علاقة العرب بالغرب١
فأميرنا هو الذي وضع المسألة العربية على بساط البحث، ووجه إليها أنظار العالم الغربي، وكانت مسألتنا من قبل مندمجة في المسألة الشرقية، فميَّز بصحة عقله بين المسألتين الشرقية والعربية، وأبان للغربيين أن العرب غير الترك، وأننا أمة قوية الشكيمة، يبلغ عددنا أكثر من نصف سكان تلك الإمبراطورية العثمانية المنحلة، وأبعد منهم كعبًا في المدنية، وليس لهم من المزايا علينا إلا أن الطالع ساعد ملوكهم الأقدمين، وقاموا بغفلة الدهر عنهم، فأنشئوا ذاك الملك الضخم بقوة سلاحهم الذي لم يبرحوا شاهريه إلى ساعة انهزامهم من بين أظهرنا؛ أي إنهم اكتفوا مدة أربعة قرون باستصفاء البلاد، وما استطاعوا أن يستصفوا القلوب، وشتان بين من يُخضع الأجسام الجامدة، ومن يُخضع الأجسام الحية.
ربما كان بين أهل الغرب اليوم عدد قليل من الناس لا يثبتون مزية للمدنية العربية القديمة، وهؤلاء ممن أخذوا معلوماتهم عن كتب أملاها المتعصبون منهم، وبعضهم من سكان الأديار الذين ضاقت عن تحمُّلهم، مثل أرض فرنسا، وسويسرا الحرة، ولكن هناك مئات من علماء المشرقيات أخصوا بعلوم الشرق ولغاته، ولا سيما بسيدتها اللغة العربية، فدرسوا الحضارة العربية والتاريخ العربي في مظانه وبلغته، وأزالوا غشاوة الأوهام عن العوام بما أنشئوه من المجلات، ونشروه من الكتب بلغاتهم المختلفة، يبينون للناس مجد هذه الأمة الغابر، وأيامها الغر المحجلة، وربما كان منهم المتعصب للعرب وتحبيذ دولهم السالفة أكثر من تعصبه لمدنية الأمم الحديثة، وهؤلاء هم الذين يخدمون العلم للعلم، لا يتبعون فيه على الغالب هوى النفوس في السياسة، ولا سلطان للأديان تمليه على ضمائرهم.
ومن قرأ دائرة المعارف الإسلامية التي لا تزال تصدر إلى اليوم في مطبعة ليدن من عمل هولاندة بلغات العلم الثلاث: الإنكليزية والألمانية والفرنسوية، وهو أصح كتاب كُتب في تاريخ بلاد العرب وجغرافيتها، وتراجم رجالها وأصول شعوبها، ومن عرف أن أمهات كتبنا في الدين والعلم والتاريخ لا تزال تُطبع في مطابع الغرب من زهاء أربعمائة سنة؛ أي على أوائل عهد اختراع الطباعة، وأن المطبوع منها بالعناية الفائقة تتألف منه خزانة كتب كبرى تحتوي على كل فن ومطلب، وأن ما طُبع من أسفار أسلافنا في أوروبا وأميركا على أيدي المستشرقين من أهل تينك القارتين يبلغ أضعاف أضعاف ما طُبع بلغات الشرق كله؛ من عرف كل هذا يدرك ولا جرم مبلغ عناية الإفرنج بلغتنا ومدنيتنا وتاريخنا.
أكدوا — أيها السادة — أن تفسير القرآن الكريم يُقرأ درسًا على طلاب الجامعات في الغرب، كما تُقرأ دروس الفلسفة والتاريخ والأدب، وما أنْسَ لا أنسَ، وقد دعاني في بودابست الأستاذ غولد صهير العلامة المجري إلى داره، وهو يقول: إني الآن ذاهب إلى الكلية لإلقاء درسي وأعود إليك بعد مدة، فسألته ماذا تقرأ الآن لتلاميذك يا أستاذ، فقال: تفسير القرآن. وأغرب من هذا ما ذكره لي صديقي العلَّامة أحمد زكي باشا المصري، قال: دخلت على الأستاذ درانبورغ في مدرسة اللغات الشرقية الحية، فرأيته إسرائيليًّا يدرس كتاب المسلمين لجماعة من المسيحيين. أما الحديث والفقه والأصول والتصرف فهو أيضًا مما يعانونه، كما يعانون غيره من آدابنا وتاريخنا وعلومنا. ورجال الإفرنج يدركون حقيقة العرب وعلومهم منذ توطد سلطان الأمويين في الأندلس، وأخذ بعض المتنورين منهم يدخلون تلك المملكة العربية ويدرسون العلوم على علمائها، ويعودون إلى فرنسا وإيطاليا ينشرونها بين قومهم. وكان بعض المشتغلين على علماء العرب من الإسرائيليين، وبعضهم من المسيحيين الذين تولوا بما تعلموه أعظم منصب ديني في النصرانية، وكأن الله سخر العرب ليفتحوا الأندلس ويعمروها؛ حتى ينقلوا لأهل أوروبا العلم والحضارة، ولما أنهوا مهمتهم عادوا أدراجهم من تلك المملكة البديعة.
