أعداء الإصلاح
ما خلا عصرٌ من عصور الإسلام من أعداء لكل جديد، ومن جامدين ينكرون كل ما لا يألفون؛ فقد لقي المعتزلة والفلاسفة والمتكلمون والنظَّار من أعداء العقل كل شدة في القرون الراقية، وكان عقل الملوك هو الذي يَحول على الأغلب بين الجامدين، وبين ما يشتهون من الاعتداء على القائمين بتأييد سنن العقل، والناصرين بأقوالهم وأفعالهم مذاهب السنة والنقل. ومن نظر نظرة مجردة عن الغرض في سيرة المناهضين للمصلحين على اختلاف الأعصار، يجدهم جروا على غير ما يعتقدون وطلبوا بمقاومة المصلحين إرضاء العامة ونيل الحظوة لديهم، واستتباع الجاهلين من الملوك والسلاطين، وقليل جدًّا من كان الإخلاص رائدهم في أعمالهم ومآتيهم.
يقاوم في العادة الخاملُ النابهَ لتكون له مكانة كمكانته، ويتحامل الجاهل على العالم؛ ليُعرف بين قومه بأنه قسيمه في صناعته، ومثيله في فضيلته، ويطعن الجامد الممخرق على من يحب أن يعبد الله بعقل، ويبحث في عالم الكون والفساد بروية؛ ليتظاهر بأنه بعيد الغور شديد الغيرة، وما أقواله إلَّا رياء، وما أفعاله إلَّا وساوس وأهواء.
لقي المصلحون من الأهاويل في الأمة العربية أكثر مما لقيه أمثالهم في الأمم الأخرى فيما نحسب، وخصوصًا بعد القرن السابع، وقد توزعت بلاد الإسلام ملوك الطوائف، وكان أكثرهم على جانب من الجهل والغباوة، لا يهمهم إلَّا رضاء المشعبذين بالدين؛ ليحوِّلوا العامة إليهم فيقوى بهم ضعفهم، ويستعينوا بهم على تكبير رقعة ممالكهم، وبسط ظل سلطانهم على النفوس، فيستمتعوا بشهواتهم وبذخهم ورفاهيتهم.
ساعد على الانتقام من العالمين العاملين أناس من أرباب المذاهب سرت أحكامهم بقوة أربابها، فكان الحكم يجري على المبتدعة وأرباب الأهواء بزعمهم بموجب قوانين لهم سنُّوها، ومنها المذهب المالكي الذي كان بحكم قاضيه يُقتل أكبر عالم في الأمة — والقتل يعد من التعزير في مذهب مالك — خالف المألوف من العادات التي اعتقدتها من أصل الدين، وعُد الخروج عنها كفرًا وإلحادًا، وما أسهلهما وأسهل صدور الحكم بهما من أعداء الإصلاح المماحكين.
سالت الدماء كالأودية في بغداد؛ للفتن بين الحنابلة والشافعية مرات، وسالت دماء كثير من الخاصَّة في كل قرن، وعُذبوا وأوذوا بواسطة أرباب المظاهر من المتنطعين، ممن شق عليهم أن يروا كلمة الإصلاح الديني والدنيوي تفعل في الأرواح فعلها المطلوب، فحدثتهم أنفسهم أن يتساوى المفكرون وغيرهم في نظر العامة إن لم يتمكنوا من إسقاطهم؛ ليخلو لهم الجو، ويقتصر في تقبيل الأيدي، وطلب الدعوات والتماس البركات عليهم دون سائر المنتسبين للعلم والشريعة.
ومن غريب أسرار الله في خلقه أن جميع من قاوموا المخلصين من المصلحين دثروا ودثرت أسماؤهم، وظلت أسماء من عادوهم وآذوهم تشهد بالجهل المركب على أعداء العقل السليم والتعاليم الصحيحة.
أين أعداء الغزالي والسهروردي والآمدي وابن جرير وابن تيمية وابن رشد؟ ذهبوا كلهم كأمس الدابر، وبقيت الأمة تردد على وجه الدهر أسماء هؤلاء المصلحين العالمين، وتتناقل ما خطته أناملهم من سطور الإصلاح: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ.
