سيرة صلاح الدين
أشار إلينا أحد الأصدقاء أن نزيد القراء من سيرة أبي المظفر الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب أحد أفراد الملة الإسلامية وأكبر أبطال القرون الغابرة، من كان يعلِّم أعداءه كيف تكون الرجولية كما كان قال إمبراطور الألمان الحالي، وأن نتوسع في وقائعه ما أمكن؛ لأن سيرته الشريفة جديرة بأن يتدارسها الملوك والسوقة، ويهتدي بهديها ابن القرن الحاضر والقرون الآتية، فهي مثال الحكمة، كلما كررت حلت، ومهما أطال الناظر بصره فيها زاد بصيرة، وماذا عسانا نقول فيمن جمع الفضائل النفسية، ورُزق من الصبر والثبات وحب الموت حبًّا في إحياء الأمة، وخادنه من أسباب التوفيق ما لم يُكتب لأحد، فخدم الإسلام والمسلمين بعقله وجهاده خدمة الخليفة الثاني، ونفعهم بسيرته كما نفع المأمون العباسي، وكان في زهده وشدته على قدم علي بن أبي طالب وعمر بن عبد العزيز.
اجتمعت لصلاح الدين أرقى صفات تلزم الملوك والسلاطين، وأسمى أخلاق الزاهدين العالمين والكرماء المحسنين، وتربى تربية رشيدة لا يكاد ينشأ عليها ابن أرقى البيوت المالكة لعهدنا في بلاد الغرب مع ما لهم من المدارس الجامعة والمجامع والجمعيات، وأسباب تهذيب النفس، وتربية الملكات، وإثارة العقول.
فلاحت على وجهه مخايل السعادة، وأخذت النجابة منذ نشأته تقدمه من حالة إلى حالة كما قالوا، فنشأ في كنف أبيه في قلعة تكريت، وكان أبوه وعمه بها عمالًا لحاكم تلك الديار، وكان أهله من دوبن بلدة في آخر عمل أذربيجان من جهة إيران وبلاد الكرج، وهم أكراد روادية وهي قبيلة كبيرة من قبائل الأكراد، وانتقلوا من هناك إلى تكريت، وفيها وُلد صلاح الدين.
قال ابن خلكان: أخبرني بعض أهل بيتهم، وقد سألته هل تعرف متى خرجوا من تكريت فقال: سمعت جماعة من أهلنا يقولون: إنهم خرجوا منها في الليلة التي وُلد فيها صلاح الدين، فتشاءموا به وتطيروا منه، فقال بعضهم: لعل فيه الخيرة وما تعلمون فكان كما قال.
قلنا: تشاءموا بولادة صلاح الدين؛ وذلك لأنه صادف أنه أخرج والده من قلعة تكريت بأمر صاحبها بهروز ليلة ولادته. وذكر في الروضتين أن قد اجتمع مرة السلطان صلاح الدين ووالده الأمير نجم الدين في دار الوزارة بمصر، وقد قعدا على طراحة واحدة والمجلس غاص بأرباب الدولتين يوم أراد نور الدين محمود بن زنكي أن تقطع خطبة المصريين، وتقام دعوة بني العباس، وعند الناس من الفرح والسرور ما قد أذهل العقول، فبينا الناس كذلك إذ تقدم كاتب نصراني كان في خدمة الأمير نجم الدين، فقبل الأرض بين يدي السلطان الملك الناصر صلاح الدين، ووالده نجم الدين، والتفت إلى نجم الدين، وقال له: يا مولاي هذا تأويل مقالتي لك بالأمس حين ولد هذا السلطان، فضحك نجم الدين وقال: صدقت والله، ثم أخذ في حمد الله وشكره والثناء عليه، والتفت إلى الجماعة الذين حوله والقضاة والأمراء وقال: لكلام هذا النصراني حكاية عجيبة؛ وذلك أنني ليلة رزقت هذا الولد — يعني السلطان الملك الناصر — أمرني صاحب قلعة تكريت بالرحلة عنها بسبب الفعلة التي كانت من أخي شيركوه — رحمه الله — وقتله النصراني، وكنت قد ألفت القلعة، وصارت لي كالوطن، فثقل علي الخروج منها، والتحول عنها إلى غيرها واغتممت لذلك، وفي ذلك الوقت جاءني البشير بولادته، فتشاءمت به، وتطيرت لما جرى علي، ولم أفرح به ولم أستبشر، وخرجنا من القلعة وأنا على طيرتي به لا أكاد أذكره ولا أسميه، وكان هذا النصراني معي كاتبًا، فلما رأى ما نزل بي من كراهية الطفل والتشاؤم به استدعى مني أن آذن له في الكلام فأذنت له، فقال لي: يا مولاي! قد رأيت ما قد حدث عندك من الطيرة بهذا الصبي، وأي شيء له من الذنب، وبما استحق ذلك منك، وهو لا ينفع ولا يضر ولا يغني شيئًا، وهذا الذي جرى عليك قضاء من الله سبحانه وقدر، ثم ما يدريك أن هذا الطفل يكون ملكًا عظيم الصيت جليل المقدار، فعطفني كلامه عليه، وها قد أوقفني على ما كان قاله، فتعجَّب الجماعة من هذا الاتفاق، وحمد السلطان ووالده الله سبحانه وشكراه.
ولما ملك نور الدين محمود بن زنكي دمشق لازم نجم الدين أيوب خدمته، وكذلك ولده صلاح الدين، ونور الدين هذا تركي الأصل، وهو صاحب الفضل الأول في تأسيس ملك الشام ومصر، بحيث قوي على رد غارات الصليبيين ودفعهم عن الأرض المقدسة، فصلاح الدين يوسف ليس إذن من أصل وضيع، بل من أصل رفيع جدًّا، تعلَّم القدر الذي كان يتعلمه أبناء الكبراء، ونشأ نشأة دينية راقية، وأخذ حسن الخلق والعدل والشجاعة والكرم عن أبيه نجم الدين أيوب بن شاذي، وكان عدلًا مرضيًّا، كثير الصلاة والصلات، غزير الصدقات والخيرات، يحب العلماء، رُبِّي في الموصل، ونشأ شجاعًا باسلًا، وخدم السلطان محمد بن ملكشاه، فرأى منه أمانة وعقلًا وسدادًا وشهامة، فولاه قلعة تكريت، فقام في ولايتها أحسن قيام، وضبطها أكرم ضبط، وأجلى من أرضها المفسدين وقُطَّاع الطريق وأهل العيث، حتى عمرت أرضها، وحسن حال أهلها، وأمنت سبلها، ثم أضيفت إليه ولايتها، وكان نجم الدين عظيمًا في أنفس الناس بالدين والخير وحسن السياسة، وكان لا يمر أحد من أهل العلم والدين به إلا حمل إليه المال والضيافة الجليلة، وكان لا يسمع عن أحد من أهل الدين في مدينة إلا أنفذ إليه ما يستعين به على صلاح حاله.
وكان أسد الدين شيركوه أخو نجم الدين أيوب في قلعة تكريت مع أخيه، وكان شجاعًا باسلًا مثل أخيه، فاتفق أن أسد الدين نزل من القلعة يومًا لبعض شأنه، ثم عاد إليها، وكان بينه وبين كاتب صاحب القلعة قوارص، وكان رجلًا نصرانيًّا، فاتفق في ذلك اليوم أن النصراني صادف أسد الدين صاعدًا إلى القلعة، فعبث به بكلمة ممضة فجرد أسد الدين سيفه وقتل النصراني وصعد إلى القلعة، وكان مهيبًا فلم يتجاسر أحد على معارضته في أمر النصراني، فبلغ بهروز صاحب قلعة تكريت ما جرى، وحضر عنده من خوفه من جرأة أسد الدين، وأنه ذو عشيرة كبيرة، وأن أخاه نجم الدين قد استحوذ على قلوب الرعايا، وأنه ربما كان منهما أمر تُخشى عاقبته، ويصعب استدراكه؛ فكتب إلى نجم الدين ينكر عليه ما جرى من أخيه، ويأمره بتسليم القلعة إلى نائب سيره صحبة الكتاب، فأجاب نجم الدين إلى ذلك بالسمع والطاعة، وقعد هو وأخوه عند عماد الدين زنكي بالموصل، فأكرمهما وأقطعهما الإقطاعات الحسنة، ثم اتصلا بنور الدين محمود بن زنكي إلى أن أرسل أسد الدين شيركوه إلى مصر ومعه ابن أخيه صلاح الدين، وبنور الدين تخرج صلاح الدين، فقد كان نور الدين يرى له ويؤثره، ومنه تعلَّم صلاح الدين طرائق الخير، وفعل المعروف والاجتهاد في أمور الجهاد، وسافر صلاح الدين إلى مصر وهو كاره للسفر، فجعله عمه أسد الدين شيركوه مقدم عسكره سنة تسع وخمسين وخمسمائة، وكان صلاح الدين في السابعة والعشرين من عمره، فعرف أسد الدين حال مصر وكشف أحوالها والدولة الفاطمية فيها مشرفة على الزوال، وقد ضعفت جنديتها ودب الفشل والهرم في البيت العبيدي، وصارت خلافتهم ألعوبة في يد كل ذي قوة.
والسبب في دخول أسد الدين ومعه ابن أخيه صلاح الدين إلى مصر أن الوزير شاور هرب من مصر، واستغاث في الشام بنور الدين من ضرغام بن عامر؛ لأنه قهره وأخذ مكانه في الوزارة، «ولما وصل أسد الدين شيركوه وشاور إلى الديار المصرية واستولوا عليها، وقتلوا الضرغام، وحصل لشاور مقصوده، وعاد إلى منصبه، وتمهدت قواعده، واستمرت أموره غدر بأسد الدين شيركوه، واستنجد بالفرنج عليه وحصروه في بلبيس، وكان أسد الدين قد شاهد البلاد، وعرف أحوالها، وأنها مملكة بغير رجال تمشي الأمور فيها بمجرد الإيهام والمحال»، طمع في الاستيلاء عليها، فبلغ شاورًا أن نور الدين قد زين له الاستيلاء على مصر، وأن أسد الدين لا بدَّ له من قصدها ثانية، فكاتب الإفرنج «وقرر معهم أنهم يجيئون إلى البلاد، ويمكنهم منها تمكينًا كليًّا؛ ليعينوه على استئصال أعدائه، فبلغ نور الدين وأسد الدين مكاتبة شاور للفرنج وما تقرر بينهم، فخافا على الديار المصرية أن يملكوها، ويملكوا بطريقها جميع البلاد؛ فتجهز أسد الدين وأنفذ نور الدين معه العساكر، وصلاح الدين في خدمة عمه أسد الدين شيركوه، وكان توجههم من الشام في سنة ٥٦٢.»