امتاز المسلمون بإحسانهم إلى من خالفهم إذا كان مما تُحمد سيرته السياسية والوطنية؛ ولذلك حموا الإسرائيليين مواطنيهم في الأندلس، ويوم أُخرجوا منها فكروا في حماية الإسرائيليين ومصالحهم، كما نظروا في حماية أبناء دينهم، اشترطوا على الغالب شروطًا تقيهم بأسه، وكان الإسرائيليون إذ ذاك في الغرب مضطهدين في كل مكان إلَّا في الأندلس، وكم استمتع الإسرائيليون بحرِّيتهم على عهد العرب في الأندلس على صورة لم يعد لهم مثلها إلَّا في القرن الأخير في أوروبا.
وكانت دراسة العربية شائعة في شبه جزيرة إيطاليا، يُنظر إلى تعلُّمها أنه من الحاجات الماسة لكل تجار المدن البحرية، وقد وضع أحدهم سنة ١٢٦٥م باللغة العربية كتاب المعاهدة التجارية بين تونس وجمهورية بيزا، وظلت العربية مألوفة في عدة أماكن من إيطاليا الجنوبية عقيب احتلال العرب صقلية، فكانت في بلاط نورمانديا، وهوهانستوفين، وفريدريك الثاني، ودي منفروا لغة العلم العالي والشعر والأدب، وكان من سقوط الدولة البيزنطية في القسطنطينية وهجرة علماء من اليونان إلى إيطاليا، وكثير من نصارى الشرق واختراع الطباعة وقيام الإصلاح الديني، أن هبَّت في أرجاء إيطاليا حركة النهضة العلمية التي تجلَّت في أجمل مظاهرها في الدروس الشرقية، ولا سيما في دروس العربية والإسلام.
ثم إن الإفرنج زاد اختلاطهم بالعرب في الحروب الصليبية، فإن هذه وإن كلفت أمم أوروبا ملايين من الأنفس والأموال، إلَّا أن أهلها عادوا منها بعد جهاد نحو قرنين، وقد لُقنوا أمورًا كثيرة من العرب أثرت في حضارتهم وأخلاقهم وعلومهم وصناعاتهم؛ لأنهم شاهدوا أمة أرقى منهم إذ ذاك، فأخذوا عنها ما اتسعت له أوقاتهم، وكانوا على اختلاط تامٍّ مع الأمم التي يحاربونها.
وبينا كان السيف والنشاب والمجانيق تعمل عملها بين الفريقين، كان تجار الإفرنج يدخلون بلاد العرب ويتَّجرون على الرحب والسعة، لا ينازعهم منازع، فأُعجب بهذه الأخلاق مؤرخو الحروب الصليبية منهم وأقر بمنافعها لهم أهل الأجيال الخالقة، وفي مقدمتهم ميشو في تاريخ الحروب الصليبية، وقد ذكر على تعصبه أشياء كثيرة مما أخذه الإفرنج عن العرب، دع مئات من كتاب الغرب وباحثيهم ذكروا في كتبهم ومقالاتهم كثيرًا مما استفادته أجيال الفرنجة، وغيرهم من امتزاج الصليبيين بالعرب، وقد أدهشهم ما شهدوه من عدل صلاح الدين يوسف بن أيوب — رحمه الله — حتى ادعى شاعره عبد المنعم الجلياني أنهم رسموه في هياكلهم فقال:
وإن ما نقرؤه في تاريخ شواطئ البحر الأبيض حيث ينزل العرب من مراكش بالجزائر، فتونس، فطرابلس، فبرقة، فمصر، فسورية من وقائع حدثت في أزمان مختلفة بين العرب، وبين البنادقة، والجنويزبين، والبيزين، والإسبانيين، والبرتغاليين لا تطعن في حسن الصلات بين العرب وجيرانهم على الشاطئ المحاذي لهم من هذا البحر؛ لأن هذه الغزوات البحرية كانت بصنع قراصين ومتشردين وغاغة ظالمين، لا دخل فيها للأمم ولخاصَّتها على الأقل، ولا سلطة فيها للأديان؛ لأن الأديان كلها تأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، ومن أعظم المنكرات فيها قتل النفس التي حرم الله؛ ولذلك تجد المعاهدات تُعقد الحين بعد الآخر بين صاحب تونس، أو مصر، أو الشام، أو الغرب الأقصى، وبين الملوك النازلين من الإفرنج في جنوبي أوروبا، وهذه الغزوات البحرية أشبه بالغزوات البرية التي طالما حدثت لها أمثال بين الأمة الواحدة من الإفرنج أو الأمة الواحدة من العرب.