لا يذكر التاريخ اليوم إلَّا أفرادًا ممن ناوءوا رجال العقل الرجيح، والنقل الصحيح؛ اشتهروا لاحتكاكهم بالحكام، وموَّهوا على العامة بحسن حالهم؛ لمظهر دنيوي أرادوه وحطام من الدنيا تطالَّت نفوسهم لأن يقتنوه؛ كأن يكون أحدهم قاضيًا يخاف أن يشركه ذاك العالم المستنير في قضائه، أو شيخ عامة حدثته نفسه بالاستئثار بهذا المظهر الذي يعتقده جماع فضائل الدنيا والآخرة.
أمثال هؤلاء الممخرقين المنافقين، بدلوا المعالم والتعاليم؛ مرضاة لأرباب الرئاسات والزعامات، وسجلوا على أنفسهم العار للبت فيما لم ينزل به سلطان، وجازوا حد الشرع وهم يتظاهرون بأنهم المؤتمَنون عليه، ومنهم ومن أعمالهم يشكو ويئن، كما تشكو المدنية والإنسانية:
إن من يتظاهرون بالدين وباطنهم منه بريء أضر على الدين ممن يعقُّونه، ومن يدعو في الغالب إلى الإصلاح ويتخذ التقية أمام العامة درعه، يكون أقرب إلى الانحلال والضلال منه إلى من لا يطنطنون بأنهم دعاة الدين والقائمون عليه، وعنهم يؤخذ وبهديهم يهتدى. وشر الناس من يُسِرون غير ما يُظهرون، ويتلونون باللون الذي يرون أنه أوفق لهم؛ لجر مغنم وإحراز مظهر.
إن هؤلاء العامة ممن يتطالُّون إلى مقامات العلماء، هم أفسد من العامة؛ لأن شيطانهم يتكلم، وشيطان هؤلاء أخرس لا يبدي ولا يعيد. هم سوس الفساد في كيان هذا المجتمع، يدَّعون معرفة كل شيء وهم لم يتقنوا شيئًا إلَّا ما سولته لهم أنفسهم، وحدثتهم به شياطينهم. شعارهم التدليس والتظاهر بالغيرة على المحارم، ولو بحثت عن أعمالهم لرأيتهم أول المجترئين على انتهاك حرمات الأديان والشرائع وهم يقدسونها بلسانهم، والعابثين بحدودها وهم يدعون الناس إلى الوقوف عند مراسيمها، والسعاية بالمصلحين ليفتُّوا في أعضادهم، ويفسدوا عليهم أمرهم، ويأبى الله إلَّا أن يتم نوره ولو كره أبالسة التدجيل والتضليل من علماء السوء.
لو كان أعداء المصلحين على شيء من التدين الحقيقي، لكانوا اشتغلوا منذ القديم بإرشاد العامة وإنكار المنكرات الماثلة في كل عصر أمامهم مثول الشمس في السماء رأد الضحى، ولكن المتدلسة أمثالهم يتعلمون من قشور العلوم ما يستعينون به على الأخذ من أموال الحكومات والأغنياء والتغرير بالعامة؛ ولذلك كان أكثر اشتغال من سموا أنفسهم بالعلماء في كل عصر بالفقه؛ لأنه سلم إلى ما يتطاولون إليه من الجاه والمال وحسن الحال.
قال حجة الإسلام الغزالي في الإحياء: اعلم أن الخلافة بعد رسول الله ﷺ تولاها الخلفاء الراشدون المهديون، وكانوا أئمة علماء بالله تعالى فقهاء في أحكامه، وكانوا مستقلين بالفتاوى في الأقضية، فكانوا لا يستعينون بالفقهاء إلَّا نادرًا في وقائع لا يُستغنى فيها عن المشاورة، فتفرغ العلماء لعلم الآخرة وتجردوا لها، وكانوا يتدافعون الفتاوى وما يتعلق بأحكام الخلق من الدنيا، وأقبلوا على الله تعالى بكنه اجتهادهم، كما نُقل من سِيَرهم، فلما أفضت الخلافة بعدهم إلى أقوام تولوها بغير استحقاق، ولا استقلال بعلم الفتاوى والأحكام، اضطروا إلى الاستعانة بالفقهاء، وإلى استصحابهم في جميع أحوالهم؛ لاستفتائهم في مجاري أحكامهم، وكان قد بقي من علماء التابعين من هو مستمر على الطراز الأول، وملازم صفو الدين، ومواظب على سمت علماء السلف، فكانوا إذا طولبوا هربوا وأعرضوا، فاضطر الخلفاء إلى الإلحاح في طلبهم لتولية القضاء والحكومات، فرأى أهل تلك الأعصار عز العلماء، وإقبال الأئمة والولاة عليهم وإعراضهم عليهم، فاشرأبوا لطلب العلم، توصلًا إلى نيل العز ودرك الجاه من قبل الولاة، فأكبوا على علم الفتاوى، وعرضوا أنفسهم على الولاة وتعرفوا إليهم وطلبوا الولايات والصلات منهم، فمنهم من حُرم ومنهم من أنجح، والمنجح لم يخلُ من ذل الطلب ومهانة الابتذال، فأصبح الفقهاء بعد أن كانوا مطلوبين طالبين، وبعد أن كانوا أعزة بالإعراض عن السلاطين، أذلة إلَّا من وفقه الله تعالى في كل عصر من علماء دين الله.