استولى أسد الدين على أزمَّة الوزارة، وقتل شاورًا الوزير قبله بأمر الخليفة الفاطمي جريًا على عادة أجداده في الوزراء، وذلك في ربيع الأول سنة ٥٦٤، كان صلاح الدين «يباشر الأمور مقررًا لها لمكان كفايته ودرايته وحسن رأيه وسياسته»، ومات أسد الدين بعد شهرين وخمسة أيام من تولية الوزارة للعاضد الفاطمي، فتولاها صلاح الدين بعده «وتمهدت القواعد ومشى الحال على أحسن الأوضاع، وبذل الأموال، وملك قلوب الرجال، وهانت عنده الدنيا فملكها، وشكر نعمة الله تعالى عليه، فتاب عن الخمر، وأعرض عن أسباب اللهو، وتقمص بقميص الجد والاجتهاد»، و«من حين استتب له الأمر ما زال يشن الغارات على الفرنج إلى الكرك والشوبك وغيرهما من البلاد، وغشى الناس من سحائب الإفضال والإنعام ما لم يؤرخ من تلك الأيام، وهذا كله وهو وزير متابع القوم، لكنه يقول بمذهب أهل السنة مارس في البلاد أهل الفقه والعلم والتصوف والدين»، وهو يكرم كل وافد، ولا يخيب أحدًا قصده.
بهذا الكرم والعقل دانت مصر لصلاح الدين، وأصبح فيها الحاكم المتحكم واصطناع الفضلاء، وتقريب العقلاء والأفضال على العلماء والشعراء من آكد الطرق في بلوغ المقصود وتهيئة أسباب الملك.
ولما ثبتت قدم صلاح الدين في مصر، وأزال المخالفين — كما قال ابن الأثير — وضعف أمر العاضد، ولم يبق من العساكر المصرية أحد، كتب إليه الملك العادل نور الدين محمود يأمره بقطع الخطبة العاضدية وإقامة الخطبة العباسية، فاعتذر صلاح الدين بالخوف من وثوب أهل مصر، وامتناعهم من الإجابة إلى ذلك؛ لميلهم إلى دولة المصريين، فلم يصغ نور الدين إلى قوله، وأرسل إليه يلزمه بذلك إلزامًا لا فسحة له فيه، واتفق أن العاضد مرض، وكان صلاح الدين قد عزم على قطع الخطبة، فاستشار أمراءه في كيفية الابتداء بالخطبة العباسية، فمنهم من أقدم على المساعدة وأشار بها، ومنهم من خاف ذلك، إلا أنه لم يمكنه إلا امتثال أمر نور الدين، فلما كان أول جمعة من المحرم (٥٦٧) خطب للمستضيء بأمر الله تعالى العباسي فلم ينكر أحد ذلك، فلما كانت الجمعة الثالثة أمر صلاح الدين الخطباء بمصر والقاهرة بقطع خطبة العاضد وإقامة الخطبة للمستضيء بأمر الله تعالى ففعلوا ذلك، ولم ينتطح فيها عنزان، وكتب بذلك إلى سائر الديار المصرية.
وكان العاضد قد اشتد مرضه، فلم يعلمه أهله وأصحابه بانقطاع الخطبة باسمه، وقالوا: إن سلم فهو يعلم، وإن توفي فلا ينبغي أن ننغص عليه هذه الأيام التي بقيت من أجله، فتوفي يوم عاشوراء ولم يعلم، ولما توفي جلس صلاح الدين للعزاء، واستولى على قصره وجميع ما كان فيه، وكان قد رتب فيه قبل وفاة العاضد بهاء الدين قراقوش، وهو خصي يحفظه، فحفظ ما فيه حتى تسلمه صلاح الدين، ونقل أهل العاضد إلى مكان منفرد، ووكل بحفظهم، وجعل أولاده وعمومته وأبناءهم في إيوان بالقصر، وجعل عندهم من يحفظهم، وأخرج من كان فيه من العبيد والإماء، فأعتق البعض ورهب البعض وباع البعض، وأخلى القصر من أهله وسكانه، وكان ابتداء الدولة العبيدية أو الفاطمية بإفريقية والمغرب في ذي الحجة سنة تسع وتسعين ومائتين ومقامهم بمصر مائتي سنة وثماني سنين، وملك منهم أربعة عشر ملكًا، آخرهم العاضد وأولهم المهدي.
