حرية الأمم١
البشر سائرون في طريق النظام والحرية، آخذون نحو الكمال، ينشئون في حياتهم القومية على غير نشأة الجاهلية، ويرون السعادة الأبدية في احترام الحقوق الشخصية والعمومية، والقيام على أسباب الحياة المادية والمعنوية.
ما أتى على الناس دهر مثل هذا، دخلت فيه مصالحهم تحت قوانين مقررة وأصول محررة، وما عهدت للعلم سلطة عمت البحر والبر، والفاجر والبر، والأبيض والأسود، بل والنبات والجماد، مثل هذا القرن الغريب في شأنه، الغريب في سلطانه، فكأن روح الارتقاء كالنسم تسري في الهواء والماء، وتنزل أحشاء الكبير، كما تحل في صدر الصغير، ولكنها نسمات محيية لا مميتة، وجراثيم نافعة لا ضارة.
العلم نور يصعب بعد الآن أن يعم فريقًا دون آخر، وينير بلدًا أو يغفل آخر، وبتأثيره لن يقوى الظالمون على إتيان ما كانوا يأتونه من هضم حق المستضعفين والمغلوبين.
هذا النور يتقبله أفراد من علية كل أمة، ممن رجحت أحلامهم، وسلمت أبصارهم وبصائرهم، فيوليهم ارتقاء يتقلب في أدواره كالجنين، حتى تضعه أمه ثم تربيه وتغذيه إلى أن يكون منه رجل تام الأدوات أو ناقصها بحسب محيطه وبيئته.
ما ارتقت أمة بصعاليكها ارتقاءها بأعاظمها، ما فنيت أمة في واحد إلا ضعف أمرها واستبيح حماها، وما وكلت شأنها لأهل العقول الكبيرة إلا قويت، وما سعادة الأمة إلا بقدر ما لديها من هذه العقول المثقفة التي تفكر وتمخض وتدبر وتدرب، وعلى نسبة غنائهم ومضائهم يكون ارتقاء أمتهم.
كل أمة نام خيرة أبنائها عن الطلب بحقوقها، يضيعها مرور الزمن، وكل شعب استسلم وسالم تفقد منه غريزة الشجاعة اللازمة في عراك هذا العالم فيذل ويخزي، بل كل أمة لا يتولى أهل الرأي منها أمرها تضعف، وتصير في مؤخرة السفينة البشرية مقطورة بغيرها مستعبدة له.
فالأمة التي لا تسعى إلى تكثير سواد أرباب الرأي وتأخذ بأيديهم، ليتم لهم ما هو أرقى ما تنصرف إليه أطماعهم من حياتهم، من تحسين حال المحتفين بهم، هي أمة ميتة شريرة ظالمة عاملة على دمارها.
ولو جئت تستفتي التاريخ في هذا الشأن؛ لقرأت فيه مئات الأمثلة مما فيه عبرة لمعتبر، وزاجر لمزدجر، وما لنا وإلا يغال فيه إلى القديم، ففي التاريخ الحديث أمثلة كثيرة، فقد نالت الولايات المتحدة ما نالت من الاستقلال بفضل فئة من رجالها، تعلموا على الأمة الإنكليزية، وهم خيرة أبنائها فبزوها وتخلصوا منها، وكذلك كان من جمهوريات الجنوب، فإنها نزعت ربقتها من حكم إسبانيا والبرتغال لما ارتقت عقول أبنائها وتولى زعامتها عقلاؤها.
ولو تقصيتَ تاريخ كل أمة صغيرة كانت أو كبيرة شرقية أو غربية نالت حظها من نور العلم والسعادة الحقيقية، لا تجده نشأ إلا بفضل أهل الرأي منها، ممن تجردوا عن سفساف الأمور وتنزهوا عن الأهواء النفسية.
وتاريخ إنكلترا وألمانيا وإيطاليا وفرنسا واليابان شاهد عدل أبد الدهر بأن العقل هو الذي دبر ما دبر، وأن ما نراه ونعجب به من آثار اجتماعهم ونظامهم هو من عمل السنين، ونتيجة الانكماش والتوفر وحسن التدبير. ولقد نرى العقلاء يصرفون الأمر بواسع حكمتهم، ويدبرون أمور قومهم تدبير من طب لمن حب.
