السلطتان١
رحم الله السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب، ما كان أعقله في الملوك وأبصره بعواقب الأمور، فقد كان أول العارفين بأن مزج الدين بالدنيا من أضر ما ينهك قوى الأمم، فتفقد الصفقتين ولا تفوز بالحُسْنَيَيْن؛ ولذلك كان لا يعتمد في تدبير ملكه وقتال عدوه إلا على أهل الرأي من الساسة في زمنه، ممن استخلصهم في تدبير ملكه كالقاضي الفاضل ومن كان على شاكلته.
ولطالما أراده فقهاء عصره على أن يعمل بمشوراتهم في زحزحة الصليبيين عن البلاد، ولو وجدوا منه مصغيًا لأقوالهم لالتوى عليه القصد، ولما وُفق إلى ما لم يُوفق إليه سلطان قبله ولا بعده من دفع صائل تلك الجيوش الجرارة، التي انكفأت على الشرق الأدنى واستباحته واستصفته أو كادت. والله وأعلم ماذا كان مصير الحرمين الشريفين وبيت المقدس الآن لو كانت دخلت أصابع السياسة الخرقاء في طرد أهل الصليب عن مصر والشام.
كان صلاح الدين صلاحًا للدين والدنيا، يعرف من يعمل بآرائهم من رجاله، ولذلك ترك الجامدين من أدعياء العلم جانبًا يغدق عليهم من مكارمه ما يقطع به ألسنتهم، ويريحهم من عناء الطلب والنصب، وإذا رفعوا رءوسهم، وأشاروا إليه بأنه نبذ مشوراتهم ظهريًّا، أشار إليهم بلسان الحال بأن السياسة ليست من شأنهم، وأنه يكفيهم أن يحسنوا الاضطلاع بشئونهم الخاصة، وما يفرض عليهم المجتمع العمل به، وهم إذا جودوه وأحسنوه يحسنون للأمة كل الإحسان.
هكذا كان السلطان صلاح الدين في القرون الوسطى يعرف من أين تؤكل الكتف في فصل السلطتين الدينية عن الدنيوية. وسلطان المغرب الأقصى الحالي وهو في هذا العصر، وناهيك به يقيم على أبواب أوروبا، وتؤثر فيه عوامل أرباب السلطة الدينية من إضراب ماء العينين، ومن لف لفه من مشايخ الطرق وزعانفة المتفقهة، وغوغاء الممخرقين ممن يدعون الكشف والسحر والطلسمات.
ما نظن أن غلو مولاي عبد العزيز في الإفضال على أولئك الجامدين وتقريبهم منه، والعمل بمشوراتهم ناتج عن تدين حقيقي، فالله أعلم بما هنالك، ولكن تلك الفئة توصلت بدهائها على توالي العصور أن تجعل لها موقعًا من نفوس سلاطين المغرب، فأثرت فيهم بما تريد، وصرفتهم على أمرها في تدبير ذاك المُلك الضخم، وفض شئونه الداخلية والخارجية.
يشهد أولئك الجامدون لسلاطين المغرب بإمارة المؤمنين، ويقر هؤلاء لأولئك بأنهم ورثة الأنبياء والمرسلين، وهكذا فالنفع متبادل والمصلحة مشتركة، فهم على حد المثل السائر: «أضئ لي أقدح لك.»
جاء عهد على المملكة العثمانية في التاريخ، كادت تمنى بما منيت به مملكة المغرب الأقصى من دخول رجال الدين في السياسة، والعبث بضعف عقولهم في شئون الأمة، وعقد سلمها وحربها والهينمة على عمرانها، والإشراف على خصوصياتها وعمومياتها، ولكن بعض سلاطينها ووزرائها أدركوا عاقبة تأثير رجال التكايا في عقول أهل السياسة والرأي، ومذ ذاك العهد وأظنه كان على زمن السلطان سليمان القانوني دخلت الدولة في طور الحكومات المدنية.
ولو ظلت العناية بساكني التكايا والأخذ بآرائهم في المملكة العثمانية لما كنا اليوم نلبس الطربوش ولا السراويل والسترات الإفرنجية، بل ولا نطبع الكتب والمصاحف؛ لأن الفقهاء في الآستانة حرموا كل ذلك عندما أراد السلاطين إدخاله في بلادهم!
نعم، لو ظل العمل بتلك الآراء الغريبة لما كانت الدولة العثمانية بجنديتها، وتنظيم شئون إدارتها بأرقى من حكومة الأفغان الآن، وما العهد ببعيد بتحريم أهل الجمود على أميرها في العهد الأخير اجتماعه بحاكم الهند أيام رحلته مؤخرًا إليها، وتناول طعام الإفرنج ولبس لباسهم ومعاشرتهم بالمعروف. ولو لم يكن للأمير جيش يستميت في الدفاع عنه إذا طرأ طارئ، لكنا سمعنا بأن ذاك الدهماء من الأغبياء، تمكن من التغلب على أميرهم، ووسدوا الحكم إلى من ترضيهم سياسته وحالته وشايعهم على أفكارهم، وهي لو صحت مرة لكذبت مرات، وأفسدت على الناس أمرهم.
من لنا بمن يلقي على مسامع مولاي عبد العزيز هذه النصيحة ليتخذ له بطانة من أهل الرأي الرجيح، حتى ولو بجلبهم من مملكة أخرى للاستعانة بهم على تدبير مملكته، ليت من يقرأ له هذه الكلمات القليلة ولو ينقلها في قطعة من الورق؛ لأن قراءة الجرائد محرمة عند السلطان بفتوى من علمائه، فما الحال فيما تخوض فيه من الأفكار؟!