ولطالما غزا سكان جنوبي فرنسا سكان شمالها ودينهم واحد، ولسانهم واحد، وعاداتهم وتقاليدهم متقاربة، ولم يتيسر نزع هذا الخلق، وهو من أخلاق البداوة في الغالب إلَّا بما قام في فرنسا من الأعمال المالية التي ربطت ابن الشمال بابن الجنوب برباط معنوي مادي، فارتفعت الخصومات من بينهما؛ لأن المصلحة المادية مفضلة على كل شيء، فقد قال الجاحظ: «وليس يكون أن تصفو الدنيا وتنقى من الفساد والمكروه، حتى يموت جميع الخلاف وتستوي لأهلها، وتتمهد لسكانها على ما يشتهون ويهوون؛ لأن ذلك من صفة دار الجزاء وليس كذلك صفة دار العمل.»
قال الكونت هنري دي كاستر في كتابه الإسلام خواطر وسوانح: ولقد زادت محاسنة المسلمين للمسيحيين في بلاد الأندلس، حتى صاروا في حالة أهنأ من التي كانوا عليها أيام خضوعهم لحكم قدماء الجرمانيين الذين يقال لهم الفيزيغوت، ويقول دوزي: إن هذا الفتح لم يكن مضرًّا بالأندلس، وما حصل من الاضطراب والهرج بعده لم يلبث أن زال باستقرار الحكومة المطلقة الإسلامية في تلك البلاد، وقد أبقى المسلمون سكانها على دينهم وشرعهم وقضائهم، وقلدوهم بعض الوظائف حتى كان منهم موظفون في خدمة الخلفاء، وكثير منهم تولى قيادة الجيوش مثل «سيد»، وتولَّد عن هذه السيادة الرحيمة أن انحاز عقلاء الأمة الأندلسية إلى المسلمين، وحصل بينهم زواج كثير، وكم من أندلسي بقي على دينه، ولكنه أعجبته طلاوة التمدن العربي فتعلم اللغة وآدابها، وأصبح القسس يلومونهم على ترك ألحان الكنيسة، والتعلق بأشعار الفاتحين. وكانت حرية الأديان بالغة منتهاها؛ لذلك لما اضطهدت أوروبا الموسويين لجئوا إلى خلفاء الأندلس في قرطبة، ولما دخل الملك كارلوس إلى سرقسطة أمر جنوده بهدم جميع معابد اليهود ومساجد المسلمين، قال: ونحن نعلم أن المسيحيين أيام الحروب الصليبية ما دخلوا بلادًا إلَّا وأعملوا السيف في يهودها ومسلميها، وذلك يؤيد أن اليهود إنما وجدوا مجيرًا وملجأ في الإسلام، فإن كانت لهم باقية حتى الآن، فالفضل فيها راجع لمحاسنة المسلمين ولين جانبهم. ا.ﻫ.
وقال سيديليو في كتابه حضارة العرب: مما يدل على شأن الأمة العربية أنها فتحت بلادًا أجنبية، ولم يتغلب عليها غريب، مع اتصافها منذ أربعة آلاف سنة بما انفردت به من جميل الأخلاق والعادات، فكانت منذ نشأة أقدم الدول مدبرة لأمورها، متأهبة للإغارة على مجاوريها؛ أخذت مملكتي مصر وبابل قبل الميلاد بتسعة عشر قرنًا، ثم أخذ منها ما ملكته من البلاد الأجنبية، وانحصرت سطوتها في بلادها العربية، فأخذت تقاتل الفراعنة وملوك العراق، ونجت من تسلط قورش ملك الفرس وإسكندر المقدوني، وبقيت على استقلالها زمن أخذ الرومان الدنيا القديمة، ثم أتى النبي فربط علائق المودة بين قبائل جزيرة العرب، ووجَّه أفكارهم إلى مقصد واحد فعلا شأنها، حتى امتدت سلطتها من نهر التاج في إسبانيا والبرتغال إلى نهر القانج في الهند، وانتشر نور المعارف والتمدن في المشرق والمغرب، وأهل أوروبا إذ ذاك في ظلمة جهل القرون المتوسطة، وكأنهم نسوا نسيانًا كليًّا ما وصل إليهم من أحاديث اليونان والرومان. واجتهد العباسية ببغداد، والأموية بقرطبة، والفاطمية في القاهرة، بترقية الفنون، ثم تمزقت ممالكهم، وفقدوا شوكتهم السياسية، واقتصروا على السلطة الدينية التي استمرت لهم في جميع أرجاء ممالكهم، وكان لديهم من المعلومات والصنائع والاكتشافات ما استفاده منهم نصارى إسبانيا حين طردوهم منها، كما أن الأتراك والمغول بعد تغلُّبهم على ممالك آسيا استفادوا معارف مَن تغلبوا عليهم. ا.ﻫ.