أزال صلاح الدين دولة العبيديين على أهون سبب؛ لأنها لم تعد صالحة للبقاء، وكفى أن أمراءها أخذوا يراسلون الإفرنج لتسلم لهم مناصبهم — كما فعل جماعة عمارة اليمني — وأخذوا يراسلون الفرنج في صقلية وساحل الشام ليقلبوا الحكومة الصلاحية، ويعيدوا الدولة العبيدية، فشعر بهم صلاح الدين وصلبهم، وكما فعل غير واحد من ملوك الطوائف في الأندلس، فأنشئوا يحتمون بجيرانهم وأعدائهم، ويستعينون بهم على قتال ذويهم وأبناء ملتهم، فكان ذلك من أهم الأمور في طمع الإسبانيين ببلاد الأندلس واسترجاعها بعد أن حكمها العرب قرونًا، عن علي بن عيسى بن الجراح قال: سألت أولاد بني أمية ما سبب زوال دولتكم قال: أربع خصال، أولها: أن وزراءنا كتموا عنا ما يجب إظهاره لنا، والثانية: أن جباة خراجنا ظلموا الناس، فارتحلوا عن أوطانهم، فخربت بيوت أموالنا، والثالثة: انقطعت الأرزاق عن الجند فتركوا طاعتنا، والرابعة: أيس الناس من إنصافنا فاستراحوا إلى غيرنا، فهذا كان سبب زوال دولتنا. قلنا: وهو سبب ذهاب أكثر الدول، وهذه الخصال كانت — ولا شك — موجودة في الفاطمية.
قال صاحب الكامل: ولما استولى صلاح الدين على القصر وأمواله وذخائره اختار منه ما أراد، ووهب أهله ما أراد، وباع منه كثيرًا، وكان فيه من الجواهر والأعلاق النفسية ما لم يكن عند ملك من الملوك، قد جمع على طول السنين وممر الدهور، فمنه القضيب الزمرد طوله نحو قصبة ونصف، والحبل الياقوت وغيرهما، ومن الكتب المنتخبة بالخطوط المنسوبة والخطوط الجيدة نحو مائة ألف مجلد، وهكذا عادت إلى مصر الخطبة والسكة باسم الخليفة العباسي بعد أن انقطعت دهرًا طويلًا، فأرسل المستضيء بأمر الله خلعة إلى نور الدين في الشام، وأخرى أقل من خلعته إلى صلاح الدين في مصر.
ثم حصلت وحشة بين نور الدين وصلاح الدين؛ وذلك أن الأول طلب إلى الثاني أن يجمع العساكر المصرية، ويأتي إلى الكرك ليجمع هو العساكر الشامية، ويأتيها ليخلصوها من الإفرنج، فبعد أن صدع بالأمر أرسل إليه كتابًا يعتذر فيه عن الوصول باختلال الديار المصرية لأمور بلغته عن بعض شيعة العلويين، وأنهم عازمون على الوثوب بها، وأنه يخاف عليها مع البعد عنها أن يقوم أهلها على من تخلف بها، فلم يقبل نور الدين هذا الاعتذار منه وتغيَّر عليه، وكان سبب تقاعد صلاح الدين أن أصحابه وخواصه خوفوه من الاجتماع بنور الدين، فإذا لم يمتثل أمر نور الدين شق ذلك عليه وعظم عنده، وعزم على الدخول إلى مصر وإخراج صلاح الدين منها، فبلغ الخبر إلى صلاح الدين فجمع أهله ومنهم والده نجم الدين وخاله شهاب الدين الحازمي، ومعهم سائر الأمراء وأعلمهم ما بلغه من عزم نور الدين على قصده وأخذ مصر منه، واستشارهم فلم يجبه أحد منهم بشيء، فقام تقي الدين عمر ابن أخي صلاح الدين وقال: إذا جاء قاتلناه ومنعناه عن البلاد، ووافقه غيره من أهله، فشتمهم نجم الدين أيوب، وأنكر ذلك واستعظمه، وكان ذا رأي وفكر وعقل وقال لتقي الدين: اقعد وسبه، وقال لصلاح الدين: أنا أبوك وهذا شهاب الدين خالك أتظن أن في هؤلاء كلهم من يحبك ويريد لك الخير مثلنا، فقال: لا، فقال: والله لو رأيته أنا وخالك شهاب الدين نور الدين لم يمكننا إلا أن نترجل له، ونقبل الأرض بين يديه، ولو أمرنا أن نضرب عنقك بالسيف لفعلنا، فإذا كنا نحن هكذا فكيف يكون غيرنا، وكل من تراه من الأمراء والعساكر لو رأى نور الدين وحده لم يتجاسر من الثبات على سرجه، ولا وسعه إلا النزول وتقبيل الأرض بين يديه، وهذه البلاد له، وقد أقامك فيها، وإن أراد عزلك سمعنا وأطعنا، والرأي أن تكتب إليه كتابًا وتقول: بلغني أنك تريد الحركة لأجل البلاد، فأي حاجة إلى هذا يرسل المولى نجابًا يضع في رقبتي منديلًا ويأخذني إليك، فما ههنا من يمتنع عليك، وقال لجماعته كلهم: قوموا عنا، فنحن مماليك نور الدين، وعبيده يفعل بنا ما يريد، فتفرقوا على هذا، وكتب أكثرهم إلى نور الدين بالخبر، ولما خلا أيوب بابنه صلاح الدين قال له: أنت جاهل قليل المعرفة، تجمع هذا الجمع الكثير، وتطلعهم على سرك وما في نفسك، فإذا سمع نور الدين أنك عازم على منعه عن البلاد جعلك أهم الأمور وأولاها بالقصد، ولو قصدك لم تر معك أحدًا من هذا العسكر، وكانوا أسلموك إليه، وأما الآن فبعد هذا المجلس سيكتبون إليه، ويعرفونه قولي وتكتب أنت إليه وترسل إليه في المعنى، وتقول: أي حاجة إلى قصدي يجيء نجاب يأخذني بحبل يضعه في عنقي، فهو إذا سمع عدل عن قصدك، واستعمل ما هو أهم عنده، والأيام تتدرج، والله كل وقت في شأن، والله لو أراد نور الدين قصبة من قصب سكرنا لقاتلته أنا عليها حتى أمنعه أو أُقتل، ففعل صلاح الدين ما أشار به والده، فلما رأى نور الدين الأمر هكذا عدل عن قصده، وكان الأمر كما قال نجم الدين أيوب، وتوفي نور الدين ولم يقصده، وملكَ صلاح الدين البلاد، قال ابن الأثير: وهذا كان من أحسن الآراء وأجودها.