وقد كان أكثر الإقبال في تلك الأعصار على الفتاوى والأقضية؛ لشدة الحاجة إليها في الولايات والحكومات، ثم ظهر بعدهم من الصدور والأمراء من يسمع مقالات الناس في قواعد العقائد، ومالت نفسه إلى سماع الحجج فيها، فعلمت رغبته إلى المناظرة والمجادلة في الكلام، فأكب الناس على علم الكلام وأكثروا فيه التصانيف، ورتبوا فيه طرق المجادلات، واستخرجوا فنون المناقضات في المقالات، وزعموا أن غرضهم الذب عن دين الله والنضال عن السنة وقمع المبتدعة، كما زعم من قبلهم أن غرضهم بالاشتغال بالفتاوى الدين وتقلد أحكام المسلمين؛ إشفاقًا على خلق الله ونصيحة لهم، ثم ظهر بعد ذلك من الصدور من لم يستصوب الخوض في الكلام وفتح باب المناظرة فيه؛ لما كان قد تولَّد من فتح بابه من التعصبات الفاحشة والخصومات الفاشية المفضية إلى إهراق الدماء وتخريب البلاد، ومالت نفسه إلى المناظرة في الفقه، وبيان الأولى من مذهب الشافعي وأبي حنيفة — رضي الله عنهما — على الخصوص، فترك الناس الكلام وفنون العلم، وانثالوا على المسائل الخلافية بين الشافعي وأبي حنيفة على الخصوص، وتساهلوا في الخلاف مع مالك وسفيان وأحمد — رحمهم الله تعالى — وغيرهم، وزعموا أن غرضهم استنباط دقائق الشرع، وتقرير علل المذهب، وتمهيد أصول الفتاوى، وأكثروا فيها التصانيف والاستنباطات، ورتبوا فيها أنواع المجادلات والتصنيفات، وهم مستمرون إلى الآن، وليس ندري ما الذي يُحدث الله فيما بعدنا من الأعصار. فهذا هو الباعث على الإكباب على الخلافيات والمناظرات لا غير. ولو مالت نفوس أرباب الدنيا إلى الخلاف مع إمام آخر من الأئمة، أو علم آخر من العلوم لمالوا أيضًا معهم، ولم يسكتوا عن التعلل بأن ما اشتغلوا به هو علم الدين، وألَّا مطلب لهم سوى التقرب إلى رب العالمين. ا.ﻫ.
هذا موجز من تاريخ المتحذلقين في الدين، وصفَ به حجة الإسلام طغمتهم في عصره، وعصره الخامس من أفضل عصور النور في الإسلام، فما بالك بأمثالهم بعده وقد حدثت من الأحداث ما كان الجهل سَدَاها ولُحْمتها، والنَّيل من المخلصين مبدأها وغايتها، وما أصدق ما قاله حجة الإسلام أيضًا في هؤلاء الطغام أعداء الإسلام والسلام، في أول كتابه التفرقة بين الإسلام والزندقة قال: وأنى تتجلى أسرار الملكوت لقوم إلههم هواهم، ومعبودهم سلاطينهم، وقبلتهم دراهمهم ودنانيرهم، وشريعتهم رعونتهم، وإرادتهم جاههم وشهواتهم، وعبادتهم خدمتهم أغنياءهم، وذكرهم وساوسهم، وكنزهم سواسهم، وفكرهم استنباط الحيلة لما تقتضيه حشمتهم، فهؤلاء من أين تتميز لهم ظلمة الكفر من ضياء الإيمان، أبإلهام إلهي، ولم يفرغوا القلوب عن كدورات الدنيا لقبولها، أم بكمال علمي، وإنما بضاعتهم في العلم مسألة النجاسة وماء الزعفران وأمثالهما؟ هيهات هيهات، هذا المطلب أنفس وأعز من أن يُدرك بالمُنى، أو يُنال بالهوينا، فاشتغل أنت بشأنك، ولا تضيع فيهم بقية زمانك فَأَعْرِضْ عَمَّن تَوَلَّى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى.
