النبوغ المصري١
يا سادتي ويا إخواني
منذ نحو مائة سنة والقطر المصري ينهض نحو الترقي، ويحتذي مثال الغرب في نهوضه، وكان من قبل لولا جامعة الأزهر الدينية أشبه بكثير من بلاد العرب في قلة العلم والنور، وبالأزهر المعمور لم ينفك المصريون على اختلاف أعصارهم وأدوارهم أن يكون فيهم من إذا سُئل سدد في علوم الشريعة وما يلزمها من علوم اللسان.
ولقد خَلَّد التاريخ اسم «محمد علي الكبير» جد الأسرة المالكة الحالية بما أسداه إلى مصر من الأيادي البيضاء، فأنعشها من سقطتها، وأيقظها من طويل رقدتها، ولو كُتب له تحقيق جميع أمانيه الشريفة لكان العرب اليوم من أرقى الدول الكبرى في العالم، فإنه — رحمه الله — لم يترك بابًا من أبواب النهوض المادي والعلمي إلا وطرقه على أجمل صورة، وعمل بجميع الأسباب لحياة مصر.
وكان لعلماء الفرنسيس الذين استصحبهم نابوليون في حملته على مصر والشام يد طولى في وضع أساس هذه النهضة المباركة على النظام الأوروبي، وعُدَّ علماء فرنسا من بعد العامل الأقوى في معاونة محمد علي على إسعاد القطر، ثم جاء علماء الإنكليز والألمان والطليان وغيرهم من أمم أوروبا، وخدموا مصر بتنظيم سككها وإصلاح ريِّها، وإحياء زراعتها، واستخراج آثارها وإنماء القوى المفكرة العاملة في بنيها.
نعم، كان العلم في مصر حتى الثلث الأخير من القرن الماضي لا يتعدى إلا قليلًا دائرة الدينيات والأدبيات، ولمحمد علي الكبير يرجع الفضل الأكبر في بث مبادئ العلوم التي يسمونها خطأ الحديثة، إذ كان لأجدادنا فيها القدح المعلى، وهم الذين نقلوها إلى أمم الحضارة الحديثة مشفوعة بأبحاثهم وزياداتهم واختراعاتهم، وبعد عهد محمد علي ضعفت العناية بالعلوم كان انقطع سندها دهرًا طويلًا، وكادت البلاد تدخل في سبات مؤلم وتنبت مميت، كان ضعف العلم بعد عهد شارلمان في فرنسا، وبين محمد علي وشارلمان شبه كبير في التناغي بحب المعارف والفضائل، وكذلك حدث في الآستانة بعد دور الفاتح، فانقطعت الرغبة في العلم بموت السلطان محمد الثاني، وكاد يُزال كل ما أسسه لإحياء معالمه. والارتقاء والانحطاط، ولا سيما في هذا الشرق القريب تبع للفرد أكثر من الجماعة، فإن أسعد الحظ الأمة بسلطان عاقل عادل سعدت ونجحت والعكس بالعكس.
ولما انتهى في مصر دور الناقلين والمترجمين والجامعين والمقتبسين في بعض ضروب العلم، جاء دور الباحثين والمؤلفين والمبدعين، واستطاع المصريون بإصلاح شئونهم الاقتصادية أن يتلقوا العلم الصحيح في جامعات الغرب، فكان لهم على الدوام بضع مئات من الطلبة، وكثر ارتحال الأوروبيين إلى مصر، وطواف المصريين إلى أوروبا، واشتد التمازج بين المصري والغربي، فاقتبس المصري بعض ما ينقصه من أساليب النهوض، وكان لإدخال الإصلاح على الأزهر ودار العلوم ومدرسة القضاء الشرعي والحقوق والزراعة والهندسة وغيرها من المدارس العالية والثانوية والابتدائية، ولا سيما الكتاتيب في القرى والمزارع، ما نراه من آثار نهوضها، فندهش له ونهش، وكلما كثر سواد المتعلمين هناك جاءت منهم طبقة أمثل من التي سبقتها، وتراجع كل نتفة في العلم والصنائع، وأصبحت الكلمة للأخصائيين والمفننين، وكلما استحكمت حلقات هذا الرقي استغنت مصر عن الغريب، واكتفت بعقول العاملين من رجالها، سنة الخالق في النشوء والارتقاء.