هذا هو التوفيق الذي حالف صلاح الدين، دخل مصر كارهًا مع عمه، فصار قائد جندها، ثم تولى وزارتها، فملكها وقلب دولة العبيديين، وكل ذلك بأخذه بالحزم في أموره، واستشارته العقلاء من أهله ورجاله، وكان من طبعه ألَّا يبت أمرًا بدون مشورة، هكذا كان منذ ابتدأ شابًّا إلى أن استولى بعد وفاة نور الدين سنة ٥٦٩ على الشام، إلى أن استخلص بيت المقدس من أيدي الإفرنج، وطردهم من أكثر مدن ساحل الشام، يعمل بقول بشار:
وكان نور الدين قد خلف ولده الملك الصالح إسماعيل، وكان بدمشق عند وفاة أبيه، فسار إلى حلب من دمشق، فلما علم صلاح الدين أن الملك صالح صبي لا يستقل بالأمر، ولا ينهض بأعباء الملك، واختلت الأحوال بالشام، تجهز من مصر في جيش كثيف، وترك بها من يحفظها، وقصد دمشق مظهرًا أنه يتولى مصالح الملك الصالح، فدخلها بالتسليم سلخ سنة سبعين وخمسمائة وتسلم قلعتها، ففرح الناس به، وأنفق مالًا جزيلًا، وسار إلى حلب، فنازل حمص وأخذ مدينتها، ثم استولى على تلك البلاد إلى الفرات وما بعد الفرات، وتوفي الملك الصالح بعد مدة قليلة، فأخذ حلب ابن عمه عز الدين مسعود صاحب الموصل، ثم عاد صلاح الدين سنة ٥٧٧ واستولى على حلب ودانت له البلاد، وفتح بيت المقدس بعد أن ملكه الإفرنج نحو مائتي سنة، ولم يفشل في واقعة من وقائعه مع الصليبيين على كثرة عددهم وعديدهم، اللهم إلَّا في عكا، فاستعادوها منه بعد أن فتحها بواسطة ملك الإنكليز إذ ذاك ريشاردس قلب الأسد.
إن عدل الملك الناصر صلاح الدين يوسف قد أدهش الأوروبيين في ذاك العهد، فكانوا هم يعاهدون فينكثون أما هو هو، فما عاهد ونكث قط، وكثيرًا ما كان بعض خاصته من متعصبة المشايخ الذين لا يعرفون سياسة الملك ولا حسن إدارة الفتوحات، يريدونه على أن يعامِل الصليبيين بعملهم في الانتقام من أسراهم عنده كما فعل أولئك، وقتلوا مرة مئات من أسرى المسلمين، فما كان جوابه إلا الإعراض عن مقترحاتهم، والعمل بسنة اللين واللطف حتى استهوى القلوب الشاردة وأحبه أعداؤه قبل أوليائه، وهذا من أندر النوادر في الملوك، وناهيك بعصره الذي كان عصر التعصب الديني في الغرب والشرق أيضًا، فالصليبيون جاءوا هذه الديار مدفوعين بعوامل الدين واستنقاذ بيت المقدس من المسلمين، وهؤلاء قاموا باسترجاع البلاد بهذا العامل القوي أيضًا.
قال عبد المنعم الجلياني أحد شعراء الملك الناصر صلاح الدين من قصيدة يعلل فيها السبب الذي من أجله أحب الفرنج صلاح الدين:
ملك مصر والشام والجزيرة والعراق واليمن، والملك لما يستتب له على ما يجب، فاستطاع بعقله وإخلاصه لأمته ووطنه أن يدفع غارات الأوروبيين عن أرض الشام ومصر بعد أن رسخت أقدامهم قرنين كاملين، واستجاشوا لهم الأنصار وحشروا من جميع أمم أوروبا العدد الكثير، وبذلوا في ذلك من المال والرجال ما يقدَّر بالملايين والربوات أن هذا من عجائب التاريخ، تقف كتائب من العرب والترك والأكراد في موقف القتال مع الفرنسوي والألماني والإنكليزي والمجري والإيطالي والإسباني والنمساوي والسويسري وغيرهم من أمم الإفرنج، فيبز الأولون الآخرين على قلة عددهم، ولكن الجيوش قد لا تؤتى من قلة أكثر مما تؤتى من سوء السياسة وعتو القواد والاستهانة بالشورى، وما كان المدافع كالمهاجم في وقت من الأوقات.