وبعد، فإن أمة هذا ماضيها وهذا حاضرها كيف يجهل بعضهم أو يتجاهلون أمرها؟! وهي التي كانت الصلة والعائد بين المدنية القديمة والمدنية الحديثة، ولولا العرب لتأخرت نشأة الحضارة الغربية قرونًا، كما أكد بعض المنصفين من علماء الغرب. فإذا كان ماضينا ما رأيت، وفي حالتنا الحاضرة بعض النواقص جاء لنا من الحكم الاستبدادي الذي نخر العظم قرونًا طويلة، فإننا لا يصح إلَّا أن يقال عنا اليوم كما وصفنا رئيس الكلية الأميركية الدكتور هوردبلس في مؤتمر الصلح: أمة كسائر الأمم فينا من العيوب ما في غيرنا، أما استعدادنا للرقي إذا رفعت عن عيوننا العصائب، فقد أثبته رجالنا الذين تعلموا وتهذبوا، فكانوا في مصر والسودان وفي أميركا وأوروبا على مستوى الغربي الراقي في علمهم وآدابهم ومتاجرهم وصناعاتهم، وأثبته دعاة الثورة العربية وما ظهر من تفانيهم في وطنيتهم لإرجاع مجد أمتهم بعد ذبوله.
فبينا نرى أمم الغرب تشتد كل يوم في نزع مؤثرات الأجداد نجد الشرق يعيش بماضيه إلَّا قليلًا، فالمجتمعات الشرقية ثابتة في عاداتها، وهي في الشرقيين خالدة على صورة ليست لها في أوروبا اليوم، فإن المعتقدات التي أضعناها يُعنون هم بالاحتفاظ بها جد الاحتفاظ، والعائلة التي تقوضت من أساسها في الغرب لم تبرح متينة الدعائم في الشرق على نحو ما كانت منذ أبعد عصور التاريخ، والمبادئ التي فقدت من تأثيرها فينا أصبحت محافظة على تأثيرها فيهم. غاية الشرقيين قويَّة جدًّا، وحاجاتهم ضعيفة كل الضعف، وغاية الغربيين غير أكيدة، وحاجاتهم عظيمة جدًّا، فإن الدين والأسرة والسلطة العالية والعادات، وجميع هذه الأسس القويمة في المجتمعات القديمة التي نزعها الغرب من أصولها، قد احتفظت بنفوذها في الشرق، ولا من منازع لها؛ وذلك لأن الاهتمام بالاستعاضة عنها لم ينفذ بعد إلى عقول الشرقيين. ويتجلى الفرق الفاحش بين الشرق والغرب من أوضاعهما، فإن جميع الأوضاع السياسية والاجتماعية في الشرقيين، عربًا كانوا أو هنودًا، تنبعث خاصَّة من معتقداتهم الدينية، على حين نرى أكثر الشعوب الأوروبية تدينًا قد فصل منذ زمن طويل بين الأوضاع السياسية والمعتقدات.
ليس في الشرق قانون مدني، بل هناك قانون ديني فقط. وكل جديد مهما كان نوعه لا يُقبل إلَّا على شرط أن يكون نتيجة قواعد لاهوتية. وليس الاختلاف بين الغربيين والشرقيين في تركيب العقول والأوضاع والمعتقدات فقط، بل في أدنى أسباب الحياة، ولا سيما في بساطة الحاجات بالنسبة إلى تشعُّب حاجاتنا، فإن مطالب الحياة عندهم قليلة جدًّا إذا قيست بمطالبنا وتشعباتها؛ ولذلك يلقى الشرقي إذا قبل المدنية الأوروبية؛ لأنها تُلزمه بأمور لا يستطيع تطبيقها، ولا تستلزمها حالته وبيئته، فتقضي فيه على ما وردته من ماضيه وتتركه لا يعرف كيف يستقر أمام الحاضر.
والنتيجة القطعية الوحيدة من التعليم الأوروبي سواء كان في الزنجي أو الهندي، هو أن تتبدل الصفات الإرثية فيه دون أن تتمكن من إبلاغ التربية الأوروبية إليه، وقد يحصل الشرقي على قطع من الأفكار الأوروبية، ولكن انتفاعه بها يكون بعواطف وأفكار وحشية أو نصف متحضرة، وتتقاذف عقول الشرقيين آراء متضاربة ومبادئ في الأخلاق متعارضة، ولا يخدعنا هذا الطلاء الضعيف الذي يظهر فيه الشرقي إذا لقف شيئًا من التربية الأوروبية، فإن ذلك أشبه بالألبسة الموقتة في دور التمثيل لا يجب أن يُنظر إليها عن أمم.
قال: ولقد حدَّثت مئات من المرات أناسًا من أدباء الهنود تخرجوا في جامعات إنكلترا أو الغرب، فثبت عندي أن بين أفكارهم وأفكارنا، ومنطقهم ومنطقنا، وعواطفهم وعواطفنا، فروقًا واسعة المدى وهُوًى سحيقة بعيدة. وليس معنى هذا أنه يستحيل على الشرقي أن يكون كالأوروبي حذو القذَّة بالقذَّة، كلا، فإن الشرقي يكون كالغربي، ولكن بعد تعاقب الدهور والأعصار؛ كما وقع لأجدادنا، فإنهم ظلوا نحو ألف سنة يتخبطون في حالة التذبذب والتوحش، حتى تأصل فيهم حب المدنية القديمة والأخذ منها. وقانون النشوء الاجتماعي كالنشوء الطبيعي لا بُدَّ من أن يستوفي حظه.
