ١٨٨١ في برلين، والسادس سنة ١٨٨٣ في ليدن، والسابع سنة ١٨٨٦ في فينا، والثامن سنة ١٨٨٩ في أستوكهلم، والتاسع سنة ١٨٩٢ في لندرا، والعاشر سنة ١٨٩٤ في جنيف، والحادي عشر سنة ١٨٩٧ في باريز، والثاني عشر سنة ١٨٩٩ في رومية، والثالث عشر سنة ١٩٠٢ في هامبورغ، والرابع عشر سنة ١٩٠٥ في الجزائر، والخامس عشر سنة ١٩٠٩ في كوبنهاغ، والسادس عشر سنة ١٩١٢ في أثينة، ويُعقد السابع عشر سنة ١٩١٥ في أكسفورد.
وسيكون هذا المؤتمر برئاسة رئيس كلية أكسفورد، وعُهد برئاسة اللجنة المنظِّمة إلى الأستاذ مكدونلد، واللجنة العامة مؤلفة من أساتذة اللغات الشرقية، أو من مدارس الدروس الشرقية في كليات إبردين وبريستول وكمبردج ودوبلين وأديمبرغ وغلاسكو وليفربول ولندرا ومنشستر ووسانت أندري وبلاد الغال في بريطانيا العظمى، ومن لجان الجمعيات العلمية الإنكليزية مثل الجمعية الأفريقيا، والجمعية التوراتية الأثرية، والجمعية البوذية، وجمعية آسيا الوسطى، والجمعية الصينية، وجمعية آثار مصر، والجمعية اليابانية، وجمعية الأبحاث الفلسطينية، والجمعية الفارسية، والجمعية الآسياوية الملكية وغيرها، وستبدأ مداولات المؤتمر يوم ١٣ أيلول ١٩١٥ وتنتهي ١٨ منه، وستكون أبحاثه في علم تعريف الإنسان والآثار، وفي علم الآثار الآشورية، وفي آثار آسيا الوسطى والشرق الأقصى ومصر وأفريقيا والهند واللغات والآداب الإسلامية، وفي اللغات السامية والآداب السامية، وفي آسيا الغربية وإيران، وتكون اللغة التي يجوز استخدامها الإنكليزية أو الإفرنسية أو الألمانية أو الإيطالية، ومن أراد أن يتكلم بلغة غير هذه وجب عليه أن يطلب الترخيص له بذلك من رئيس اللجنة التي هو أحد أعضائها، أو يريد التكلم فيها.
هذا ما نشرناه في المجلد الثامن من مجلة المقتبس، بيد أن الحرب العالمية نشأت ولم يُعقد المؤتمر فيما نظن، وعَقد علماء المشرقيات من الألمان وَمَنْ وَالَاهُم من النمساويين والهولنديين والسكانديناويين مؤتمراتهم بعد الهدنة في مدينة ليبسيك لم تحضره أعضاء الخلفاء من الإنكليز والفرنسيس وغيرهم، وكانت السياسة مانعة من اجتماع العلماء فقبحت السياسة.