ومع هذا الملك الضخم الذي كان لصلاح الدين كان يعيش عيش المتوسطين، وينفق بحيث تكاد تعده إلى الإسراف، فقد كانت قطيعة الصلح بينه وبين الإفرنج في القدس مثلًا أن يؤدوا عن كل رجل عشرين دينارًا، وعن كل امرأة خمسة دنانير صورية، وعن كل ذكر صغير أو أنثى دينارًا واحدًا، فمن أحضر قطيعته نجا بنفسه وإلا أُخذ أسيرًا، فأقام صلاح الدين يجمع الأموال ويفرقها على الأمراء والرجال، ويحبو بها الفقهاء والعلماء والزهاد والوافدين عليه، ولم يرحل عن القدس ومعه من المال الذي جبي له شيء، وكان يقارب مائتي ألف دينار وعشرين ألف دينار، قال في البرق: سمعت الملك العادل (أخو صلاح الدين) يومًا في أثناء حديثه في ناديه، وهو يجري ذكر إفراط السلطان في أياديه يقول: إني توليت قطيعة القدس، فأنفذت له ليلة سبعين ألف دينار، فجاءني خازنه بكرة وقال: نريد اليوم ما نخرجه في الإنفاق، فما عندنا مما كان بالأمس شيء، فنفذت له ثلاثين ألف دينار أخرى في الحال، قالوا: وكان يرضى من الأعمال بما تحمل صفوًا عفوًا، وكله يخرج في الجود والجهاد.
وكان يكتفي من اللباس بالكتان والقطن والصوف، ومجلسه منزه عن الهزء، ومحافله حافلة بأهل الفضل، قال العماد: وما سمعت له قط كلمة تسقط ولا لفظة فظة تسخط، يؤثر سماع الأحاديث، ويكلم العلماء عنده في العلم الشرعي، وكان لمداومته الكلام مع الفقهاء ومشاركته القضاة في القضاء أعلم منهم بالأحكام الشرعية، وكان من مجالسه لا يعلم أنه مجالس السلطان، بل يعتقد أنه مجالس أخ من الإخوان، وكان حليمًا مقيلًا للعثرات متجاوزًا عن الهفوات تقيًّا نقيًّا، وفيًّا صفيًّا، يغضي ولا يغضب، ما رد سائلًا، ولا صد نائلًا، ولا أخجل قائلًا، ولا خيب آملًا.
أخذ عقيدته عن الدليل بواسطة البحث مع مشايخ أهل العلم وأكابر الفقهاء، بحيث كان إذا جرى الكلام بين يديه يقول فيه قولًا حسنًا، وإن لم يكن بعبارة الفقهاء، وكان شديدًا على الفلاسفة والمعطلة والدهرية، وكان مواظبًا على صلواته وصيامه عادلًا رحيمًا ناصرًا للضعيف على القوي، وكان يجلس للعدل في كل يوم اثنين وخميس في مجلس عام يحضره الفقهاء والقضاة والعلماء، ويفتح الباب للمتحاكمين حتى يصل إليه كل أحد من كبير وصغير وعجوز هرمة وشيخ كبير، وكان يفعل ذلك سفرًا وحضرًا على أنه كان في جميع أوقاته قابلًا لما يعرض عليه من القصص كاشفًا لما يُنهى إليه من المظالم.
كان من عظماء الشجعان، قوي النفس، شديد البأس، عظيم الثبات، لا يهوله أمر، وصل في ليلة واحدة من الإفرنج نيف وسبعون مركبًا إلى عكا، وهو لا يزداد إلا قوة نفس وكان يعطي دستورًا (أي يسرح عسكره) في أوائل الشتاء، ويبقى في شرذمة يسيرة في مقابلة عدتهم الكثيرة، إذ كان عدد جيشهم لا يقل عن خمسمائة إلى ستمائة ألف، ومع هذا تراه صابرًا هاجرًا — في محبة الجهاد في سبيل الله — أهله وأولاده ووطنه وسكنه وسائر ملاذه، قانعًا من الدنيا بالسكون في ظل خيمة تضربها الرياح يمنة ويسرة، وكان لا بدَّ له من أن يطوف حول العدو كل يوم مرة أو مرتين إذا كان قريبًا منهم، وإذا اشتد الحرب يطوف بين الصفين، ويخرق العساكر من الميمنة إلى الميسرة، يرتب الأطلال ويأمرهم بالتقدم والوقوف في مواضع يراها، وكان يشارف العدو ويجاوره.