والسبب المهم في أن مدنيتنا عاجزة عن الوصول إلى الشعوب المنحطة، هو أنها متشعبة مركبة، والشرقيون أمم من السذاجة أقرب، فاقتضت لهم البسائط، فإنا نرى المدنية الإسلامية وما أثره المسلمون في الشرق، ولا يزالون يؤثرونه قد نجحت في هذا المعنى؛ ذلك لأن الأمم التي دانت للإسلام كانت أو هي في الغالب شرقيَّة لها من العواطف والحاجات والعادات في الحياة، ما يماثل عواطف الفاتحين وحاجاتهم وعاداتهم. وليس في قبولهم أصول المدنية الإسلامية ما يتنافر مع حاجتهم. وعلى العكس، إذا صحت عزيمتهم على الأخذ بالمدنية الغربية فإنها تدك بنيان ما تعودوه بما فيها من الاختلاط والارتباك.
•••
قال: وقد زعم المؤرخون أن التأثيرات العلمية والأخلاقية العجيبة التي أثرها المسلمون في الأرض كانت بفضل مادياتهم، ولكن لا يصح اليوم أن نجهل بأن هذه المؤثرات قد دامت في مجراها، حتى بعد أن أضاع المسلمون نفوذهم السياسي، فإن المسلمين في الصين يزيدون اليوم على ٢٠ مليونًا، وفي الهند على خمسين؛ أي إن سوادهم أوفر من العهد الذي بلغت فيه دولة المغول أرقى درجات عزتها ومنعتها، ولا يزال هذا العدد في نمو. إن المسلمين بعد الرومان هم الأمة الممدنة الوحيدة التي نجحت في نقل تهذيبها الاجتماعي ودينها وأوضاعها وعلومها إلى العناصر المختلفة التي افتتحتها وتسربت بينها. هذه التأثيرات لا تضمحل، بل نراها على العكس آخذة بالنمو، تتعدى الحدود التي بلغتها في أيام القوة المادية. إن القرآن وما اشتُق منه هو إلى الفطرة بحيث يلتئم مع حاجات الشعوب الأولية، حتى إن قبوله آخذ حكمه على مر الدهور لا يعوقه عائق. وحيث ينزل المسلمون ولو كانوا تجارًا سذَّجًا تدخل أوضاعهم ومعتقداتهم، وكلما توغل الرواد من أهل المدنية الحديثة في صميم أفريقيا شاهدوا قبائل تنتحل الإسلام. والمسلمون الآن يمدنون قبائل أفريقيا على نحو ما يستطيعون، ويجاهدون في تلك القارة الغريبة، على حين يطوف الأوروبيون في الشرق فاتحين كانوا أو متَّجرين ولا يتركون وراءهم أثرًا لنفوذ أدبي.
فلا التربية ولا الأوضاع ولا المعتقدات ولا غير ذلك من الأسباب التي يتذرع بها الأوروبيون للتأثير في الشرق تفيد في تمدينه؛ ولا سيما في الشعوب المنحطة منه. وحالة اليابان لا تقوم دليلًا على نقض هذه القضية؛ لأن اليابان وقد بلغت درجة راقية في المدنية، كان السبب في تمدنها أنها قبلت نتائج المدنية الغربية بجملتها دفعة واحدة، فلم تغير في الحقيقة قوانينها الأساسية ولا معتقداتها ولا أخلاقها، فهي تشبه شريفًا من أرباب الإقطاعات عاد إلى الحياة بعد موته، فتعلَّم استعمال القاطرات وإطلاق المدافع.»
هذا رأي الفيلسوف غستاف لوبون في مدنيتنا وحالتنا الاجتماعية، وتأثرنا بالمدنية الغربية وصلاتنا مع أهلها وصلاتهم معنا. وهو — كما ترون — صحيح من أكثر وجوهه، لا شائبة للتعصب والتقاليد فيه. وقد حمد حالتنا من حيث تكوين الأسرة والبيوت والسذاجة، وعسانا اليوم وقد زاد اختلاطنا بالغرب لا نأخذ منه إلَّا ما تمس حاجتنا إليه، ونبقي على القديم النافع، فقد قيل: إن القوة الحقيقية في كل مملكة ما عرفت به من الأخلاق الطبيعية. وتقليد الأجانب على أي صورة كانت عارٌ على الوطنية.
لم يخلُ عصر من العصور من اختلاط العرب بالغرب، سواء كان بطرق الفتح أو التجارة، أو طلب العلم، أو للجوار، وقد قصد أوروبا كثير من رجالنا منذ زهاء عشرة قرون، وكذلك الأوروبيون وصلوا إلى بلادنا منذ القديم. وكان الطليان أسبق الأمم إلى هذا الاختلاط — كما رأيتم — ومع أنه على أتمه ولا سيما منذ استولى نابليون على مصر وجانب من الشام، لم يبرح الشرق شرقًا والغرب غربًا؛ أخذوا منا وأخذنا منهم، ولكن ما أخذوه عنا مزجوه في حضارتهم، وكذلك كانت حالنا معهم، وما اقتبسناه من نور علومهم وأساليب تربيتهم في القرن الماضي وهذا القرن.
ولا غضاضة علينا إذا وقفنا معاشر العرب مع الغرب عند حد الأخذ من حضارته وعاداته؛ فإن التخوم إذا تناءت تختلف أهويتها وطباع أهلها، فما يفيد من القوانين هنا لا يطبق على سكان ما وراء النهر مثلًا، وما ينفع سكان الأرجنتين لا يتأتى تطبيقه على أهل الصين.
ومن أسرار هذا الكون أن كل أمة تحرص على سلطانها ولسانها وأوضاعها، وتدافع عنها جهدها. والوقائع التاريخية الكبرى تظهر آثارها في الأمم حتى بعد قرون، فغارات الصليبيين والتاتار على هذا الشرق الأقرب أثرت فيه قرونًا، وغارات العرب على أوروبا أثرت فيها، بحيث يشهد التاريخ أن العرب يوم زُحزِحوا عن بواتيه في فرنسا على يد شارل مارتل هم غيرهم يوم جلَوْا عن أرض الأندلس.
والنزاع بين الفلامنديين والفالونيين على أتمه بشأن اللغة، فتجد الفلامنديين سكان الفلاندر من أحرص الأمم على لسانهم، وقد حاولت البلجيك بعد سنة ١٨٣٠ أن تفنلس الفلاندر، فثارت هذه على كل ما أريدت عليه، ولم تستطع ذلك، بل احتفظت بروحها، وأخلاقها، وأفكارها، وتقاليدها، وعواطفها، وأساليب تصورها، قال شاريو: الأمة بلُغتها، وما من أمة بدون لغة. ولذلك تجد الجدال قائمًا قاعدًا في فنلندا، وبولونيا، والنمسا، والمجر، وسويسرا، وإسبانيا، بل وفي كل مكان في هذا الشأن.
دعا نابليون الأول أرض بلجيك بأنها ساحة حروب أوروبا، وسماها اليزمركلو ساحة اختبار أوروبا، وسماها بعضهم مغرس بقولها، كما سموا الأندلس حديقة زهرها، وكما أصبحت سويسرا بالعلم مصيف أوروبا ومشتاها.
هذا مثال من تشدد الأمم حتى الصغرى منها في عادتها ولسانها، فأحرِ بالعرب أن يحافظوا على شخصياتهم، وكانوا في القديم أشبه بأمة الرومان يفتحون البلاد ويُدخِلون إليها من عاداتهم وأخلاقهم ما هو في استطاعتهم، ويأخذون عنها ما ينفعهم وما لا غنى لهم عنه، فأصبحت بلادهم مهد الوطنية السياسية في أيامهم، كما هي الحال اليوم عند الأمم التي عظمت فيها الحكومة، وانحصرت السلطة في رءوسها، وأعظم مثال لها الأمم الفرنسوية، والألمانية، والروسية، والطليانية، والإسبانية، كما قال ديمولان في كتابه سر تقدم الإنكليز السكسونيين: وكل أمة في القديم والحديث تأخذ من غيرها ما يناسبها، أو تدخله الأحوال في روحها وجسمها على غير شعور منها، فإنا شاهدنا في الأوروبيين مثالًا مجسمًا من هذا المعنى.
ولما جاءت أمم الشمال تفتح بلادهم قبلت هذه الأمم أخلاق البلاد التي افتتحتها، قال: وهذه الملاحظات تختلف، ولا شك باختلاف الأهوية والحكومات والحوادث التاريخية، فقد أثرت سلطة الكنيسة مثلًا في إيطاليا آثارًا لا تمحى، وكان من نتائج الحروب الطويلة مع العرب أن قويت العادات العسكرية، وفكرة الإقدام على العظائم في الإسبانيين. ويقال بالإجمال: إن هذا الجزء من أوروبا الذي اشتقَّت ألسنته من اللسان اللاتيني وامتزج منذ الزمن الأطول بسياسة رومية، تقرأ في صفحاته آثار مدنية قديمة كانت فيما مضى وثنية، وإذا كانت الأمم الجرمانية قاومت سلطة الرومان لم تتشبع بالمدنية إلَّا مؤخرًا، دخلتها من طريق انتشار الديانة المسيحية، فلم تلبث في الحال أن انقلبت من نوع من البربرية إلى مجتمع مسيحي. أمَّا مدنية الإسكلافونيين فهي أحدث المدنيات وأسرعها من سائر مدنيات الشعوب؛ ولذلك لا تزال ترى فيها حتى اليوم آثار النقل والاحتذاء، وتفقد فيها صفات الإبداع والاختراع.
•••
ولو شئنا أن نعدد الأمثلة من هذا القبيل، لأصاب نفوس الحضور سأم، ولكن اكتفينا بما أوردنا على مسامعكم برهانًا على تمازج أجدادنا العرب بأهل الغرب، تمازجًا حمد الإخلاف عاقبته، وإن جمودنا عن الأخذ بكل ما في مطاوي مدنيتهم من الأوضاع أمر طبيعي يعد في باب حبنا لوطنيتنا. وإذا كانت أوروبا ظلت تتسكع في دياجي الجهالة قرونًا حتى صحت نيتها على اقتباس المدنية القديمة الرومانية واليونانية والعربية، أفَلَسنا نحن أسرع منها خطًى! ولقد رأيتنا في قرن أو بعض قرن اقتبسنا طرفًا صالحًا لا يستهان به من علوم الغرب وقوانينه في ترتيباته ومصطلحاته. وهاك الآن جملة لإمام العرب في العقل والعلم أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ — رحمه الله — فهي فصل الخطاب في هذا الباب، استمعوا إليها بقلوبكم، فإنها مثال العلم الناضج منذ أحد عشر قرنًا، وأنموذج البيان العربي، أذكرها لا على سبيل التفاضل بين الأمم بل للعبرة والحكمة.
قال الجاحظ في رسالته إلى الفتح بن خاقان في مناقب الترك وعامة جند الخلافة: إن كل أمة وقرن، وكل جيل وبني أب وجدتهم قد برعوا في الصناعات، وفضلوا الناس في البيان، أو فاقوهم في الآداب، أو في تأسيس الملك، أو في البصر بالحرب، فإنك لا تجدهم في الغاية وفي أقصى النهاية إلَّا أن يكون الله تعالى قد سخرهم لذلك المعنى بالأسباب، وقصرهم عليه بالعلل التي تقابل تلك الأمور وتصلح لتلك المعاني؛ لأن من كان متقسم الهوى مشترك الرأي متشعب النفس غير موفر على ذلك الشيء ولا مهيأ له، لم يحذق من تلك الأشياء شيئًا بأسره، ولم يبلغ فيه غايته؛ كأهل الصين في الصناعات، واليونانيين في الحكم والآداب، والعرب فيما نحن ذاكروه في موضعه، وآل ساسان في الملك، والأتراك في الحروب. ألا ترى أن اليونانيين الذين نظروا في العلل ثم لم يكونوا تجارًا ولا صناعًا بأكفهم، ولا أصحاب زرع ولا فلاحة، ولا بناء وغرس، ولا أصحاب جمع ومنع وحرص وكد، وكانت الملوك تفرغهم وتجري عليهم كفايتهم، فنظروا حين نظروا بأنفس مجتمعة وقوى وافرة وأذهان فارغة، حتى استخرجوا الآلات والأدوات والملاهي التي تكون جمامًا للنفس، وراحة بعد الكد، وسرورًا يداوي قرح الهموم؛ فصنعوا بعد المرافق، وصاغوا من المنافع كالقرسطونات والقبانات والإسطرلابات، وآلة الساعات، وكالكونيا، والكشتوان، والبركار، وكأصناف المزامير، والمعازف، وكالطب، والهندسة، واللحون، وآلات الحرب كالمجانيق، والعرادات، والرتيلات، والدبابات، وآلة النفاط، وغير ذلك مما يطول ذكره، وكانوا أصحاب حكمة ولم يكونوا فعلة يصورون الآلة ويخرطون الأداة ويصوغون المثال ولا يحسنون العمل به، ويشيرون إليها ولا يمسونها، يرغبون في العلم ويرغبون عن العمل.
فأما سكان الصين فهم أصحاب السبك والصياغة، والإفراغ، والإذابة، والأصباغ العجيبة، وأصحاب الخرط والنحت والتصاوير، والنسج والخط، ورفق الكف في كل شيء يتولونه ويعانونه وإن اختلف جوهره وتباينت صنعته وتفاوت ثمنه، فاليونانيون يعرفون العلل ولا يباشرون العمل، وسكان الصين يباشرون العمل ولا يعرفون العلل؛ لأن أولئك حكماء، وهؤلاء فعلة، وكذلك العرب لم يكونوا تجارًا ولا صناعًا، ولا أطباء ولا حسابًا، ولا أصحاب فلاحة فيكونوا مهنة، ولا أصحاب زرع؛ لخوفهم من صغار الجزية، ولم يكونوا أصحاب جمع وكسب، ولا أصحاب احتكار لما في أيديهم وطلب ما عند غيرهم، ولا طلبوا المعاش من ألسنة الموازين ورءوس المكاييل، ولا عرفوا الدوانيق والقراريط، ولم يفتقروا الفقر المدقع الذي يشغل عن المعرفة، ولم يستغنوا الغناء الذي يورث التبليد — ترك الاتجاه لشيء — والثروة التي تحدث الغرة، ولم يتحملوا ذلًّا قط فيميت قلوبهم أو يصغر عندهم أنفسهم، وكانوا سكان فياف وتربية عراء لا يعرفون الغمق ولا اللثق — أي ركوب الندى الأرض وركود الريح وكثرة الندى — ولا البخار، ولا الغلظ، ولا العفن ولا التخم، أذهان حداد ونفوس مفكرة، فحين حملوا حدهم ووجهوا قواهم إلى قول الشعر وبلاغة المنطق، وتشقيق اللغة، وتصاريف الكلام، وقيافة البشر بعد قيافة الأثر، وحفظ النسب والاهتداء بالنجوم، والاستدلال بالآثار، وتعرف الأنواء والبصر بالخيل والسلاح، وآلة الحرب والحفظ لكل مسموع، والاعتبار بكل محسوس، وإحكام شأن المناقب والمثالب؛ بلغوا في ذلك الغاية وحازوا كل أمنية، وببعض هذه العلل صارت نفوسهم أكبر وهممهم أرفع، وهم من جميع الأمم أفخر ولأيامهم أذكر.