الأمم تقتبس بعضها عن بعض، فإن كانوا قادة حركتها عقلاء، تأخذ عنهم النافع، وإن كانوا جهلاء يختلط عليها الأمر، وتتناول الغث والسمين بلا تمييز، فقد كان من نتائج الثورة الفرنسوية سنة ١٨٤٨ أن انعكست صورة منها على ألمانيا، وكانت العقول قد تخمرت والنفوس قد استعدت، فحدث فيها انقلاب عام، وقام العامة بتدريب الخاصة يطالبون الحكومة بالإصلاح، فاستسلمت لمطالبهم؛ لأنها رأت الحركة عامة، ومن عادة الحكومات ألَّا تحرك ساكنًا إذا رأت السواد الأعظم عليها متألبين.
ونشأت اضطرابات في مونيخ أدت إلى تنازل الملك لويز الأول عن الملك، وارتقاء ماكسيمليان الثاني إلى العرش وتأليف وزارة حرة، وتعدى الحال إلى فينا، فنشأت فيها ثورة قضت على طريقة مترنيخ في الحكم، ونهضت كل من المجر وإيطاليا إلى مثل هذا الغرض، ونشبت الفتنة في برلين، وأصبح الملك والعاصمة تحت أمر الثائرين، واندكت معالم الحكم المطلق.
وكان في رأس تلك الأعمال جماعة من أهل الطبقة الوسطى المهذبة من الأساتذة والكُتاب والمحامين والأطباء والتجار وأرباب المعامل، كلهم يطالبون باتحاد كلمة الإمارات الألمانية، وإحلال الحرية محل العبودية، وتدور أهم مطالبهم على دعوة دار ندوة وطنية، وإطلاق حرية الصحافة وإنشاء مجلس محكِّمين، والاستعاضة عن جيوش دائمة بتسليح الأمة.
وكان بين تلك الصفوف من الحزب الحر فريق عظيم، يرى الاعتدال خيرًا من التطرف، وأن يُعمَد إلى مخاطبة الملوك والأمراء في تحقيق مطالب الإصلاح، وفريق يرى إلغاء سلطة الأشراف والملك وإنشاء نظام جمهوري، ووراء تينك الطبقتين سواد عظيم من السكان، يطالبون ما عدا الإصلاحات السياسية بإصلاحات اجتماعية، تكون فيها السعادة العامة، ويراد بها مساواة الجميع وإلغاء امتيازات كبار المزارعين في القرى، وإصلاح القانون الصناعي في المدن، وحماية أرباب الصنائع من منافسة المعامل، وحماية رجل المعمل من مديره.
كل هذه الحركة الثورية أدت إلى اجتماع دار الندوة في فرنكفورت، وقد طلب الشعب تنظيمها واجتماعها بنفسه وبواسطة أهل الثقة والرأي منه، ولم يسع الحكومة إلا أن تدير هذه الحركة، ولكنهم طلبوا اجتماع دار الندوة، ورخصوا بالانتخاب، ورضوا بأن يجتمع النواب الذين ينتخبون بالانتخاب العام، ليجتمعوا ويتفاوضوا في مصالح البلاد العامة، ويساعدوا الأمراء، وصار القول الفصل للأحرار، ومن ذلك نشأت الوحدة الألمانية التي بهرت آثارها.
هذا ما جرى في ألمانيا في سبيل التحرير من رق العبودية، وغريب في أمر الألمان والإنكليز فإنهم نالوا حريتهم من ملوكهم بالتدريج، ولم يريقوا فيها دمًا، على العكس في الفرنسيس فإنهم نالوا ما نالوا بعد أن بذلوا مهجاتهم، فليت كل أمة قضي عليها بالاستعباد تنال حريتها على أيدي عقلائها بدون فتنة كما نالتها ألمانيا وإنكلترا، فلا خير في الفتن مهما كانت النتائج، ولا خير في أمة لا يتولى عقلاؤها شئونها.