تطورت مصر في نهضتها الأخيرة أطوارًا كثيرة، فكان الضعف يعروها تارة والقوة تصاحبها أخرى، وكان يُعد نوابغ رجالها بادئ بدء بالآحاد، فأمسوا يُعدون اليوم بالمئات، وكلما امتزج المصري بعنصر آخر من العناصر الشرقية حسنت ملكاته، وصحت على الترقي إرادته ونياته، وقد نبغ لعهدنا رجال ليسوا مفخرًا من مفاخرها فقط، بل هم مفخر العرب والشرق عامة، ومنهم والحق يقال أفراد لا يقلون عن أرقي علماء الغرب في ذكائهم ومضائهم وبحثهم ودرسهم، وذلك في مجموع العلوم البشرية، ولا سيما في الهندسة والكيمياء والتصوير والطبيعة والحقوق والطب والجراحة والسياسة والإدارة، ومن أعظم نوابغها زميلنا — أحد أعضاء المجمع العلمي العربي — المرحوم أحمد كمال باشا، الذي نحتفل الآن بتكريم اسمه، واستمطار الرحمات عليه، فقد كان أجزل الله ثوابه مثال النبوغ المصري وآخر طراز كامل من أفراد الدهر، رُزق صفات العالم العامل، وصرف نقد عمره في خدمة الآثار، ولا سيما علم الآثار المصرية حتى أصبح على صعوبة هذا الفن وحداثته الحجة الثبت فيه، فكان إذا كان ذُكِر في الغرب والشرق علم الآثار المصرية يتمثل في شخصه ويتجسد في جهاده، عمل هذا بعيدًا عن الجعجعة في زاوية صغيرة من بلده، فعمت شهرته الخافقين، ولم تخف جلائل أعماله على الغريب دع القريب.
أيها السادة، إذا قام مجمعنا بتعداد بعض مآثر نابغة الشرق في الآثار، فإنه يقضي واجبين: واجب للعلم بتكريم أحد حملته وأساطينه، وواجب آخر أعم وهو التنويه بذكر النابغين من المصريين، وتمجيد النهضة العلمية المصرية التي لها الفضل الأعظم على نهوض العرب النازلين في أرجاء القارتين العظيمتين آسيا وأفريقيا.
لمصر ولرجال مصر، ولا نكران للجميل، أثر ظاهر في الأمة العربية والإسلام، فإذا ذكرنا مصر فإننا نذكر آخر دولة انحطت من ممالك العرب وأول دولة نهضت فيه، إننا بترداد اسم مصر نذكر أمة حفظت لنا تراث الأجداد، ننوه بشعب كريم احتفظ بلساننا ومشخصاتنا، ولولا مصر بعد عهد الجراكسة والترك لاضمحلت العربية ومقوماتها، ولتأخر نهوض العرب قرونًا، وكنا أقرب إلى الاندماج في غيرنا من العناصر المتغلبة، ولساءت حالنا العلمية أكثر مما ساءت، وشاهدنا ونشاهد تخريباتها في جسم جامعتنا ومجتمعنا.
انتفع الشام — وهو القطر الشقيق الأصغر لمصر المحبوبة — بالنهضة المصرية أكثر من عامة الأقطار العربية للجوار وأواصر القربى وكثرة التشابه بينهما، ولأن أقدارهما في عهد الدول الإسلامية كانت واحدة وحياتهما الاجتماعية متجانسة، هكذا كانت مصر والشام في دولة الراشدين والدولة الأموية فالعباسية فالطولونية فالفاطمية فالأيوبية، فدولة الأتراك المماليك، فدولة الجراكسة، فدولة الترك العثمانية، وكانت مصر منبعث حضارة في معظم أزمانها، كما كانت في العقود الأخيرة من حياتها ملجأ ومعتصمًا للأحرار، ومباءة ممتازة للعلم الإسلامي تأخذ عنها الأقطار والأمصار.
نعزي مصر بفقيدها النابغة ونحييها بهذه المناسبة، ونرجو لها حياة طيبة بأبنائها النجباء، نحيي بها أهم جزء من بلادنا العربية طالما حنى على العرب وحمل النور إليهم مغتبطًا، مصر اليوم باريز العرب وعاصمتهم الأدبية تشبه إيطاليا في عهد النهضة أواخر القرون الوسطى، وكان سرى منها ضياء المعارف والفنون إلى سائر ممالك أوروبا، فقامت بتأثيرها المدنية الغربية الحديثة، ومن مصر سار أمس ويسير اليوم وسيسير غدًا شعاع من هذا النور النافع، فيعم خيره الأصقاع العربية كافة، ويومئذ يغتبط العرب، ويهنئون لإبرازهم بفضل قرائح بنيهم آثارًا حسنة في العلم والصناعة، كما فعلت يابان في القرن الماضي، وعندئذٍ يعيد الشرق إلى الغرب ما كان استبضعه من بضائع العلوم والصناعات، ويقضي الدين مع الشكر وبرد القرش عشرة، فنعد شيئًا من مجموعة المدنية الحاضرة، كما كنا في العصور السالفة كل شيء، وكان لنا الأثر المحمود في تكوين المدنية الغابرة.
والآن أترك الكلام لرصيفي الأستاذ معلوف يتلو على مسامعكم صورة مصغرة بل مجسمة من عمل عضونا الذي فُجعنا بفقده، يتمثل لكم فيها النبوغ المصري أحسن تمثُّل، ونرفع تعازينا وأسفنا من ضفاف بردي إلى بني قومنا على شطوط النيل المبارك لفقد رجلهم ورجلنا العزيز، ونطلب له من المولى تعالى العفو والرضى والرحمة، وإنا لله وإنا إليه راجعون.