مقدمة

حين نشرنا كتابَينا عن الجسد والصورة والتأويل، وقبلها دراسات عديدة عن الجسد والصورة ومعها ترجماتنا التي تدخل في السياق نفسه، كانت دراسة الجسد والصورة في العالم العربي لا تزال جنينيةً ولم تحظَ بعدُ بالاهتمام الكبير وأحيانًا بالتهافت الذي لحظناه في السنين الأخيرة، إلى الحد الذي غَدَت معه هذه الموضوعات أحيانًا عبارةً عن صياغات بلاغية لا تسترشد بأي هاجس معرفي أو بحثي أو استكشافي. والحقيقة أن دراسات الجسد باللغة العربية لا تزال لحد الآن فقيرةً وهشة، نظرًا لِمَا يكتسيه هذا المبحث من تشابك وتعقُّد يتعلَّق بالطبيعة المتعدِّدة للجسد، وتوزُّعه بين مساعٍ منهجية ومعرفية مختلفة، ونظرًا أيضًا لكونه يدخل في الثنائيات الميتافيزيقية المؤسسة والأكثر عرضةً للحظر والتهميش والتحريم والتحديد والتنميط. وهي بالأحرى تحظى باهتمام بعض الباحثين القلائل الذين يكتبون باللغات اللاتينية كالفرنسية من قبيل فاطمة المرنيسي في دراساتها عن الحريم، ومالك شبيل في سلسلة دراساته عن الجسد والسرايا والحب، وعبد الكبير الخطيبي في كتاباته عن الوشم والجسد الشرقي.

ومنذ ذلك الحين صارت موضوعة الجسد هَوسًا أدبيًّا يتردَّد هنا وهناك، ويتحوَّل في غالب الأحيان إلى موضوعة أدبية محضة؛ والحال أن التطرُّق لموضوعات من قبيل الجسد والصورة والمتخيَّل يتطلَّب، في حدودٍ دنيا، تقاطعًا معرفيًّا بين مجموعة من العلوم والمعارف لعل أقلها الفلسفة والتحليل النفسي والأنثروبولوجيا، الثقافية منها بالأخص.

إن الجسد كِيان يتموقع بين هذه الاهتمامات التحليلية من غير أن ينحصر فيها، ومدلولاته تتعدَّد بحيث يصعب أحيانًا حصرها أو الإلمام بها، والبحث فيه صار طليعةً للبحث في الجماليات الفنية والاجتماعية وفي التحوُّلات القِيَمية التي تعرفها مجتمعاتنا المعاصرة، في وقت صارت فيه الصورة إحدى مرادفاته التي تلتصق به وتُغْني معطياته الوجودية، بهذا الشكل أو ذاك.

ولا يخفى، في هذا الإطار، أن قضية الجسد الأنثوي منه والذكوري بكل متعلَّقاته الأنثروبولوجية والثقافية، الواقعية منها والمتخيَّلة، هي أولًا وقبل كل شيء قضية الذات بكل حمولاتها النفسانية والفلسفية والاجتماعية. من ثم، فإن توجُّه الباحث العربي إلى طرق قضايا الجسد والصورة أصبحت اليوم، في ظل التحوُّلات التي تعرفها المجتمعات العربية، تأخذ، إضافةً إلى الطابع الاستراتيجي، طابعًا سياسيًّا؛ إذ هي تمس مسائل عويصةً من قبيل المظاهر الاجتماعية كالحجاب والمظاهر الحميمة كالجنس والحدود بين الأجناس والممارسات الغوائية، والخطابات حول الجسد. كما أنها، من ناحية أخرى، صارت تجد موقعًا أكيدًا لها في الممارسات الفنية المعاصرة التي صارت النساء الفنانات فيها بالأخص يعبِّرن بها عن مسعاهن النَّقَّاد تجاه الردَّات القيمية التي عرفتها المجتمعات العربية في العقود الأخيرة.

إن الدراسات التي يتضمَّنها هذا الكتاب والتي تمتد على زمن يفوق العَقد، إن كان لها من ميزة، فهي تتجلَّى في تعدُّدية مصادرها وموضوعاتها، وإن كان لها من مزيَّة، فهي تتجلَّى في تآلفها حول موضوعة رباعية تتجلَّى في الذاتية والغيرية، وفي الجسد والصورة، وفي المتخيَّل والواقع، وفي النص ونظيره.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