الألقاب العلمية١
ليس في الأيدي مستند يُركن إليه في تاريخ حدوث الألقاب العلمية في الملة الإسلامية، والظاهر أنها حدثت في النصف الأخير من عهد بني العباس، وشاعت وتأصلت زمن ملوك الطوائف، ثم على عهد الدولتين الجركسية والعثمانية في هذه الديار أيام أصبح العلم عبارة عن رسوم، والعلماء هم الذين يقر بهم الملوك والحكام، ولو كانوا أجهل من قاضي جبل، بل أصبح أمر الألقاب أقرب إلى الهزل منه إلى الجد، فصارت جملة «أعلم العلماء المحققين» تُطلق على كل صعلوك نال منصبه في القضاء أو الإفتاء أو التدريس بالشفاعة أو القرابة أو الإرث؛ لأن العلم في الثلاثة القرون الأخيرة أصبح يورَّث كما يورَّث الماعون والخرثي والعقار والمزرعة.
نعم، غدت الألقاب العلمية التي لم تُطلق على أبي حامد الغزالي، وأبي عمرو الجاحظ، وأبي الوليد بن رشد، وأبي النصر الفارابي إلا بشق الأنفس تُطلق على من يحتاجون أن يرجعوا إلى الكتاب، بل على عامة ليس لهم من أدوات العلم إلا أنهم اعتموا بالبياض، ولبسوا الجبة على الزي المتعارف لهم.
كان يقال لجبير بن زهير الحضرمي: «عالم أهل الشام»، وللخليل بن أحمد «علامة البصرة»، ولمالك بن أنس «إمام دار الهجرة»، ولعبد الله بن عباس «رباني هذه الأمة»، أما اليوم فإن ألفاظ عالم وعلامة وإمام تُطلق على الممخرقين والمتنطعين الذين لم ينفعوا الأمة بشيء، فقد كان يُلقب بالعلامة الأول قطب الدين الشيرازي، كما يُطلق لقب العلامة الثاني على سعد الدين التفتازاني على نحو ما أُطلق على أرسطو لقب المعلم الأول، وعلى الفارابي لقب المعلم الثاني.
تشدد القوم في إطلاق ألقاب التفخيم حتى على العلماء صيانة لألقابهم من الابتذال، فرأينا العصام في حاشيته علي الجامي لا يوافق الجامي بإطلاقه على ابن الحاجب لفظ «العلامة المشتهر في المشارق والمغارب»، فقال: إن في وصف ابن الحاجب بالعلامة نظرًا؛ لأن هذا اللفظ إنما يناسب فيما بين العلماء من جمع جميع أقسام العلوم كما هو حقه من العلوم العقلية والنقلية، وليس ابن الحاجب إلا من العلماء في العلوم النقلية؛ ولذا خُص من بين العلماء قطب الملة والدين والشيرازي بالعلامة، حيث سبق العلماء كلهم في جميع أقسام العلوم.
هكذا كان أدب سلفنا، أما اليوم فقد استرسل عُباد المظاهر في هذا الشأن، فسموا إلى تلك الألقاب الشريفة التي لم يجوزوا إطلاقها على مثل ابن الحاجب الإمام المحقق في فنه، وبلغت الحال ببعضهم أن صاروا يكتبونها بأيديهم عن أنفسهم كأن العلامية والعالمية والإمامية لا تثبت في الأذهان إلا بمثل هذا العمل.
وعندنا أن الأحرى بمن تدور معارفه على الفقه وحده أن يسمى فقيهًا إن كان ممن برزوا حقيقةً في أصوله وفروعه، ومن اقتصر على الأصول وحده أن يسمى أصوليًّا، ومن غلب عليه علم الحديث أن يقال عنه حديثيًّا، وإلا فإن كلمة عالم لا تقال إلا لمن يعمل بما يعلم كما قال بعضهم، وإن شئت فقل لمن يظهر فيه أثره، ويمتزج بأجزاء نفسه أي امتزاج، قال ابن جني: لما كان العلم قد يكون الوصف به بعد المزاولة له وطول الملابسة صار كأنه غريزة، ولم يكن على أول دخوله فيه، ولو كان كذلك لكان متعلمًا لا عالمًا.
جرت على هذه القاعدة الأمم الراقية قديمًا وأمم المدنية الحديثة لعهدنا، فلم يُطلق على سقراط وأفلاطون وأرسطو الفلاسفة ألقاب العلماء في بلاد اليونان إلا بعد أن قضى كل منهم سنين في التعلم وسنين في التعليم، وهكذا رأينا الأمم الحديثة لم تطلِق على نيوتن وهكسلي وكونت وكانت وكيتي اسم عالم إلا بعد أن درسوا الدروس النظامية كلها، وبرزوا على رجال عصرهم بفنون مخصوصة أبرزوا فيها آثار علمهم وأثروا في محيطهم.
ومن عجيب الأخلاق أن من ينتسبون لشيء من علوم الدين في عهدنا يعز عليهم إلا أن تبقى ألفاظ العالم والمحقق والعلامة محصورة بأهل طبقتهم، كأن من يعلم الهندسة أو الطب أو الحقوق أو الصحافة أو السياسة لا يستحق أن يُعد في العالمين، ولو أيدت علمه أمثلة كثيرة، يريدون أن تبقى هذه الألفاظ لهم، وكذلك بعض المشتغلين بهذه العلوم الدنيوية، يعز عليهم أن يطلقوا الألقاب العلمية على من لا يعلمون علومهم، في حين رأينا صاحب إرشاد القاصد وصاحب كشف الظنون عدَّا العلوم كلها دينية ودنيوية، وسمياها كلها علومًا حتى السحر والطلسمات والشعبذة، فذكر الأول من أنواعها مائة نوع والثاني مائة وخمسين نوعًا.
وغريب كيف أخرج بعضهم في القديم إسحاق بن إبراهيم الموصلي من سلك الفقهاء، وكان أحرى أن يُعد بينهم؛ لأنه يلحن الأنغام، ويخترع ضروب الغناء، ويشتغل بآلات الطرب مع أنه ليس دون علماء عصره بعلومهم، ولكن غلب عليه الغناء فعدوه في الندماء، كما غلب الشعر على بعضهم فعدوه في الشعراء أمثال أبي نواس، وما هو في الحقيقة إلا من كبار علماء العربية.
وإنا إذا استقرينا التاريخ على اختلاف العصور نجد أن المنصفين من المؤرخين يذكرون العالمين بغير العلوم الدينية كما يذكرون علماء الدين؛ لأنهم كلهم أعضاء نافعون في المجتمع، فقد كان خالد بن يزيد الأموي من أهل القرن الأول عالم قريش بالكيمياء والطب بصيرًا بهذين العلمين، وكان أبو الفضل الحارثي من أهل القرن الخامس عالمًا بالهندسة والفلك والحساب والتقسيمات والهيئة ونقش الرخام وضرب الخيط والطب، ومحمد القيسراني من أهل القرن الخامس أيضًا عالمًا بالمساحة والميقات والفلك، ورضوان الخراساني من أهله أيضًا عالمًا بالرياضيات، وأبو المجد ابن أبي الحكم من أهل السادس عالمًا بالطب والهندسة والنجوم والموسيقى والعدد والغناء والإيقاع والزمر وسائر الآلات، عمل أرغنًا وبالغ في إتقانه، وكان ابن الصلاح من أهل السادس عالمًا بالحكمة متميزًا بالطب، وموفق الدين بن المطران من السادس عالمًا بالطب والفلسفة، وابن المؤيد العرضي ورفيع الدين الجيلي وعز الدين الأربلي من أهل السابع علماء بالفلسفة والرياضيات.
وهكذا لو استقصينا كتب التراجم لعثرنا من أسماء المشتغلين بغير العلوم الدينية على سلسلة طويلة، وكلهم أُطلق عليهم اسم العالم والمحقق والإمام والعلامة على رغم أنوف المكابرين، وذكرتهم الأعصار بآثارهم أكثر ممن جعلوا مناصب الدين وألقابه سببًا إلى الدنيا ونيل الحظوة من العامة، والزلفى من السلاطين والأمراء، وقد رأينا بعض المشتغلين بعلوم الشريعة لعهدنا يتخلصون من إطلاق لفظ عالم، وعلامة على من لم يتزي بزيهم الخاص بأن يطلقوا عليه اسم الكاتب، على أن لفظة كاتب التي يحتقرونها قل في المعدودين من يستحقها، قال ضياء الدين بن الأثير في المثل السائر: ينبغي للكاتب أن يتعلق بكل علم، حتى قيل: كل ذي علم يسوغ له أن ينسب نفسه إليه، فيقال: فلان النحوي وفلان الفقيه وفلان المتكلم، ولا يسوغ له أن ينسب نفسه إلى الكتابة، فيقول فلان الكاتب، وذلك لما يفتقر إليه من الخوض في كل فن. ا.ﻫ.
وهذا التحكم البارد في الحط ممن أخصوا في بعض الفنون التي يجهلها أكثر المتعممين، ولا يعدونها علمًا في نظرهم تخرج كثيرًا من الأئمة من عداد العلماء بحسب عرفهم، ممن لم تكن الكتابة إلا من جملة ما يعلمون أمثال الجاحظ، فإنه بحسب عرفهم كاتب فقط؛ لأنه مجيد في الإنشاء للغاية، وكذلك القاضي الفاضل وابن خلدون وابن فضل الله وأبو الفدا وغيرهم من مشاهير العلماء الذين كانوا أئمة في الإنشاء؛ هذا لأن أولئك الأعلام لم يؤلفوا أو لم يريدوا أن يؤلفوا في الفقه والأصول والكلام والحديث، على حين ورد في الكتاب العزيز: يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فأطلق تعالى عليهم لفظ علماء، وجاء فيه: وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ، قال الراغب: إن هذا تنبيه منه تعالى على تفاوت منازل العلوم وتفاوت أربابها.
ولقد شاهدنا ما يُضحك من تحكم بعض أرباب الصحف السيارة في الألقاب العلمية، حتى آل الأمر ببعض الفضلاء أن يستنكفوا من ذكر أسمائهم بين أناس لا يلحقون غبارهم بحال؛ لأن منشئ كل صحيفة يعطي من الألقاب لمن يحبه ما يستحي العاقل من إطلاقه على أفضل أهل العصر، ويمنع ذلك عن المستحق، يريد بذلك إسقاطه، حتى قال بعضهم: من العلامة ألَّا تكون للمرء علامة، فما دامت لفظة علامة تُطلق على المغفلين من الطلبة، فأجدر بمن يستحقون هذه اللفظة أن يزهدوا فيها، وهكذا لفظ «الأستاذ» و«المعلم» و«الفاضل»، وهذه اللفظة اليوم تُطلق على تسعة أعشار من يقرءون ويكتبون.
وبعد، فإن سلسلة الارتقاء وسلسلة الانحطاط نمط واحد، يتبع بعضها بعضًا في كل أمة، والتغالي في الألقاب من جملة تعلُّق الأمة، بل من يُطلق عليهم الخاصة منها بالقشور دون اللباب، وما أجدر أرباب الصحف والمجلات أن يتخلوا عن هذه الألقاب التي لا ميزان لها ولا مقياس، وأن يذكروا الأسماء مجردة كما هو اصطلاح الأمم الراقية كالإنكليز والأميركان والفرنسيس والألمان، بل كما كان اصطلاح أجدادنا العرب صدر الإسلام، والجديرون بالوصف تنم أوصافهم عنهم من مثل التعليم زمنًا، وتخريج طلبة راقين، أو الإجادة في التأليف، وغير ذلك من سمات الفضل والعلم، قال المقدسي: إن مراتب السادات مثل جليل وفاضل رسم الرسائل لا رسم التصانيف، والجرائد والمجلات كالكتب لا تخرج عن حد التأليف في صورة أخرى؛ ولذا وجب أن تعرى من ألفاظ التمجيد، ولا سيما إطلاق الألقاب العلمية على من تذكرهم؛ لأن في ذلك تضليلًا للعقول واستهزاء بمقادير أهل الأقدار.