انهزم المسلمون في يوم المصاف الأكبر بمرج عكا، حتى القلب ورجاله، ووقع الكُوس والعلم، وهو ثابت القدم في نفرٍ يسير، فانحاز إلى الجبل يجمع الناس، ويردهم ويخجلهم حتى يرجعوا، ولم يزل كذلك حتى عكس المسلمون على العدو في ذلك اليوم، وقُتل منهم زهاء سبعة آلاف ما بين راجل وفارس، ولم يزل مصابرًا لهم، وهم في العدة الوافرة إلى أن ظهر له ضعف المسلمين فصالح وهو مسئول من جانبهم، فإن الضعف والهلاك كان فيهم أكثر، ولكنهم كانوا يتوقعون النجد والمسلمون لا يتوقعونها، وكانت المصلحة في الصلح.
ولقد كان بركب للحرب وهو على غاية المرض كما فعل يوم عكا، وقد اعترته دمامل ظهرت عليه من وسطه إلى ركبته بحيث لا يستطيع الجلوس، وكان مع ذلك يركب من بكرة النهار إلى صلاة الظهر يطوف على الأطلاب، ومن العصر إلى صلاة المغرب وهو صابر على شدة الألم وقوة ضربات الدمامل، وكان يعجب من ذلك فيقول: إذا ركبت يزول عني ألمها حتى أنزل.
ومع كل هذه الصفات التي نعدِّد منها ولا نعدها لكثرتها وإجماع المؤرخين من العرب والإفرنج عليها، كان السلطان حسن العشرة، لطيف الأخلاق، طيب الفكاهة، حافظًا لأنساب العرب ووقائعهم، عارفًا بسيرهم وأحوالهم، حافظًا لأنساب خيلهم، عالمًا بعجائب الدنيا ونوادرها، بحيث كان أصحابه يستفيدون في محاضرة منه ما لا يسمعون من غيره، وكان يستحسن الأشعار الجيدة، ويرددها في مجالسه، وكثيرًا ما ينشد قولهم:
وكان يعجبه قول ابن المنجم في خضاب الشيب:
وكان يسأل الواحد منهم عن مرضه ومداواته ومطعمه ومشربه وتقلبات أحواله، وكان طاهر المجلس لا يُذكر بين يديه أحد إلا بالخير، وطاهر السمع فلا يحب أن يسمع عن أحد إلا بالخير، وطاهر اللسان فما شوهد مولعًا بشتم قط، حسن العهد والوفاء، فما أُحضر بين يديه يتيم إلا وترحم على مخلفه وجبر قلبه وأعطاه خبز مخلفه، وسلمه إلى من يكفله ويعنى بتربيته، وكان لا يرى شيخًا إلا ويرق له، ويعطيه ويحسن إليه.
قال ابن شداد: ولقد رأيته، وقد مثل بين يديه أسير إفرنجي قد أصابه كرب بحيث أنه ظهرت عليه أمارات الخوف والجزع، فقال للترجمان: من أي شيء يخاف؟ فأجرى الله على لسانه أن قال: كنت أخاف قبل أن أرى هذا الوجه، فبعد رؤيتي له وحضوري بين يديه أيقنت أني ما أرى إلا الخير، فرق له ومنَّ عليه وأطلقه، قال: ولقد كنت راكبًا في خدمته في بعض الأيام قبالة الإفرنج، وقد وصل بعض اليزكية ومعه امرأة شديدة التخوف كثيرة البكاء متواترة الدق على صدرها، فقال اليزكي: إن هذه خرجت من عند الإفرنج، فسألت الحضور بين يديك وقد أتينا بها، فأمر الترجمان أن يسألها قصتها، فقالت اللصوص: المسلمون دخلوا البارحة إلى خيمتي وسرقوا ابنتي، وبت البارحة أستغيث إلى بكرة النهار فقال لي المملوك: السلطان هو أرحم، ونحن نخرجك إليه تطلبين ابنتك منه، فأخرجوني إليك وما أعرف ابنتي إلا منك، فرقَّ لها، ودمعت عينه، وحركته مروءته، وأمر من ذهب إلى سوق العسكر يسأل عن الصغيرة من اشتراها، ويدفع له ثمنها ويحضرها، وكان قد عرف قضيتها من بكرة يومه، فما مضت ساعة حتى وصل الفارس والصغيرة على كتفه، فما كان إلا أن وقع نظرها عليها، فخرت إلى الأرض تعفر وجهها في التراب والناس يبكون على ما نالها، وهي ترفع طرفها إلى السماء ولا نعلم ما تقول، فسُلمت ابنتها إليها، وحُملت حتى أعيدت إلى عسكرهم.
ولقد كان يسمع من المستغيثين والمتظلمين أغلظ ما يمكن أن يسمع، ويلقى ذلك بالبشر والقبول دلالة على حرية وسعة صدر، وقد كان يومًا بعض خدمه يلعبون بسرموزة (بانتوفل) في ناحية، فوقعت على رأسه، فأدار وجهه كأنه لم يحدث شيء، وتظاهر بأنه لم ير شيئًا، وكان الحافظ بن عساكر يدخل قصره يقرأ الحديث، فكانت جلبة الخدم ترتفع، فتكرر ذلك حتى قال الحافظ يومًا: ما هذا؟ كنا في عهد نور الدين ندخل هذا المكان، والناس كأن على رءوسهم الطير، إشارة إلى أن صلاح الدين يتساهل مع خدمه ملقيًا حبلهم على غاربهم.