وكذلك الترك أصحاب عمد وسكان فياف، وأرباب مواش، وهم أعراب العجم كما أن هذيلًا أكراد العرب، فحين لم تشغلهم الصناعات، ولا التجارات، ولا الطب، ولا الفلاحة، والهندسة، ولا غرس ولا بنيان، ولا بثق أنهار، ولا جباية غلات، ولم تكن هممهم غير الغزو والغارة والصيد وركوب الخيل، ومقارعة الأبطال وطلب الغنائم وتدويخ البلدان، وكانت هممهم إلى ذلك مصروفة، وكانت لهذه المعاني والأسباب مسخرة ومقصورة عليها وموصولة بها؛ أحكموا ذلك الأمر بأسره وأتوا على آخره، وصار ذلك هو صناعتهم وتجارتهم ولذتهم وفخرهم وحديثهم وسمرهم، فلما كانوا كذلك صاروا في الحرب، كاليونانيين في الحكمة، وأهل الصين في الصناعات، والأعراب فيما عددنا ونزلنا وكآل ساسان في الملك والسياسة. قال الجاحظ: وليس في الأرض كل تركي كما وصفنا، كما أنه ليس كل يوناني حكيمًا، ولا كل صيني في غاية من الحذق، ولا كل أعرابي شاعرًا فائقًا، ولكن هذه الأمور في هؤلاء أعم وأتم، وفيهم أظهر وأكثر. ا.ﻫ.
وقال الجاحظ في فخر السودان على البيضان يميز بين اليهود والصينيين: وأما الهند فوجدناهم يقدمون في النجوم والحساب، ولهم الخط الهندي خاصة، ويقدمون في الطب، ولهم أسرار بالطب وعلاج فاحش الأدواء خاصة، ولهم خرط التماثيل ونحت الصور بالأصباغ تجد من المحاريب وأشباه ذلك، ولهم الشطرنج وهي أشرف لعبة وأكثرها تدبيرًا وفطنة، ولهم السيوف القلعية وهم ألعب الناس بها وأحذقهم ضربًا بها، ولهم الرقى النافذة في السموم وفي الأوجاع، ولهم غناء معجب، ولهم الكنكلة وهي وتر واحد يمر على قرعة، فيقوم مقام أوتار العود والصنج، ولهم ضروب الرقص والخفة، ولهم الثقافة عند الثقاف خاصة، ولهم معرفة المناصفة، ولهم السحر والتدخين والدمازكية، ولهم خط جامع لحروف اللغات وخطوط أيضًا كثيرة، ولهم شعر كثير، وخطب طوال، وطب في الفلسفة والأدب، وعنهم أُخذ كتاب كليلة ودمنة، ولهم رأي ونجدة، وليس لأحد من أهل الصين ما لهم، ولهم من الرأي الحسن والأخلاق المحمودة مثل الأخلة والقرن، والسواك، والاحتباء، والفرق والخضاب، وفيهم جمال وملح واعتدال وطيب عرق، وإلى نسائهم تضرب الأمثال، ومن عندهم جاءوا الملوك بالعود الهندي الذي لا يعدله عود، ومن عندهم خرج علم الفكر، وما إذا يكلم به على السم لم يضر، وأصل حساب النجوم من عندهم أخذه الناس خاصة.
هذا أجمل وصف للأمم القديمة في الحضارة، وما امتاز به الأبيض والأصفر والأحمر والأسود، والفروق لا ترتفع من بين الأجيال إلَّا بالتربية والتهذيب، والعلوم الأدبية الصحيحة، وتبقى كل أمة في العاقبة على ما لا غنية لها عنه، وهو من دواعي أفقها وتاريخها، والرجاء معقود بأن يكون الدور الجديد الذي تدخل فيه العرب اليوم دور التجدد والنشوء الاجتماعي الكبير، فننبذ كل ما لا يمس أصلًا من أصولنا القديمة، ونقبل كل جديد فيه النهوض والاعتلاء، وأن يعطينا الغرب القدر الذي أخذه من علم أجدادنا نستعين به على قيام أمرنا، فإن الأيام دول، والدهر بالناس قلب حول، فسبحان من لا يشغله شأن عن شأن وهو القابض الباسط المعز المذل.