وبعد، فإن في هذا العصر فئات في هذا الشرق ممن استعاذ منهم المصلحون في كل عصر، ولكنهم ويا للأسف حثالة الحثالة، ومثال الجهالة والضلالة، إن قلت لهم: تعاليم فلان، قالوا لك: أونسيت تعاليم فلان فهي أحسن وأسلم، وإن حرضتهم على علم كذا قالوا علم كذا أفضل، وإن شرحت لهم أساليب المدنية، قالوا: إننا لم نؤتَ إلَّا من قبل ديننا فتركناه، فصارت حالنا إلى ما ترى، وإن حدثتهم بطرق الارتقاء قالوا: إنه يدعونا إلى الانحلال كأنه ما كفانا ما نحن فيه من البدع، وإن دعوتهم إلى الأخذ بما صح من أحكام الحلال والحرام، أوردوا لك من أقوال شيوخهم، وأقاصيص عجائزهم، وأحلام حالميهم، ومثبطات المتزهدين والمتورعين منهم ما تسأل الله معه السلامة، وإن حببت إليهم المعروف قالوا لك: ما أكثر المنكرات.
حمَلة أهواء، لا حمَلة شريعة، وجعاب لغو وحشو لا قوَّام على ما يقوم العقل، سلاحهم المغالطة، ومجنَّهم السفسطة، رأس مالهم الثرثرة، وربحهم الغلبة بالباطل، والمهارة في المهاترة على غير طائل، مناهم من دينهم ودنياهم أن تُفخم ألقابهم، وتُملأ كراشهم وعبابهم، وتُرفع بين الغاغة منازلهم، ويزيدوا بسطة في الجسم لا في العقل، وتُكتب لهم في العالمين شهرة بعيدة، بدون أن يعدوا لها أداة من أدواتها، ويصرفوا في التحصيل ساعة من أوقاتهم، دأبهم الحط من الفضلاء، وهجيراهم النيل من العظماء.
يرقعون ويلفقون، ويراوغون ويماحكون، واكسون ماكسون، مدلسون موالسون، يعادون ما يجهلون، يجمدون على ما يعرفون، يصانعون ولا يتلطفون، يفتون وهو لا يعلمون، يجتهدون ويخطئون، يهرفون بما لا يعرفون، يعدُّون علوم البشر ذرة من معارفهم، ويحتقرون ما لا تبلغه مداركهم، كأن فضل الله محصور فيهم، وكأن من لا يجري على هواهم محروم من السعادة هالك، أولئك هم ثعالب الإنس يأكلون لحم إخوانهم بالغيبة والوشاية، ويمشون بين الناس بالنميمة والسعاية، أسود ولكن على نحت أثلات مخالفيهم، نمور ولكن لا يحسنون الوثب إلَّا على من لا يصلحون خَدَمة لهم، يفترون ويغرون، يغوون ولا يخافون، يخربون ولا يدرون، يخرفون ولا يستحون، يمخرقون ولا ينتهون، فهم أضر على الناس من قطاع السابلة، وأفسد في جسم المجتمع من الأدواء القتالة، يرجعون بالأمة القهقرى، والدواعي تهيب بها إلى التقدم، ويزينون لها الفناء والعدم، والمصلحة قاضية بالتماسك والتعاون، ويُملون لها الذل والصغار، وركوب متن العار، والحالة تدعو إلى تحكيم العقل في كل قول وعمل.
فاللهم ثبِّت أقدام المصلحين، وهيئ لهم من الكفاية ما يقوون به على رد غارات أعداء الأمة في إصلاحها، فقد كفاها جهلًا وضلة بما كسبت أيدي المنافقين، وما جلبوا عليها من الخزي المبين وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا … وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا.