التمييز في الألبسة١
ليس أغرب من هذا الشرق ترى فيه الاختلاف في الأفكار، كما تراه في الأديان، بل تراه في اختلاف الهواء والماء، وقد وُفق الغرب إلى توحيد ألبسة أهله في القرون الأخيرة، أما الشرق فلم يزل بتخالفه في ذلك على نحو ما كان عليه في القرون الوسطى قرون الظلم والهمجية.
اختلاف المشارقة في ألبستهم قديم، فقد كان للقضاة وللأجناد وللعلماء والعامة ألبسة خاصة بهم، بل كان اللباس تابعًا للأقاليم، فابن الحجاز يلبس ما لا يلبسه ابن الشام، وهكذا تجد لو طفت الأقاليم ودرست المدنيات.
وكان لأهل الذمة في الإسلام لباس خاص بهم، وهو من التحكمات السياسية التي دعا إليها العرف لا الدين، وليس في الدين ما يدل على تمييز المسلمين بلباس خاص، فقد اشترط الخليفة الثاني في كتاب الجزية الذي كتبه لأهل الذمة أن يؤخذوا بلبس الغيار وهو علامة لهم كالزنار ونحوه، ولما تبسط الفاتحون في مناحي السلطان كان من جملة واجبات المحتسب، كما في نهاية الرتبة في الحسبة أن يأخذ الذميين بلبسهم، فإن كان يهوديًّا عمل على كتفه خيطًا أحمر أو أصفر، وإن كان نصرانيًّا عمل في وسطه زنارًا أو علق في حلقه صليبًا، وإن كانت امرأة لبست خفين، أحدهما أبيض والآخر أسود، وإذا عبر الذمي إلى الحمام ينبغي أن يكون في حلقه صليب، أو طوق من حديد أو نحاس أو رصاص ليختبر عن غيره.
وفي كتاب الخراج لأبي يوسف ألَّا يترك أحد منهم يتشبه بالمسلمين في لباسه ولا في مركبه ولا في هيئته، ويؤخذوا بأن يجعلوا في أوساطهم الزنارات مثل الخيط الغليظ، يعقده في وسطه كل واحد منهم، وبأن تكون قلانسهم مضربة، قال: وإن عمر بن الخطاب أمر عماله أن يأخذوا أهل الذمة بهذا الزي؛ أي إن تكون قلانسهم طوالًا مضربة، وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه كتب إلى عامل له، فلا يلبس نصراني قباء ولا ثوب خز ولا عصب، وقد ذكر لي أن كثيرًا من قبلك من النصارى قد راجعوا لبس العمائم وتركوا المناطق على أوساطهم، واتخذوا الجمام والوفر وتركوا التقصيص، ولعمري لئن كان يُصنع ذلك فيما قبلك، إن ذلك بك لضعف وعجز ومصانعة.
وفيما اطلعنا عليه من الكتاب إشارات طفيفة لاختلاف أزياء الذميين في العصور الإسلامية، وما هذا الاختلاف في الحقيقة ناتج إلا من التحكم البارد غالبًا، قال ابن الأثير في حوادث سنة ٢٣٥: إن المتوكل أمرَ أهل الذمة بلبس الطيالسة العسلية، وشد الزنانير، وركوب السروج بالركب الخشب، وعمل كرتين في مؤخر السروج، وعمل رقعتين على لباس مماليكهم مخالفين لون الثوب، كل واحد منهما قدر أربع أصابع، ولون كل واحدة منهما غير لون الأخرى، ومن خرج من نسائهم تلبس إزارًا عسليًّا، ومنعهم من لبس المناطق، وأمرهم بهدم بيعهم المحدثة، وبأخذ العشر من منازلهم، وأن يُجعل على أبواب دورهم صور شياطين من خشب، ونهي أن يستعان بهم في أعمال السلطان ولا يعلمهم مسلم، وأن يظهروا في شعانينهم صليبًا، وأن يستعملوا في الطريق، وأمر بتسوية قبورهم مع الأرض، وكتب في ذلك إلى الآفاق.
وقال الذهبي في حوادث ٣٩٨: وفيها هدم الحاكم كنيسة القمامة بالقدس، وكانت فيها أموال وجواهر ما لا يوصَف، وألزم النصارى بتعليق صلبان كبار على صدورهم، واليهود بتعليق مثل رأس العجل على صدورهم، وكان الصليب رطلًا بالدمشقي من خشب، ومثال رأس العجل كالمدقة وزنها رطل ونصف، وأن يشدوا الأجراس في رقابهم عند دخول الحمامات، قال: وألزم الحاكم صاحب المغرب والحجاز ومصر والشام أهل الذمة بالصلبان في أعناقهم، وألبس اليهود العمائم السود نكاية واهنة لبني العباس، قال ابن خلكان: وفي سنة اثنتين وأربعمائة أمر الحاكم النصارى واليهود إلا الخيابرة بلبس العمائم السود، وأن تحمل النصارى في أعناقهم الصلبان ما يكون طوله ذراعًا ووزنه خمسة أرطال، وأن تحمل اليهود في أعناقهم قرامى الخشب على وزن صلبان النصارى، وأن يكون في أعناق النصارى إذا دخلوا الحمام الصلبان، وفي أعناق اليهود الجلاجل ليتميزوا عن المسلمين، قلنا: وكان في الحاكم لوثة وجنة، يأمر اليوم بأمر فينهى عنه في الغد على ما قال المؤرخون.
وذكر الذهبي في حوادث سنة سبعمائة أن النصارى واليهود أُلبست بمصر والشام العمائم الزرق والصفر واستمر ذلك، وسنة ٧٣٤ أُلزمت النصارى واليهود ببغداد بالغيار، ثم نقضت كنائسهم ودياراتهم، وأسلم منهم ومن أعيانهم خلق كثير منهم سديد الدولة وكان ركنًا لليهود، وروى لسان الدين بن الخطيب أن إسماعيل بن فرج الخزرجي من ملوك الأندلس اشتهر في إقامة الحدود، وإراقة المسكرات، وحظر تجلي القينات للرجال في الولائم، وقصر طربهن على أجناسهن من الناس، وأخذ لليهود الذمة بالتزام سمة تميزهم، وإشارة تشهرهم، وليوفي حقهم من المعاملة التي أمر بها الشرع في الخطاب والطرق، وهو شواش (جمع شاشية) أصفر. وذكر صاحب المعجب في سيرة أبي يوسف يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن أنه أمر في آخر أيامه أن يتميز اليهود الذين بالمغرب بلباس يختصون به دون غيرهم، وذلك ثياب كحلية وأكمام مفرطة السعة تصل إلى قريب من أقدامهم، وبدلًا من العمائم كلوتات على أشنع صورة كأنها البراديع تبلغ إلى تحت آذانهم، فشاع هذا الزي في جميع يهود المغرب، ولم يزالوا كذلك بقية أيامه وصدرًا من أيام ابنه أبي عبد الله إلى أن غيره أبو عبد الله بعد أن توسلوا إليه بكل وسيلة، واستشفعوا بكل من يظنون أن شفاعته تنفعهم، فأمرهم أبو عبد الله بلبسان ثياب صفر وعمائم صفر، فهم على هذا الزي إلى وقتنا هذا وهو سنة ٦٣١، وإنما حمل أبا يوسف على صنعه من أفرادهم بهذا الزي وتمييزه إياهم به شكه في إسلامهم، وكان يقول لو صح عندي إسلامهم لتركتهم يختلطون بالمسلمين في أنكحتهم وسائر أمورهم، ولو صح عندي كفرهم لقتلت رجالهم وسبيت ذراريهم، وجعلت أموالهم فيئًا للمسلمين، ولكني متردد في أمرهم، ولم تنعقد عندنا ذمة ليهودي ولا نصراني منذ قام أمر المصامدة، ولا في جميع بلاد المسلمين بالمغرب بيعة ولا كنيسة، إنما اليهود عندنا يظهرون الإسلام، ويصلون في المساجد، ويُقرئون أولادهم القرآن جارين على ملتنا وسنتنا، والله أعلم بما تكنه صدرهم وتحويه بيوتهم. ا.ﻫ.
وقال ابن أبي أصيبعة: حدثني الشيخ موفق الدين بن البوري الكاتب النصراني قال: لما فتح المالك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب الكرك أتى إلى دمشق الحكيم موفق الدين يعقوب بن سقلاب النصراني، وهو شاب على رأسه كوفية وتخفيفة صغيرة، وهو لابس جوخة ملوطة زرقاء زي أطباء الفرنج، وقصد الحكيم موفق الدين بن المطران، وصار يخدمه ويتردد إليه لعله ينفعه، فقال له: هذا الزي الذي أنت عليه ما يمشي لك به حال في الطب في هذه الدولة بين المسلمين، وإنما المصلحة أن تغيِّر زيك وتلبس عادة الأطباء في بلادنا، ثم أخرج له جبة واسعة عنابية وبقيارًا مكحلًا وأمره أن يلبسهما. وكان والد المهذب المعروف بالخطير مرتبًا على ديوان الإقطاعات وهو على دين النصرانية، فلما علم أسد الدين شيركوه في بدء أمره بمصر أنه نصراني، وأنه يتصرف في (عمله) بلا غيار نهاه، وأمره بغيار النصارى، ورفع الذؤابة، وشد الزنار، وصرفه عن الديوان، فبادر هو وأولاده، فأسلموا على يده فأقره على ديوانه مدة ثم صرفه عنه فقال فيه ابن الذروي:
ولما أمر شيركوه النصارى بلبس الغبار، وأن يعمموا بغير عذبة، قال عمارة اليمني:
هذا ما كان عليه الاختلاف في الأزياء بين أهل الوطن الواحد، وأكثره كما ترى ناشئ من ملوك أو فقهاء متعصبين تعصبًا ظاهرًا مثل المتوكل والحاكم بأمر الله، ولم يُسمع بأن رجال الجد في الإسلام مثل الرشيد والمأمون وصلاح الدين ونور الدين تحكموا هذه التحكمات والله أعلم. ا.ﻫ.