مصطفى كامل١
في وفاة فقيد الوطن والصحافة التي اهتم لها أهل القطر عامة، وأبانوا في احتفالهم بتشييعه ومأتمه عن عواطف شريفة وشعور حيٍّ نامٍ، أعظم درس يتدارسه المصريون، ولا سيما النابتة الجديدة منهم.
وُصف الفقيد العزيز بما وُصف به من الأوصاف التي هو جدير بها، وذرفت الدموع لهول المصاب به في إبان شبابه، وأكبرت الأمة أعماله وأقواله، وقامت بالواجب من إكرامه وإجلاله، كل هذا حق وكل هذا بزعماء النهضات وقادة الأفكار جدير، ولكن إذا صارت تلك الروح التي كانت بالأمس تهيج العواطف، وتلعب بالقلوب إلى جوار ربها، فالواجب علينا أن نبحث في السر الذي اهتدى إليه صاحبها الراحل، فأثَّر هذا الأثر المحمود في هذه الحقبة القصيرة من الزمن.
كثيرون مثله كانوا يدخلون المدارس ويتعلمون ويتهذبون، فتراهم وهم صغار في المدرسة نفوسًا تتلهب غيرة، وقلوبًا تتأوه على قرب أوقات العمل لتأتي بما يجب عليها نحو أمتها ومجتمعها ونفسها، فما هو إلا بضع سنين حتى تتبدل أفكارهم وينطبعون بطابع غير الذي كنت تعهده فيهم.
التاريخ — كما يقولون — يحكم لمصطفى كامل فيما أتاه من الخير لهذه البلاد، وإن كانت أعماله عند المنصفين أعظم شاهد حي على أن الرجل لم يكن مبرأ من العيوب، ولكن محاسنه تربو كثيرًا على نقائضها، وهذا ما ننشده في رجالنا، ونتمنى لو يكثر الأفراد الذين على شاكلته من أكثر الوجوه في كل فرع من فروع العمل في هذا الجهاد العالمي.
مصطفى كامل قال وكتب وخطب وجاهد وناضل ونافس وقاوم وتعب، وقد كافأته أمته على حسن صنيعه بأن بذلت نحوه عواطفها حيًّا وميتًا، فذهب مأسوفًا عليه مذكورًا بالرحمة، وطوي بساطه بما عليه، ولكن أمته حية كبيرة كل يوم تلد ولاداتها، وكل يوم يُدفن رجالاتها.
إن غاب مصطفى كامل فلا ينبغي أن تغيب عنا سيرته الذكية، وكيف وصل إلى المجد المؤثل والعز الأقعس، هو لم يؤت من المواهب ما لم يؤته أحد من العالمين، بل امتاز بامتياز واحد، ويا له من امتياز امتاز «بإرادة» تعمل، والإرادة هي رأس ماله، وهي في أفراد الشرق قليلة، ويا للأسف إرادة مصطفى كامل هي التي بلغت به ما بلغت، وهو فتى قبل الثلاثين، فما بالك لو كان بلغ السبعين والثمانين.
صحة الإرادة هي التي تنقص أبناء الشرق؛ ولذلك تراهم — وإن تعلموا وتهذبوا — يظلون وراء الغربيين في جهاد الحياة، وإن فاقوهم بعض الأحيان في الذكاء والنشاط، وكلما كانت الإرادة في صاحبها أقوى كان تأثيره أشد وعمله أسد.
يحزنني والله أن أرى كل يوم في مصر من الأفاضل المهذبين ما لم أحلم بوجود أمثالهم من قبل، ثم تراهم — وبعضهم ممن تهيأت لهم أسباب النعمة — خاملين خائفين ضعافًا في الإرادة إلى حدائهم، إذا قاموا ببعض الواجبات يخشون أن تزول عنهم نعمتهم، ويحل بهم الويل والثبور.
لو كان المتعلمون منا يعلمون كل بما فيه من إرادة ما يجب عليهم عمله، لما أتى علينا ربع قرن إلا وقد نشأ لمصر عشرات من أمثال مصطفى كامل، منهم في السياسة، ومنهم في العلم، ومنهم في الأدب، ومنهم في المال، ومنهم في إصلاح الأخلاق، ومنهم في إصلاح البيوت، ومنهم في غير ذلك. وليس معنى هذا أن يكون في الأمة ألوف مثل مصطفى كامل في السياسة، فإن أفرادًا فيها يكفون، ولكن يجب أن يكون عشرات في كل فرع من فروع المجتمع، فالعالم الذي يعلِّم الناس فيخرجهم من الظلمات إلى النور، والأديب الذي يرقق شعورهم، والكاتب الذي يؤثر فيهم، والكيماوي الذي يعلِّمهم صنع الأسمدة ومعالجة التربة، والزارع الذي يتوفر على البذر والغرس، والمهندس الذي يحفر الأقنية والترع ويتعهد السدود والجسور، والصانع الذي يحيك النسيج، ويصنع الصفيح والمصفح، كل هؤلاء ومئات من غيرهم ممن يتعاطون الحِرَف الضرورية في العمران ليسوا إذا كانت لهم إرادة كإرادة مصطفى كامل في الفرع الذي توفر على خدمة حياته إلا نافعين، يرتفع بهم الرأس كما يرتفع الآن رأس المصري الوطني بذكر مصطفى كامل.
حب الشهرة من العوامل القوية في قيام المجتمعات، فمن كان ولعه بالشهرة على أصوله تلحقه عن استحقاق ولا يلحقها، كانت شهرته نافعة له ولأمته، ولا يلام في حب الشهرة إلا من يغالي فيها ويجعلها ديدنه ودينه، كما لا يلام في حب الأثرة إلا المغالي فيها أيضًا، والأثرة أو حب الذات موجودة في فِطَر البشر وإن اختلفت درجاتها، فصحة الإرادة هي التي نطلب أن تنتشر بين هذه الأمة انتشار العاطفة الوطنية، فإذا كثرت فينا ففيها ولا شك عن مصطفى كامل أكبر عزاء، وإذا لم تنمُ في أفرادنا فنقول ما يقوله بعضهم: إن مصطفى كامل كان فلتة من فلتات مصر، ولمصر في كل مدة رجل كبير تمتاز به يرتجل بين الرجال، وتنصره على أي حال، ويكون موضوع عجب الأجيال بعد الأجيال.