لما فتح صلاح الدين القدس وغيرها من السواحل، ولم يبق في أيدي الصليبيين إلا عكا وصور وغيرها من البلاد التي لا شأن لها، ورأى أن المشيب أنذره بقرب الأجل عقد العزم على الحج إلى بيت الله الحرام، فلما بلغ القاضي الفاضل كتب إليه مشيرًا بتبطيله: إن الفرنج لم يخرجوا بعد من الشام، ولا سلوا عن القدس، ولا يوثَق بعدهم في الصلح، فلا يؤمن مع بقاء الفرنج على حالهم وافتراق عسكرنا وسفر سلاطيننا سفرًا مقدرًا معلومًا مدة الغيبة فيه أن يسيروا ليلة، فيصبحوا في القدس على غفلة، فيدخلوا إليه بالعياذ بالله، ويفرط مد يد الإسلام، ويصير الحج كبيرة من الكبائر التي لا تُغتفر، ومن العثرات التي لا تقال إلى أن يقول: يا مولانا! مظالم الخلق كشفها أهم من كل ما يُتقرب به إلى الله، وما هي بواحدة في أعمال دمشق من المظالم من الفلاحين ما يستغرب معه وقوع القطر، ومن تسلط من المقطعين على المنقطعين ما لا ينادي وليده، وفي وادي بري والزبداني من الفتنة القائمة والسيف الذي يقطر دمًا ما لا زاجر له، وللمسلمين ثغور تريد التحصين والذخيرة، ومن المهمات إقامة وجوه الدخل وتقدير الخرج بحسبها.
ملأت أوقاف صلاح الدين مصر والشام وهي غير منسوبة إليه، قال ابن خلكان: ولقد فكرت في نفسي من أمور هذا الرجل، وقلت: إنه سعيد في الدنيا والآخرة، فإنه فعل في هذه الدنيا هذه الأفعال المشهورة من الفتوحات الكثيرة وغيرها، ورتَّب هذه الأوقاف العظيمة، وليس فيها شيء منسوبًا إليه في الظاهر. ا.ﻫ. مات صلاح الدين ولم يخلف مالًا عن ٥٧ عامًا، وخلف سبعة عشر ولدًا ذكرًا وابنة، ولم يخلِّف سوى دينار واحد بعد أن دخلت في يديه ثروة الفاطميين، وجُبي إليه خراج البلاد المفتتحة، وحاز مغانم الصليبيين مرات.
تغيَّب السلطان صلاح الدين أربع سنين في فتح القدس وغيرها من بلاد الساحل وفلسطين، لم يدخل خلالها دمشق مع أنه «كان يحب البلد، ويؤثِر فيه الإقامة على سائر البلاد»، فرأى أولاده الأفضل والظاهر والظافر وأولاده الصغار، وأقام في دمشق أيامًا يتصيد هو وأخوه الملك العادل أبو بكر بن أيوب وأولاده «ويتفرجون في أراضي دمشق ومواطن الصبا، وكأنه وجد به راحة مما كان فيه من ملازمة التعب والنصب وسهر الليل ونصب النهار، وما كان ذلك إلا كالوداع لأولاده ومرابع نزهه»، وبينا هو على ذلك ونفسه تحدثه بزيارة مصر بعد طول الغيبة عنها ناداه مولاه فلباه فأبكى المُقَل وأدمى الحناجر.
مات — رحمه الله — والألسن تذكره بالمحمدة حتى قيام الساعة، فكان رجلًا يُعد بعشرات الملايين، وكم من ألوف لا يساوون واحدًا وواحد يساوي ألوفًا، مات وقد زُلزل المسلمون لفقده، كما كتب القاضي الفاضل في ساعة موته إلى ولده الملك الظاهر صاحب حلب من بطاقة: لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة، إن زلزلة الساعة شيء عظيم، كتبت لمولانا السلطان الملك الظاهر أحسن الله عزاءه، وجبر مصابه، وجعل فيه الخلف في الساعة المذكورة، وقد زُلزل المسلمون زلزالًا شديدًا، وقد حَفرت الدموع المحاجر، وبلغت القلوب الحناجر، وقد ودعت أباك ومخدومي وداعًا لا تلاقي بعده، وقد قبَّلت وجهه عني وعنك، وأسلمته إلى الله تعالى مغلوب الحيلة ضعيف القوة راضيًا عن الله عز وجل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وبالباب من الجنود المجندة والأسلحة المغمدة ما لا يدفع البلاء ولا ملك يرد القضاء، وتدمع العين ويخشع القلب ولا نقول إلا ما يرضي الرب، وإنا عليك يا يوسف لمحزونون، وأما الوصايا مما يحتاج إليها، والآراء فقد شغلني المصاب عنها، وأما لائح الأمر فإنه إن وقع اتفاق فما عدمتم إلا شخصه الكريم، وإن كان غير ذلك فالمصائب المستقبلة أهونها موته وهو الهول العظيم، والسلام.