الذكورة والأنوثة في الثقافة العربية الإسلامية: من الأصول إلى الحداثة
لم تعرف الثقافة العربية قط مفهومًا مقابلًا تمام المقابلة لما يُعرَف في الإنجليزية
ﺑ gender، للدلالة على الأنثوي والذكوري والعلاقات
بينهما؛ فالذكورة والأنوثة مصطلحان مرتبطان بالخلق أكثر من ارتباطهما بالخليقة.
وارتباطهما بالخليقة؛ أي بالتكوين الفيزيولوجي الإنساني، مُحْدث وعارض ومتصل بالوجود
الإنساني لا بالوجود عمومًا. من ثم، غالبًا ما يُستعمل مفهوم الذكورة والأنوثة في الأمور
الشرعية المتصلة بالنكاح أو الإرث أو ما شابهها، باعتبار العموم؛ أي بغض النظر عن السن.
أمَّا في مجال التواصل الاجتماعي، فإن الحديث عادةً ما يتم عن الرجل والمرأة، باعتبار
تعيينهما للنوع الإنساني. وفي هذا السياق، ربما كان ارتباط المصطلح بالخلق أكثر أصليةً
منه في الأمور العبادية والاعتقادية. جاء في القرآن: إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا
إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ (سورة
الحجرات، الآية ١١). ويتبدَّى طابع العموم هنا واضحًا من حيث إنه يُحيل إلى التوزيع البشري
الأصلي الذي ينبني عليه الاجتماعي كعلاقات، تبدأ بالعلاقة الأصلية بين الذكر بالأنثى،
لتتفرَّع عنها التنظيمات الاجتماعية الأخرى.
مع ذلك، لا يعني هذا أبدًا أن الثقافة العربية الإسلامية خِلوٌ من هذا المفهوم. إنها
بالأحرى تصوغه وفقًا لأولوياتها ومقاصدها الدينية والعبادية، وتدمجه في السيرورة
الإيمانية والاجتماعية للمسلم. كما أن الصيغ التي اتخذها في المجتمع العربي الحديث، منذ
بدايات القرن العشرين، تأخذ صبغةً اجتماعية اتصلت في أغلب الأحوال بعمل المرأة خارج
البيت، وتقلُّدها لمختلِف الوظائف التي ظلَّت حِكرًا على الرجل. بيد أن هذه الوظائف الجديدة
المتصلة بالذكورة والأنوثة كمفهوم اجتماعي كانت وما زالت تفترض مراجعة مجموعة من
التقاليد النصية والفقهية بالكثير من الاجتهاد، وبالنظر بالأساس إلى التطوُّرات التي
عرفتها المجتمعات العربية، والظواهر الاجتماعية الجديدة التي حتَّمت ليس فقط تكييف أحكام
النساء، خاصةً منها المتعلِّقة بالجسد والتواصل مع الآخرين، مع المعطيات الجديدة والوظائف
الجديدة للمرأة في المجتمع الحديث، وإنما أيضًا إيجاد الأجوبة الملائمة للدينامية التي
بدأت تعرفها المجتمعات العربية، خاصةً مع انخراط النساء في العمل السياسي والثقافي
والديبلوماسي، ولو بشكل وئيد ومتثاقل.
جينيالوجيا الذكورة والأنوثة في المجتمع العربي
حين ظهر الإسلام في القرن السابع للميلاد، لم يواجه فقط مُخلَّفات الجاهلية
الاعتقادية والروحية، من عبادةٍ للأصنام وتفاعلٍ هجين ومحلي بين المعتقدات
النصرانية واليهودية والمجوسية، وإنما واجه أيضًا الكثير من المُخلَّفات الاجتماعية
التي كان عليه التعامل معها بالشكل الذي يُبْطلها أو يُدخلها في النسيج الثقافي
الاجتماعي الجديد. والحقيقة أن الرسالة المحمدية ظهرت في مجتمع كانت المرأة فيه
شريكًا للرجل في الكثير من قضايا المجتمع الاجتماعية والاقتصادية والثقافية؛ فقد
كانت النساء يتمتَّعن في المجتمع الجاهلي بحق الاسم؛ أي بالنسبة السُّلالية لهن،
مثلهن في ذلك مثل الرجال، وهو الأمر الذي انتفى مع ظهور الإسلام، وكان لهن موقع
واضح في المبادلات الرمزية والحركية التجارية التي تتم بين القبائل
والمناطق.
وإذا كان هذا الدور ليس عامًّا ولا شاملًا، فإن امتداداته الإيجابية في عهد الإسلام
ستظل راسخةً بالرغم من التحوُّلات التي عرفتها علاقة الرجل بالمرأة، وهي الامتدادات
التي سوف تتقوَّى وتأخذ أبعادًا جديدةً مع الفتوحات، مانحةً للاختلاط العرقي والثقافي
والحضاري بين العرب والأمم المحيطة بهم صبغةً جديدة سيكون لها أبلغ الأثر في صياغة
صور جديدة لهذه العلاقة.
لنقرِّر بدءًا أن ما يلاحَظ حاليًّا في البلدان العربية من كبت وتحديد للخطاب حول
الجنس والمرأة والجسد يطول عموم الناس، يمكن اعتباره ضربًا من التراجع الذي طال
الحياة العربية الحديثة والمعاصرة، مقارنةً مع ما عرفه تاريخ الإسلام منذ القرن
الأول الهجري (ق ٧ الميلادي) وإلى حدود القرن الخامس عشر. وبهذا الصدد يصرِّح صلاح
الدين المنجد، أحد الأوائل الذين طرقوا قضايا الجنس عند العرب: «والعجيب أن أجدادنا حين
يقتحم العرب لم يكونوا مثلنا، وكان موقفهم من الجنس كله حريةً وانطلاقًا؛ فما كانوا يتحرَّجون
من الحديث عن المرأة وعن الجنس، ومن التأليف فيهما. وأعتقد أن حريتهم الواسعة تلك
هي التي سبَّبت التزمُّت الذي نجده اليوم.»
١ وبالرغم من أننا لا نُشاطر المنجد هذه السببية التاريخية في بساطتها،
فإننا مع ذلك نُقر معه أن ثمة تراجعًا كبيرًا، وأن الحَجْر والحَجْز اللذين يمارسان على
المرأة وعلى حريتها الخطابية ظاهرة لم تعرفهما بهذه الحدة ولا بهذا المستوى المرأة
الأموية أو العباسية ولا حتى المرأة في عهد الخلفاء الراشدين. وتكفي الإطلالة
السريعة على ما وصَلَنا من أخبار عن النساء وعن بلاغاتهن وعن الخلافات التي عاشها
الفقهاء في الأمور الحساسة التي تخصهن؛ لكي نتأكَّد من المواقع والمواقف التي كن يجدن
فيها كامل كِيانهن ووجودهن.
من ثم، فالثقافة العربية الإسلامية لم تتطرَّق، كما أشرنا لذلك قبلًا، للذكورة
والأنوثة إلا في علاقتها بالقضايا الشرعية كالعورة والنكاح. ومردُّ ذلك في نظرنا
إلى كون الإسلام والثقافة العربية التي تطوَّرت في تاريخ البلدان العربية، ثم الثقافة
العربية الحديثة لم تواجه قط مشكلة الجنس إلا في صيغته النكاحية، اعتبارًا بأن
مصطلح النكاح يجمع بين النكاح الشرعي والجماع، أو العلاقة الجنسية، واعتبارًا أيضًا
إلى أن كل عناصر الشذوذ والكِيانات الاستثنائية عن هذه القاعدة تُعتبر هامشيةً من
خصيان وخَناثَى وغِلمان … إلخ.
لقد عرف المجتمع الجاهلي شتى أنواع العلاقة المؤسسية بين الرجل والمرأة في إطار
مشروع هو النكاح، غير أن هذه العلاقة الشرعية لم تقف قط حائلًا بينهما في ممارسة
«مشروعة» للاتصال الجنسي والجسدي خارج مؤسسة الزواج الشرعية. لقد كانت المرأة تلجأ
إلى اتخاذ خِدْن في ممارسة علاقة نكاح سرية مطبوعة بالدوام (نكاح الخِدْن). وكانت
تستقبل في خبائها رجالًا آخرين، فتمارس معهم الجنس برضاها، وإذا ما حملت من أحدهم
تقوم بتعيينه وتُلحق به المولود. كما أن الزوج قد يختار أحد الفحول فيُرسل له زوجته
كي ينكحها طمعًا في ذرِّية شريفة يفتخر بها. كما كان الرجلان من عرب الجاهلية يتفقان
على تبادل زوجتيهما نكاحًا (نكاح البدَل). ولتفادي صعوبات المهر يزوِّج الجاهلي ابنته
لآخر على أن يزوِّجه بدوره ابنته (نكاح الشغار). كما يُذكر أن الرجل منهم قد يتزوَّج
ابنته ومنهم زرارة ابن تميم الذي تزوَّج ابنته وخلَّف منها الأولاد. وفي حالات أخرى،
كانوا لا يتورَّعون في الجمع بين الأختين، ويتزوَّج الواحد منهم زوجة أبيه بعد وفاته.
٢
إضافة إلى ذلك، عرف المحيط الثقافي والاجتماعي العربي، منذ ما قبل الإسلام، مختلِف
أنواع الكِيانات والممارسات الهامشية التي أشرنا إليها من غير أن يجعل منها كِيانات
وسطيةً بين الذكر والأنثى، أو أن يمنحها تبريرًا نظريًّا قابلًا لاحتوائها فكريًّا؛ فقد
كان التخنث واردًا في الجاهلية واتُّهم به أبو جهل. كما أن السِّحاق انتشر بين العرب
خاصةً في الحيرة على عهد المناذرة. وكانت هند بنت النعمان أول امرأة ذكر العرب هواها
لزرقاء اليمامة.
٣
هذه الظواهر اعتُبرت في عصر الإسلام مجرد ظواهر غير طبيعية تشذ عن الفطرة، ولا
تدخل بأي حال في علاقة النكاح باعتبارها علاقة خصوبة واستمرار للنسل. وقد يقوم
المرء بمسح لمختلِف المصادر الفقهية التي تتناول مختلِف أوجه الحياة الاجتماعية، من
غير أن يجد إلا بعض الأحاديث التي ترمي بالمخنثين خارج المجتمع الإسلامي؛ فلقد نهى
الإسلام عن حديث المخنَّث، ومحادثة المخنَّث، وعن صُحبة المخنَّث، وعن إجابة دعوة المخنَّث،
بل لقد جاء في الحديث «لعن الله المخنَّث» كما رواه البخاري. وبهذا الصدد جاء في
المنهيات للترمذي، تعبيرًا عن الرفض القاطع لكل خلخلة لثنائية الذكورة
والأنوثة:
«فالمخنَّث خلقٌ هائلٌ شأنه، فظيعٌ أمره، فظاهره رجل وباطنه امرأة، فالذي في باطنه
حوَّل أحوال الظاهر حتى مدَّه إلى أحوال النساء قولًا ومشيًا وعملًا ولباسًا وزيًّا
وهيئة، فقد حلَّت به اللعنة لأنه مُسخ فنفسُه نفوس النساء وخِلقته خلقة الرجال؛ فلذلك
لا يكاد تجد منهم تائبًا لأن نفسه الممسوخة قد عبرت قلبه وطبعه إلى أخلاق النساء
وكلهن للرجال، وهذا آية من آيات الله عز وجل يعتبر بها المسلمون ولِيستعيذوا بالله
من شرها، فكأنه جعل هذا موعظةً للخلق ليشكروه على لباس العافية. وقد كان على عهد
رسول الله (
ﷺ) عِدة فنفاهم إلى البقيع. فلما كان زمن عمر رضي الله عنه
استأذن بعضُهم في الدخول إلى المدينة ليسأل الناس فأذن لهم في الجمعة مرة.»
٤ بيد أن الفقهاء المتأخرين قد تعمَّقوا في الأمر فميَّزوا بين الخنثى الذي
تظهر عليه بعض علامات الرجال من نبات لحية أو قُدرة على الجماع أو احتلام، أو كان له
ثدي مستوٍ، فيكون حُكمه حكم الرجال، والخنثى الذي تظهر عليه علامات النساء من حيض
وحبل وانكسار ثدي … إلخ، ويكون حكمه حكم المرأة. أمَّا إن لم تظهر علامات الذكورة أو
علامات الأنوثة، أو تعارضت هذه المعالم في الشخص نفسه، فهو مشْكِلٌ لعدم إمكان
ترجيح الأنوثة أو الذكورة. وإذا ثبت الإشكال أُخذ في الخنثى المشكل بالأحوط في ما
يتعلَّق بالنظر، فيُعتبر مع النساء رجلًا ومع الرجال امرأة. وتغليبًا لجانب الحظْر كما
يقول الحنابلة، يكون النظر إليه كالمرأة.
٥
لكن اختلاف الفقهاء ولجوءهم للتوفيق يتبدَّى واضحًا في تحديد عورة الخنثى؛ فالحنابلة
يعتبرون عورة الخنثى المشْكِل كعورة الرجل لأنه اليقين والأنوثة مشكوك فيها؛ ومنهم
حنابلة آخرون اعتبروا عورة الخنثى كعورة المرأة، لأن احتمال كونه امرأةً يوجب
الاحتياط، أمَّا الشافعية فاعتبروا أنه لا يجوز للخنثى الاقتصار على ستر عورة الرجل
لاحتمال الأنوثة. وإذا تقرَّر ذلك، فلا يلزمه مع ذلك أن يتشبَّه في اللباس بالمرأة. كما
لا فدية على الخنثى إذا ستر رأسه ووجهه عند الإحرام؛ لاحتمال أنه امرأة في الصورة
الأولى ورجل في الصورة الثانية.
٦
ولا يمكن قياس هذا الإنكار والإقصاء في العصر الأول للإسلام إلا بما سُنَّ في
الإسلام من محاربة للزنا باعتباره فقدانًا للتوازن الاجتماعي وسيادةً لحرية الرغبة،
وللواط والسِّحاق باعتبارهما قلبًا لنظام الشهوة الإسلامي وتجاوزًا لثنائية الذكورة
والأنوثة. بيد أن الفقهاء تنبَّهوا في ما بعدُ إلى كون الخنثى، ولو كان خنثى مشكلًا،
جزءًا
من المجتمع لا يمكن إقصاؤه، وإلا شكَّل ذلك ثغرةً في النظام الفقهي الإسلامي؛ من ثم
فإن ذلك لا يمنعه أبدًا من ممارسة الشريعة، غير أن أحكامه وما ينبغي عليه القيام به
من اختصاص الفقهاء وأئمة الإسلام.
وإذا كان المجتمع العربي الوسيط قد عاش الكثير من الحرية الخطابية والثقافية التي
جعلت اللواط المحرم تحريمًا قاطعًا، ومباشرة الغلمان، ظاهرةً مقبولة ثقافيًّا لا في
أوساط الشعر و«المجون»، وإنما أيضًا في الأوساط الصوفية،
٧ وفي الكثير من الكتابات الأدبية والأخبارية؛ فإن تلك الظاهرة قد ترتَّبت
أصلًا عن المستوى الحضاري والثقافي الذي بلغته المجتمعات العربية الإسلامية آنذاك،
والحرية الفكرية التي كانت قد غدت واقعًا لا تُكدِّره التحوُّلات الطارئة. إن ظاهرة
اللواط لا تُهمُّنا هنا في حد ذاتها، وإنما بالقدر الذي تُخلخِل به ثنائية الذكورة
والأنوثة وتضعها موضع تساؤل؛ فهي تُظهر لنا القوى الليبيدية في تعدُّدها وتاريخيتها،
وتُمكِّننا، من ثم، من الوقوف على هوامش الثنائية التي أُرسيت أسطوريًّا ولاهوتيًّا بين
الذكورة والأنوثة؛ بل تجعلنا نُدرك بأن تلك الثنائية ذات طابع ثقافي أنثروبولوجي
بالقدر نفسه الذي تمثِّل فيه أشكال خلخلتها بدورها ظواهر ثقافيةً وأنثروبولوجية. إن
الممارسة الهامشية (من سِحاق ولواط وتعدُّدية جنسية …) تعيد طرح مسألة الهُوية الجنسية
(الذكورة والأنوثة)، وتزرع الآخر باعتباره كِيانًا ممكنًا يقوِّض مبدأ الأُحادية أو
الثنائية التي تنبني عليها القيم الجنسية المرتبطة بالذات الإنسانية؛ لهذا يمكن
القول بأن الذكورة والأنوثة بناء ثقافي عليه ينهض صرح الشرائع، وأن الحدود الفاصلة
بينهما ليست بتلك الإطلاقية التي تنبني عليها كل ثنائية ميتافيزيقية.
بيد أن هذه الظواهر لم تكن تشكِّل خطرًا يهدِّد البنية الثنائية التقليدية للذكورة
والأنوثة بقدر ما تمس فقط مظاهرها. وليس أيضًا من قبيل الصُّدفة أن تكون المظاهر
التزيينية قد تطوَّرت في العصر العربي الكلاسيكي، بحيث تحدِّثنا المصادر القديمة عن
تطوُّر زينة الرجل وزينة المرأة في آنٍ واحد، ممَّا يؤكد انتقالها من الارتباط بالمقدس
إلى التفاعل الاجتماعي والشخصي الحميمي.
أما في العصر الحديث، ومنذ ما كتبه قاسم أمين عن تحرير المرأة، ثم ظهور الكتابات
النسوية الأولى ذات الطابع المنهجي خاصةً مع نوال السعداوي، وفي ما بعدُ مع الجمعيات
النسوية ذات المنحى التحريري، فإن قضية العلاقة بين الرجل والمرأة قد بدأت تأخذ
أبعادًا جديدة ومتحولة؛ فمن الطابع التحديثي المنادي بنوع من المساواة الاجتماعية إلى
المناداة بالمساواة حتى في القضايا ذات المرجعية الفقهية (كما حدث في تونس وفي
السنين الأخيرة بالمغرب)، مرورًا بكل الكتابات التي شجَبت القهرَ الذكوري التاريخي
للمرأة العربية ونادت بديمقراطية اجتماعية تكون فيها المرأة ممثِّلةً فيها لمصيرها
التاريخي (فاطمة المرنيسي).
٨ تعرف هذه الحركة مسارين:
-
ذلك المتعلِّق بإعادة قراءة التراث وتأويله انطلاقًا من مرجعية تحرُّرية راهنة
تستهدف تبيان موقع المرأة في التاريخ والتراث العربيَّين، وهو ما قامت به
فاطمة المرنيسي.
-
ثم ذلك المتعلِّق بخلق حركية في المجتمعات المدنية العربية هادفة إلى
الدفاع عن حقوق النساء وتغيير وضعيتهن الاجتماعية والحقوقية
الدونية.
هذان المساران كثيرًا ما يتقاطعان ليأخذا أيضًا تمثيليةً معينة على المستوى الثقافي،
من خلال بلورة خطاب نسوي متمحور حول المساهمة الثقافية والأدبية للمرأة في الثقافة
العربية سواء في مجال الكتابة الروائية أو الشعرية أو البحثية. إن هذه الخطوات
بالرغم من كثافتها تندرج في مسعًى عام ذي بعد سياسي ورمزي واضح: ربط النضال
الديمقراطي والتحديثي في المجتمعات العربية المعاصرة بتمثيلية المرأة سياسيًّا في
السلطة وإدارة دواليب الدولة. بيد أن هذه المقصدية السياسية لا تُعلن عن نفسها في كل
الأحوال؛ فهي تارة خطاب واضح، وفي غالب الأحيان تأخذ بُعدًا اجتماعيًّا وثقافيًّا يتمكَّن
من خلاله رُواد هذه الحركة من الانخراط في الحركية العامة التي تُميِّز الكثير من
المجتمعات العربية راهنًا.
المفهوم والخصوصية
يقوم التصوُّر الإسلامي للكائن الإنساني، كما حاولنا تحليل ذلك، على مبدأين
متكاملين: وحدة الكائن الإنساني في عمومها وفي علاقتها المباشِرة بالله، والثنائية
القاضية بالتفرقة الجازمة بين الذكورة والأنوثة، خاصةً في المجال العملي للعبادات
والإرث والشهادة وغيرها؛ فالذات الإنسانية لا توجد في وحدتها إلا باعتبار ارتباطها
بواجباتها الدينية، لا فرق في ذلك بين الذكر والأنثى. من ثمَّ، فقيمتها الأحادية
الشاملة هذه تكتسبها بالأساس بمدى قدرتها على تمثُّل هذا الارتباط وتحويله إلى قيمة
عملية يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ
وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً …. (سورة النساء: ١)؛ لهذا، فإن نظرةً
خاطفة على حياة الرسول وعلاقته بالنساء، وكذا على موقع المرأة في صدر الإسلام، تُبيِّن
إلى أي حدٍّ يتداخل المبدآن من غير أن يُلغي أحدهما الآخر ويتمازجان في السيرورة
نفسها.
لقد كانت المرأة المسلمة راوية حديث ومجاهدةً إلى جانب الرجل ورأيها يؤخذ به
بالشكل نفسه الذي يؤخذ برأي الرجل، وهي إلى جانب ذلك كانت ذات بلاغة وفصاحة. ويكفي
بهذا الصدد الرجوع إلى مُصنَّفاتٍ من قبيل بلاغات النساء لابن طيفور
٩ أو أخبار النساء لابن القيم،
١٠ أو غيرهما من المصادر العربية التي تتضمَّن أخبارًا عن النساء كالأغاني
للأصفهاني والإماء الشواعر للسيوطي، وغيرها؛ للوقوف على موقع المرأة في المجتمع
والثقافة العربيين الإسلاميين، والدَّور الذي لعبته سواء في مضمار السياسة أو الأدب
أو الحياة العامة.
تخترق ثنائية الذكورة والأنوثة، إذن، كلَّ مظاهر الحياة الإسلامية كما قعَّد لها
النص الديني. والنوعان يشتركان في كل مظاهر العبادات من صلاة وصيام وحج، غير أن
المرأة نظرًا لاختلافها الجسدي وطبيعتها المختلفة تحظى في النص الديني بمجموعة من
الاعتبارات الاستثنائية التي تخصها؛ فالمرأة الحائض والنفساء مثلًا غير طاهرة؛ وهي
بذلك لا يمكن أن تُمارس عباداتها الشرعية الواجبة إلا بعد انتهاء مرحلة الحيض
والنفاس والتطهُّر منهما بالغسل.
١١ هذه الاعتبارات الجسدية تنبني عليها مجموعة من الاعتبارات الأخرى ذات
طبيعة ثقافية واجتماعية؛ فالرجال قوامون على النساء، والتراتبية المُعلَنة هنا تخص
بالأساس قضية المسئولية والمبادرة والحق في اتخاذ القرار. الرجل هو القوَّام والمُعيل
اجتماعيًّا، وهو بالتالي صاحب القرار في الزواج والطلاق. وتتم ترجمة ذلك بشكل واضح في
الطلاق؛ فالرجل هو الذي يُعلِنه، ومن ثم فهو الذي يتحمَّل نفقة الأولاد بعد
الطلاق.
إن هذه المعطيات الجسدية وانعكاساتها على المستوى الاجتماعي تقسم فضاءات الذكورة
والأنوثة، وتمس أيضًا طبيعة التعامل مع الجسد من الناحية القيمة والمظهرية؛ فالبيت
(أي الداخل) هو فضاء الحرية الوحيد للكيان الأنثوي، الذي يمكن أن تعيش فيه المرأة
حميميتها وعلاقتها الشخصية بجسدها. وقد ركَّزت أغلب الأحاديث النبوية والفتاوى
الفقهية على جانب الزينة وعلاقة المرأة بجسدها بشكل يمكِّن من القول بأن الجسد
الأنثوي، مقارنةً مع الجسد الذكوري، قد شكَّل مجالًا لتقنين يسعى إلى الإحاطة بمختلِف
جوانبه.
بيد أن هذا التقسيم الفضائي لا يحُد من حرية المرأة إلا باعتبارها جسدًا مثيرًا
للشهوة، وهو ينبني على اعتبار الأنثى عورة؛
١٢ أي جسمًا محظورًا على نظر الآخر ومثيرًا للشهوة والفتنة. المرأة كِيان يلزم
حجب طابعه الشهواني، وكل عنصر جسماني من كِيانها مصدر لا ينضب لشهوة الرجل. وبهذا
الصدد، تُشبَّه المرأة بالشيطان في كونها مصدر الرغبة؛ فقد جاء في سنن النسائي أن
الرسول خرج فبصُر بامرأة، فرجع فدخل إلى زينب، فقضى حاجته، ثم خرج على أصحابه،
فقال: «إن المرأة تُقْبل في صورة شيطان، وتُدبر في صورة شيطان، فمن أبصر منكم من ذلك
من شيء، فليأتِ أهله، فإن ذلك له وِجاء.»
١٣ لذا يتم تخصيص جانب من المساجد خاص لصلاة المرأة، بل إن صوت المرأة
نفسه يخضع للتقنين، ويطالِب الفقهاءُ المرأة بالحديث إلى الآخرين بصوت خالٍ من كل نبرة
أُنثوية وذي طابع جِدي. كما تختص الإمامة في الإسلام بالرجل بالرغم من الاختلافات
الفقهية التي أُثيرت حول هذه القضايا. يقول ابن رشد في شرح هذه الاختلافات: «اختلفوا
في إمامة المرأة؛ فالجمهور على أنه لا يجوز أن تؤم الرجال. واختلفوا في إمامتها
النساء، فأجاز ذلك الشافعي، ومنع ذلك مالك، وشذ أبو ثور والطبري فأجازا إمامتها على
الإطلاق. وإنما اتفق الجمهور على منعها أن تؤم الرجال لأنه لو كان جائزًا لنُقل ذلك
عن الصدر الأول، ولأنه لمَّا كانت سُنَّته في الصلاة التأخير عن الرجال، عُلم أنه ليس
يجوز لهن التقدُّم عليهم لقوله عليه السلام: أخِّروهن من حيث أخرهن الله. ولذلك أجاز
بعضهم إمامتها النساء إذا كُن متساويات في المرتبة في الصلاة …»
١٤ إن هذه الاختلافات، بالرغم من أنها لا تؤثِّر على موقف الوحدة في التفكير
الإسلامي تجاه المرأة، إلا أنها تُبين عن التعدُّد النظري الذي طال بنية التفكير
الإسلامي في إحدى أعوص القضايا وأكثرها حساسية. بيد أن المرأة، كما سنرى، ستجد لها
موطنًا خصبًا في التراث الصوفي؛ فما تم كبته وكبحه في القضايا العملية الفقهية قد وجد
مرتعًا آخر في الأدب والتصوف، مُفصِحًا بذلك عن جدلية الخفاء والتجلي التي تمارسها
الثقافات على مكوِّناتها الاجتماعية.
وإذا كان للمرأة بعض الحرية في الحركة خارج فضائها المحدود، فإن هذه الحرية
المشروطة ترتبط أوثق ارتباط بمظهرها الحجابي، من جهة، وبقدرتها على تمثُّل عنصر
الغياب. إن المطلوب منها هو ألَّا تُثير الانتباه إلى أُنوثتها وجمالها، وألَّا تقوم
بما
من شأنه خلخلة الفضاء الذكوري العام، أو أن تكون مصحوبةً بأي شخص كفيل بحمايتها من
نفسها ورغباتها. بهذا المعنى، وبالرغم من اعتراف المجتمع العربي الإسلامي للمرأة
ببعض من استقلاليتها، إلا أنه يجعل الرجل واسطة علاقتها بالعالم الخارجي ووكيلًا لها
في المعاملات والعلاقات العامة، من بيع وشراء وغيره.
يمكِّن المحدد الفضائي من التعرُّف على موقع المرأة الوجودي والاجتماعي، بالشكل نفسه
الذي يُشير إلى القيم الاجتماعية المتداوَلة في الفضاءين. فإذا كان مُحيط المرأة عائليًّا
فإن محيط الرجل اجتماعي عام. وبالرغم من أن الكثير من النساء في الإسلام عُرفن
بكونهن شخصيات عموميةً بِلُغتنا المعاصرة، لهن مواقع اجتماعية وسياسية ودينية وتصوفية
تجعل من علاقاتهن بالآخرين علاقات نِدِّية، فإن هذه المخالطة كانت مشروطةً ومُقنَّنة.
وربما كانت الشواعر والمغنيات والقِيان يشكِّلن نواة المرأة العربية المعاصرة أو على
الأقل سليلاتها في التحرر والمشاركة في العملية الاجتماعية والثقافية. ولكي يكون
هذا الاستنتاج وجيهًا علينا طبعًا التشكيك في مبدأ التراتبية الاجتماعية التي أقامها
المجتمع العربي بين الأحرار والموالي والقيان؛ فقد كان هؤلاء الأخيرون، كما هو
معروف، يتمتعون بحقوق مدنية تتجاوز في الكثير من الأحيان الحقوق التي لمالكيهم أو
حُماتهم، باعتبار أن «دونيتهم» الاجتماعية تلك كانت مصدرًا لحرية حرَّكتهم داخل الحياة
الاجتماعية.
هذا الترابط هو ما يؤدِّي إلى أولوية الوظيفة الاجتماعية للمرأة على كِيانها الشخصي؛
فالمرأة المثلى في الإسلام هي الوَلود؛ أي تلك القادرة على تأدية وظيفتها الاجتماعية
المتمثِّلة في التكاثر. وحين سُئل الرسول عن قيمتَي الجمال والتناسل فضَّل بشكل واضح
القيمة الثانية على الأولى.
١٥ إن كِيان المرأة الجسدي بهذا المعنى يغدو عَرَضيًّا إذا ما هو قورن بقيمتَي
الخصوبة والعقل؛ لذا فإن المرأة العاقر وإن كانت جميلةً تُشَبَّه بالأرض الجدباء أو
الشجرة الجميلة غير المثمرة.
تتحكَّم هذه الغائية في تنظيم المؤسسة الأسروية والاجتماعية إلى درجة يغدو معها
كِيان المرأة، باعتبارها أنثى محصورًا في مدى قدرتها على تحقيق استمرارية الوجود
للآخر. وبالرغم من أن الإسلام حرَّم وأد الفتيات كما مورس ذلك في الجاهلية، وحثَّ على
تربية البنات والاعتناء بهن، فإن المتخيَّل الأسروي العربي الإسلامي ظل يمنح دائمًا
قيمةً للمولود الذكر على الأنثى، خاصةً وأن نظام الإرث في الإسلام يقوم كما هو معروف
على أولوية الذكر على الأنثى (للذكر حظ الأنثيين)؛ ممَّا يجعل من الذكر ضامنًا
لاستمرار القيم الاجتماعية المادية منها والمعنوية.
من ناحية أخرى يمكن القول بأن تحديد هذه الوظيفة الاجتماعية يجد أصله في
التراتبية الأصلية التي للذكر على الأنثى وللزوج على الزوجة. ويسوق البيهقي حديثًا
يكاد يجعل الرجل معبود زوجته، ويحوِّل التعبير المجازي «رب البيت» للتعبير عن الرجل
إلى قيمة حقيقية: «قد مضى في كتاب السنن حديث أبي هريرة وغيره أن النبي (
ﷺ)
قال: «لو كنت آمِرًا أحدًا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها؛ لِمَا عظَّم الله
من حقه عليها.» كما يسوق أحاديث أخرى يعتبر أحدُها أن الرجل جنة المرأة ونارها،
وأنها إن هي أعرضت عنه فبات غضبان لعنتها الملائكة حتى تصبح.
١٦
الإسلام ومزاوجة الذكورة والأنوثة
ليس من قبيل الصدف أن يُلح نبي الأمة ومن جاء بعده من صحابة وفقهاء على مبدأ
الزواج، باعتباره مبدأً شرعيًّا وواجبًا اجتماعيًّا؛ فالعلاقة بين الرجل والمرأة علاقة
مقدَّسة، ولذة الجماع لذة مشروعة وإنسانية ومقدسة بدورها. من ثم، فإن قداسة العلاقة
الجنسية تأتي من كونها تعبيرًا عن دورة الحياة والاستمرار الوجودي والتوازن
الاجتماعي. إنها بشكل ما دَرْء للشهوات وللزنا، وتعبير أسمى عن العلاقة الذاتية بين
الرجل والمرأة؛ ذلك أن الزواج سكنٌ في الآخَر واستكانة إليه، وإقامةٌ فيه من حيث هو
شريك مفترض وحماية اجتماعية وذاتية. ومن غير الزواج تكثر المعاشرة الحُرة ومخاطر
الشهوات المباحة ومعها تغدو الرغبة الإنسانية خارج مدار المقدس.
الزواج بهذا المعنى استمرار للمقدس والأصل، واستعادة للزوج الأول الذي منه انحدرت
الخليقة. وهو، إلى جانب ذلك، تقنين لحرية الشهوات والنزوات، ودَرْء لكل عناصر الزيغ
والضلال، وإدخال لمبدأ اللذة في العلاقة الاجتماعية؛ لذلك أُحيط الزواج بالكثير من
النواهي، وسعى الفقهاء باستمرارٍ إلى حل معضلاته القديمة والجديدة، سواءً المتعلِّق
منها بالعلاقة الذاتية أو العلاقة الاجتماعية بين الزوجين. كما أن الإسلام النصي قد
حدَّد أنموذجًا معينًا للمرأة الزوجة؛ فقد نهى الرسول عن الزواج بالزرقاء البدينة
والطويلة الهزيلة والعجوز، أو القصيرة القبيحة، وذات الولد من غير الرجل، مفضِّلًا
المرأة الوَدود الوَلود.
١٧ وهو الأمر الذي يخلق نمطًا تقريبيًّا للمرأة الزوجة، ويجعل من الزواج
عمليةً متصلة بالنظام الاجتماعي لا بالاختيار الذاتي. بيد أن هذا الأنموذج الإسلامي
الأصلي، الذي يؤكِّد أولوية المرمى الاجتماعي في مؤسسة الزواج، يخضع، كما ذكرنا،
للقيم الكبرى للأمة الإسلامية آنذاك؛ الشيء الذي سوف يأخذ في ما بعدُ مناحي أخرى مع
تطوُّر الحضارة العربية الإسلامية واختلاط الأجناس في حضنها، وتطوُّر الفنون والآداب
والتأثيرات التي سوف تنجم عنها.
وإذا كان الأنموذج الجمالي، مثلًا، في عصر الإسلام هو البدانة، فإنه سوف يغدو في
العصر الأموي والعباسي الاعتدال. وحين يتحدَّث الجاحظ عن المرأة المجدولة فإنه بذلك
يؤكِّد على أن الأنموذج الجمالي هو في الآن نفسه النموذج الشهواني والجنسي.
وبما أن الزواج مؤسسة إسلامية رئيسة في الكِيان الاجتماعي الإسلامي، فإنها قد حظيت
لذلك بمجموعة من المحدِّدات التي تجعل من النكاح الشرعي والمجامعة علاقةً واضحة
المعالم، لا تختلط فيها الأجناس وتعمل خارج كل شذوذ أو استيهامات ممكنة. لقد دعا
الرسول إلى عدم المجامعة البهيمية، وهو إن لم يركِّز على الحب والمحبة إلا أنه قد عبَّر
مرارًا وبطرق مختلفة عن حبه لعائشة؛
١٨ فالعلاقة الزوجية علاقة إنسانية بامتياز يلزم أن تتسم بالعِشرة الطيبة
فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ (البقرة، الآية
٢٣١). وعلاقة النكاح علاقة ودٍّ يلزم، قبل أن تتم، أن يكون بين طرفيها رسولان هما
القبلة والكلام. كما أن الرسول نهى عن التجرُّد الكامل من الثياب مشبِّهًا المجامعة بهذا
الشكل مجامعة العير (الحمير). بل إنه تحدَّث أيضًا عن الأوضاع الجنسية من مجامعة من
الدبر في القبل محرِّمًا كل مجامعة من الدبر باعتبارها ممارسةً تُخرِج المرأة عن أنوثتها
وخصوبتها.
١٩
تشكِّل هذه العناصر النواة التي انطلق منها بعض الفقهاء والكُتَّاب لتطوير تيار إيروسي
عربي يتسم بالكثير من الحرية الخطابية حول الجنس، ويقعِّد مناهج تحصيل اللذة والمتعة
الجنسية. والحقيقة أن هذه الحرية الخطابية تجد أصولها، الهامشية على الأقل، في
الحرية التي يُبيحها الدين الإسلامي في طرح مُجمل القضايا التي تُطرح في الحياة
الحميمة، والأشكال التي تطوَّرت بها على مدى تطوُّر الحضارة العربية الإسلامية. هكذا
أنتج الخطاب العربي حول الحب والجنس مصنفاتٍ رائدةً من قِبل فقهاء وأئمة مرموقين
تُعتبر مراجع كبرى في مجال العلاقة الجنسية والمحبة والعشق.
وبالرغم من أن بعض هذه المصنَّفات لا تَمَس قضايا الجنس الإيروسي بشكل مباشر، إلا
أنها تُضيء الكثير من القضايا المرتبطة بالعلاقة الجنسية وتمنحها طابعًا ثقافيًّا
أكيدًا. وإذا كان الكائن الأنثوي يُعتبر فيها — كما هو الأمر في الروض العاطر أو رجوع
الشيخ إلى صباه، أو نزهة الألباب في ما لا يوجد في كتاب … —
٢٠ موطنًا لسلطة الرغبة، ومجالًا لتحدي رجولة الرجل، فإن هذا التصوُّر
الأخلاقي الذكوري الذي ساد الثقافة العربية، يبدو كأنه يسعى إلى ضبط غيرية المرأة
واستكشافها، ويرفع الغموض عن بعض ما اكتنف رغباتِها. صحيح أن الأنموذج المستهدَف في
هذه المصنَّفات هو المرأة الغريزية، غير أن النظام الجنسي والمستحضرات المقترحة تجعل
من هذه المعرفة الجنسانية
sexuelle معرفةً ضرورية
لخلق توازن في علاقة يبدو الرجل خائفًا فيها من فقدان رجولته.
تبدو المرأة في الخطاب الإيروسي سلطةً جنسية على الرجل أن يسعى، من خلال المعرفة
الجنسانية، إلى أن يسمو إلى إشباعها. والحقيقة أن هذه المصنفات، إن كانت تهدف إلى
ضبط الغريزة الأنثوية ومراقبتها؛ فهي موجَّهة أصلًا للرجال كي يُتقنوا فنون اللذة
الجنسية. من ثم يمكن القول بأن النهم الجنسي للمرأة ليس سوى استيهام لتعزيز مبدأ
اللذة الجنسية، وتقاسُمٌ لرغبة، وتحويل علاقة النكاح إلى علاقة ذاتية وثقافية في الآن
نفسه؛ فالإيروسية معرفة يتم إنتاجها قصدَ منح العلاقة الجنسية صبغةً فنية يمكن من
خلالها جعل الجنس موضوعًا للمعرفة المكشوفة والعلنية. ولعل هذا الطابع هو ما يؤكِّد أن
الخطاب الإيروسي خطاب تحريري أكثر منه خطاب تقعيدي وذكوري.
الزينة والحدود بين الذكورة والأنوثة
سعى الإسلام خاصةً في مراحله الأولى إلى صياغة أنموذج جسدي للمرأة والرجل أقرب إلى
الطبيعة. إنه الجسد الفطري المنزاح بشكل واضح عن النموذج الجسدي النصراني واليهودي
كما عايشه العرب في الجزيرة العربية آنذاك. لكن هذا الجسد الفطري يخص الرجل
بالأساس، بالرغم من أن ممارسته لشعائر كالصلاة تتطلَّب الطهارة والتطيب مثلًا. لقد دعا
الرسول إلى تمسُّك الرجال بزينة متقشفة يتم فيها تفادي لبس الخز والحرير والمزركش من
الثياب، وتدعو إلى الالتزام بعناصر زينة محدودة، كالطيب، والسواك والكحل والخضاب
باعتبارها مستلزمات أساسيةً لا ينبغي تجاوزها.
٢١ كما صاغ الإسلام صورة الرجل بشكل أوضح من صورة المرأة؛ ساعيًا بذلك إلى
وضع الحدود بين الكِيان الذكوري والأنثوي ناهيًا عن تشبُّه الرجل بالمرأة وتشبُّه المرأة
بالرجل في اللباس والزينة والهيئة والمشية والكلام.
تتمثَّل صورة الرجل في مجموعة محدَّدة من الوظائف التجميلية التي تمنحه رونقًا من
غير
أن تُغيِّر من صورته الفطرية الأصلية. فلقد دعا الرسول إلى صبغ اللحية البيضاء
بالخضاب، ونهى عن صبغها بالأسود؛ كما نهى من ناحية أخرى عن تطويل الشعر على عادة
اليهود، وإحفاء الشوارب واللحية حتى لا تطول بشكل فوضوي، وإكرام الشعر وتدهينه حتى
لا يُشبه الرجل الشيطان، وقَلْم الأظافر وغيرها. إن الفطرة المعنية هنا هي التزام الرجل
بمجموعة من القواعد التي يتمكَّن من خلالها من الحفاظ على مظهره الرجولي من غير أن
يتجاوزه إلى الافتتان بجسده أو إعطائه أهميةً تتجاوز أهميته الشرائعية.
ويمكن للمرء أن يُلاحظ أن الكثير من نواهي الرسول في مجال الزينة تعود إما
للمشركين وأهل الكتاب وإما إلى المرأة؛ فالحرير والذهب وغيرهما من زينة المرأة. لكن
إذا كان مظهر الرجل مظهرًا اجتماعيًّا، فإن مظهر المرأة مظهر شخصي وحميم؛ لذا لا تتزيَّن
المرأة إلا لزوجها ولا تُظهر مفاتنها إلا له؛ أمَّا إزاء الآخرين فهي امرأة محجوبة، لا
تُظهر زينتها أو جمالها وفتنتها. والحقيقة أن هذا الحجاب يُدخل زينة المرأة في علاقة
أساسية بالزواج والنكاح كارتباط مقدس.
بيد أن التطوُّرات اللاحقة سوف تنزاح عن هذا الأنموذج خاصةً مع ما عرفه المجتمع
العربي الإسلامي من تنامٍ لفئة الجواري والقيان، بحيث أصبحت الزينة صناعةً للجمال
ونماذجه المطلوبة. وبهذا الصدد يذكر ابن بطلان أن التزيين كان بإمكانه أن يُغيِّر من
ملامح الوجه واللون والوزن خاصةً في تجارة القيان: «فكم من قضيفة (نحيفة) بيعت بخصبة
(ممتلئة)، وسمراء كمدة بيعت بصفراء مذهبة! وكم جعلوا العين الزرقاء كحلاء …! وكم مرة
حمَّروا الخدود وسمَّنوا الوجوه النحيفة، وكبَّروا الفِقاح (حلقات الدُّبر) الهزيلة …!
وكم
أكسبوا الشعور الشقر حالك السواد، وجعَّدوا الشعور السَّبطة، وبيَّضوا الوجوه
السَّمرة، ودملجوا السيقان المعرَّقة، ورطَلوا الشعور الممرَّطة، وأذهبوا آثار الجذري
والوشم والنَّمش والحكة …»
٢٢ بل إن الرجال أنفسهم استهوتهم استراتيجية المظهر والزينة فتجاوزوا
الحدود التي رسمها النموذج النبوي، وطوَّروا علاقتهم بصورتهم الشخصية، مازجين بذلك
بين المقدس والدنيوي؛ فقد رُوي عن الأحوص، وهو شاعر عباسي معروف، أنه كان يدخل البيت
الحرام لا بثوب واحد بل بثوبين، مُعصْفَرين ومدلوكين ويضع على أذنه باقة
ريحان.
إن صورة الجسد كما تبلورت في الممارسة التزيينية تؤكِّد أن الحدود الفاصلة بين
الذكورة والأنوثة كما بلورها الإسلام النصي قد خضعت لتحوُّلات جذرية طُبعت ببعض
الحرية في التداخل بين الأنثوي والذكوري، وتجاوزت من ثم صورة الجسد الذكوري
والأنثوي كما تبلورت في السابق. بل إن هذه الوضعية الجديدة للجسد الاجتماعي هي بشكل
ما إعادة نظر في ثنائية الذكورة والأنوثة وإعادة صياغة لها وفقًا للمظهر الجمالي
والاجتماعي للجسد. كما أنها من ناحية أخرى توكيد على أن صور ومظاهر هذه الثنائية
تتبلور في القيم الاجتماعية المتجدِّدة، بحيث إن ما كان يُعتبر في السابق مظهرًا
للأنوثة يغدو مِلكًا للجنسين (الزينة واللباس …)، وهو الأمر الذي يؤكد الطابع الثقافي
والأنثروبولوجي لتلك الثنائية.
إن تقنين الإسلام للمظهرية الاجتماعية للشخص يدخل في إطار ربط الفرد بالشعائر
العبادية من جهة، وجعل هذا المظهر جزءًا من كِيان المؤمن. من ثم، ففرضُ الحجاب جاء
أصلًا لإدخال المرأة في مجال المجهولية في الفضاء العمومي. كما أن التفرقة بين
مظهرية الرجل ومظهرية المرأة تقوم على التفرقة بين الفضاء الحميم (البيت) الذي
تستطيع فيه المرأة التجمُّل والتزيُّن لزوجها باعتباره هدفًا لوجودها، والفضاء العمومي
الذي يشكِّل فيه تزيُّن الرجل للمسجد والصلاة النموذج الأسمى. بهذا المعنى فإن التحولات
التي طرأت على الزينة منذ الخلافة الأموية جاءت لتعكس التحولات والتغيرات التي طرأت
على الحدود بين هذين الفضاءين من جهة، وعلى القيم الاجتماعية والحضارية الجديدة
التي تبلورت تدريجيًّا. ومع خروج المرأة العربية للعمل في المجال العمومي في النصف
الأول من القرن الماضي، أخذت تلك التحوُّلات صيغًا جديدة فرضت استراتيجيات مظهريةً
جديدة تمتَح أُسسها بشكل خاص من النموذج الغربي الذي عاشت البلدان العربية والإسلامية
معه علاقة استعمار دامت العشرات من السنين.
التصوف وتجاوز الحدود الجنسية
تقدِّم لنا التجرِبة الصوفية صورةً أخرى من صور هذه الثنائية التي نحاول اكتناه
مدلولاتها؛ فالتصوف تجرِبة للتعالي والتجرُّد من الوسائط الطبيعية؛ لذا ليس من الغريب
أن تتحوَّل المرأة إلى كِيان مقدس بدخولها التجرِبة الصوفية، التي من خلالها تتجاوز
وضعيتها الدونية في التراتبية الوجودية. يكفي في هذا المضمار النظر إلى القيمة التي
اكتسبتها المتصوفة الأولى رابعة العدوية في الحقل الثقافي العربي لكي يتبدَّى لنا أن
المستوى الرمزي كفيل بتحرير الاجتماعي من مقدِّماته ونتائجه. وقد عرف المجتمع العربي
الكثير من المتصوفات اللواتي كن يتحوَّلن إلى كِيانات مُجاوزة للذكورة والأنوثة زُهدًا
وتعبُّدًا ومجاهدةً في النفس. وتذكر المصادر مثالًا على ذلك في المغرب زهراء بنت الولي
سيدي عبد الله الكوش (عاشت في القرن ١٧). وكانت امرأةً جميلة وَرِعة، لم تتزوَّج قط،
وقد
سمع بجمالها السلطان زيدان بن المنصور، فرغب بالزواج بها وأعرب عن ذلك. وبالرغم من
أن الكثير من المتصوفة رجالًا ونساءً قد مارسوا حياتهم الاجتماعية والشرعية بعيدًا عن
الرهبنة، فإن أنموذجهم الحياتي يدعو بشكل كبير إلى طرح السؤال حول كِيانهم
المتسامي.
من ناحية أخرى بلور بعض المتصوفة العرب والمسلمين تصوُّرًا خاصًّا للكائن الإنساني
من
خلال تأويل متجدِّد لثنائية الذكورة والأنوثة وللتراتبية الناجمة عنها. ويمكن اعتبار
فكر ابن عربي في هذا الإطار تحولًا نوعيًّا أفرز منظورًا جديدًا للمرأة ينبني على ما
أنتجه الفكر الصوفي السابق ويُضيف إليه معطيات جديدة. فحَسَب هذا المتصوف، يكون
الانفصام والاغتراب محدِّدين للعلاقة بالمرأة؛ فالجسد الأصلي الآدمي انفصم لتنجم عنه
الذكورة والأنوثة، والمفاضلة الأصلية بين الذكر والأنثى عرضية لا جوهرية، والعلاقة
الجنسية رغبة في استعادة الجسد الأندروجيني الآدمي الأصلي؛ من ثم يغدو النكاح صورةً
أصلية لحركة الوجود. يقول ابن عربي بهذا الصدد: «فما كمُل الوجود ولا المعرفة إلا
بالعالم، ولا ظهر العالم إلا عن هذا التوجُّه الإلهي عن شيئية أعيان الممكنات بطريق
المحبة للكمال الوجودي في الأعيان والمعارف، وهي حالة تُشبه النكاح للتوالد (…) فكان
النكاح أصلًا في الأشياء كلها، فله الإحاطة والفضل والتقدم.»
٢٣ لهذا كان النكاح ظاهرةً كونية تتم بين الحروف والليل والنهار والسماء
والأرض، وهو بذلك عبادة للسر الإلهي.
هذه النظرة الوجودية هي ما يدفع الشيخ الأكبر إلى جعل الأنوثة الشكل الأسمى
للوجود، واعتبار الإنسان محاطًا بأنثيَين هما المرأة والحق: «فإن الرجل مُدرَج بين ذات
(إلهية) ظهر عنها، وبين امرأة ظهرت عنه؛ فهو بين مؤنثين: تأنيث ذات وتأنيث حقيقي.»
٢٤ ولعل هذا الموقع الخصوصي هو الذي يبرِّر الحب الصوفي باعتباره رغبةً في
الفناء في المحبوب وتحقيقًا للغيرية وتدميرًا للذات؛ فالحب الصوفي حُب لسر الأنوثة لا
للأنوثة بذاتها، وهو بذلك حب مزدوج للذات الإلهية، بما هو حب يجمع بين الحب
الروحاني والجسماني، وبما أن الله لا يُرى إلا في صورة عينية (متخيَّلة أو حسية)؛ أي
في صورة تجلِّيه.
من التراث إلى الحداثة الثقافية
كيف تمثَّل المتخيَّل الأدبي العربي هذه العلاقة؟ وكيف عالجها من وجهة نظر جمالية
وتخييلية؟
يمكن القول بأن الأدب العربي الحديث والمعاصر يخصِّص موقعًا هامًّا للعلاقة بين الرجل
والمرأة في الحقل الاجتماعي والحميمي، من خلال طرق موضوعات من صميم هذه العلاقة. بل
إن أهم الكتابات الأدبية الروائية والشعرية تدور في فلك هذه العلاقة، تارةً في منحًى
اجتماعي وسياسي، وأخرى في منحًى شخصي وذاتي. كما أن الكاتبات العربيات، من فدوى
طوقان إلى سحر خليفة قد نذرن كتاباتهن الشعرية والأدبية لمساءلة الوجود الذاتي
للمرأة في علاقتها بسُلطة الرجل ومكبوتات الخطاب الذاتي والجنسي والتاريخي.
بيد أن الأدب العربي الحديث والمعاصر لم يلامس إلا عَرَضًا جوهر الذكورة والأنوثة،
وسعى في الغالب الأعم إلى طرح هذا الموضوع في صيغته الواقعية، متلافيًا معالجته
باعتباره مشكلةً وجودية واجتماعية، خاصةً مع سيادة الرومنسية والواقعية إلى حدود
العقد السبعيني، واعتبار هذه القضية هامشيةً وغير قابلة للطرح وغير ذات أولوية في
النظرة الانتقادية للمجتمع العربي. ويمكن اعتبار السيرة الروائية لمحمد شكري «الخبز
الحافي» إحدى أجسر المحاولات الأدبية في هذا الاتجاه؛ فقد صاغ فيها المؤلف تجرِبة
الضياع والتشرد والمثلية الجنسية (اللواط) بشكل عارٍ وخالٍ من أي بلاغة أو تمثيل. وهو
الأمر الذي حذا بالكثير من البلدان العربية (خاصةً المغرب والعربية السعودية ومصر)
من منع تداول كتبه أو تدريسها في الجامعات. من ناحية أخرى، فإن رواية سالم حميش «العلامة»،
٢٥ وإن كانت لا تتطرَّق للموضوع مباشرةً إلا أنها تجعل من ابن خلدون الفقيه
القاضي والمؤرخ العارف بقضايا الفقه، رجلًا متسامحًا إزاء الانحراف عن قواعد النكاح؛
فنراه في الرواية رجلًا متسامحًا يُكن العطف والتعاطف مع أخ زوجته، الشاب ذي النزوع
الجنسي اللواطي، ويُخرجه من السجن، بل إنه يبدو وكأنه يقبل بالطبيعة المزدوجة للرغبة
الجنسية.
وربما لن نُجازف إذا نحن قلنا بأن الأدب المغاربي المكتوب بالفرنسية كان أول ما
سارع إلى منح هذا الجانب موقعه في المتخيَّل الأدبي العربي، خاصةً وأن هذا الأدب لصيق
في الآن نفسه بالمتخيَّل العربي وبالمتخيَّل الغربي، ويمتاز بجرأة خاصة.
إن كتاب الدم
٢٦ لعبد الكبير الخطيبي يُعتبر في نظرنا من أوائل النصوص الأدبية التي صاغت
هذه المعادلة الصعبة في قالب تخييلي. وتحكي «الرواية» عن مسار تأهيلي في إحدى
الزوايا الصوفية يتم بين شيخ ومريده اليافع، بيد أن الغلام يبدو منذ الوهلة الأولى
كائنًا ملتبسًا؛ فهو عاشق وموضوع للعشق الصوفي في الآن نفسه. ولأن له أختًا تشكِّل بصورة
ما نظيرًا له، فإن النص يتلاعب بهذه العلاقة ليجعل الأخت مجرد مجازٍ لثنائية الشخصية؛
لذا يصوغ الخطيبي هذه العلاقة لُغويًّا، فيسمِّي الفتاة «مُثْنى»، مركِّبًا إياها على
وزن
خُنْثى (فُعْلى)، جاعلًا من الذكر والأنثى كِيانين متوحِّدين ومتمازجين في الجسم نفسه،
جسم الغلام والفتاة. وتغدو العلاقة العاشقة بين النَّظيرين والشيخ علاقةً مأساوية
يصبح فيها الجسد (جسد الكائن الأندروجيني) وجسد الشيخ عُرضةً لكل أنواع العنف العاطفي
والمادي. ومن ثم تسمية الكتاب بكتاب الدم، تعبير عن هذه العلاقة المأساوية التي
تجمع في الآن نفسه بين المذكر والمؤنث في علاقة استحالة، وبين الروحاني الصوفي
والرغبة العاشقة في علاقة دموية.
الموضوع نفسه سوف يستعيده بشكل آخر الطاهر بنجلون في طفل الرمال وليلة القدر،
٢٧ ليؤكِّد هذا العملُ الأدبي الطابعَ الملتبس للكِيان البشري، لكن باعتباره
ضرورةً اجتماعية. ويحكي طفل الرمال عن المصير الوجودي والاجتماعي لأحمد، الذي وُلد
فتاةً باسم «زهرة»، غير أن أباه الذي رُزق بسبع فتيات أخريات ما لبث أن قرَّر تحويله
إلى ذَكَر كي يُداور المصير الأعمى المُحيق به. ولأن الذكورة مظهر اجتماعي أيضًا، فقد
نظَّم
له حفل ختان مصطنع وحوَّله لباسًا ومظهرًا إلى ولد. والغريب في الأمر أن أحمد قَبِل
وضعيته الذكورية تلك، ورمى بأنوثته إلى أعماق لا وعيه، فتزوَّج بابنة عم له، غير أن
هذه الأخيرة ما لبثت أن اكتشفت تظاهره بالذكورة. وبعد وفاة الأب سوف ينتفض جسد أحمد
ليكتشف أنوثته ويسعى إلى تمزيق قناع الذكورة. ويزج الكاتب ﺑ «حقيقة» الجسد هذه في
دوامة من الحكايات التي تؤكِّد الالتباس أكثر ممَّا تُعرِّيه، وكأن الأصل في نظره هو
الازدواج الجنسي لا العكس.
وتأتي رواية ليلة القدر لتُتابع هذا المسار المركَّب للرجل-المرأة، ولتجعله مجالًا
لتوارُد الحكايات والتساؤلات والتوقعات. وإذا كان عبد الكبير الخطيبي قد طرق الموضوع
من زاوية التصوف الشعبي ومسوحه الثقافية العميقة، وعالجه برؤية فلسفية وجودية
متميِّزة، فإن الطاهر بنجلون قد أضفى عليه طابع الحكاية الشعبية المتفرِّعة والمليئة
بالألغاز. وفي الحالين معًا فإن هذه الظاهرة تشكِّل في نظر الكاتبين المظهر الجذري
لعلاقة الرجل بالمرأة، وعملية مسرحة لها في ذات واحدة للكشف عن الطابع الغني
والمأساوي معًا لهذه الثنائية الملتبسة.
من زاوية أخرى تُسائل الأديبة الجزائرية آسيا جبار في روايتها ذات الطابع التاريخي
بعيدًا عن المدينة المنورة٢٨ علاقةَ النبي محمد بالنساء، معتمدةً في ذلك على مجموعة من المصادر
التاريخية والسيرية التي اهتمَّت بالموضوع. وتمنح آسيا جبار لنسائها قدرةً حكائية تجعل
منهن سيدات خطابهن. هكذا تعمل الكاتبة على جعل رسول الأمة الإسلامية أكثر الناس
حِرصًا على العلاقة المتكافئة بين الرجل والمرأة، وأكثرهم قدرةً على الإنصات لهن
ومعرفة رغباتهن. وتنتهي الرواية بالتعبير عن المحبة البالغة التي كان يُكِنها النبي
لابنته فاطمة والتي كادت أن تجعله ينصِّبها خليفةً له. إن كتابةً من قبيل هذه تعيد
النظر في العلاقة غير المتوازنة التي طبعت المذكر والمؤنث من الناحية الاجتماعية
والشخصية والسياسية في التاريخ العربي الإسلامي. وهي تسعى، من ثم، إلى إعادة
تقويمها من جذرها؛ أي في العلاقة التقديرية التي كانت بين نبي الأمة ونسائه، وخاصةً
عائشة زوجته، وفاطمة ابنته.
هذا الطابع التساؤلي الذي بدأه الجيل الأول والثاني من الأدباء المغاربة الذين
يكتبون بالفرنسية سوف يستمر لدى جيل الشباب، الذي امتلك من الجرأة التعبيرية ما
جعله يُسائل هوامش الذات والجسد. فإذا كان محمد شكري من أوائل الأدباء العرب الذين
طرحوا روائيًّا قضايا الجنس المثْلي واللواط، مُثيرًا بذلك ضجةً في العالم العربي، فإن
رواية رشيد أو
الطفل المشدوه٢٩ سوف تُثير الضجة نفسها عند صدورها سنة ١٩٩٥م في فرنسا. والرواية عبارة عن
«سيرة ذاتية» لشاب يكتشف مبكرًا نزوعه نحو المثلية الجنسية ويمارسها بهذا القدر أو
ذاك من العلنية. وربما كان أهم ما يميِّز هذا الكتاب هو كونه استبطانًا للأنثوية التي
تعيش في الجسم الذكر، وسردًا للعناصر العاطفية والذاتية المكوِّنة لها، وتحليلًا
لمكوِّناتها الظاهرة والباطنة. إن ميزة هذه «الرواية» هي أنها تكشف عن مشروعية
الالتباس الجنسي باعتباره مكوِّنًا اجتماعيًّا وذاتيًّا، وخطابًا حول الذات، كما أنها
تجعل
منه مكوِّنًا اجتماعيًّا من مكونات المجتمع، بالرغم من هامشيته والمنع الذي يخضع
له.
بيد أن المرأة الكاتبة أيضًا لها منظورها لهذه التحوُّلات الجسمية والوجودية،
وللتعايش بين الذكورة والأنوثة في جسد واحد؛ فقد تصدَّت الكاتبة الشابة بهاء
الطرابلسي في روايتها الأولى
حياة ثلاثية٣٠ لعلاقة ثلاث شخصيات هي آدم، الشاب العائد من الدراسة بأوروبا، وجمال
الشاب المتخنِّث الذي يمارس الدعارة، وريم زوجة آدم. وحين يُضطر آدم تحت ضغط الأسرة
للزواج، يختار فتاةً يافعة ستكتشف علاقته بجمال لتنتهي في الأخير إلى التنازل عن
رفضها لهما، فترتبط بجمال برابط الصداقة وتنتهي إلى العيش وسطهما بشكل مُعلَن. هذا
الكِيان الثلاثي المعقَّد هو ثمرة التناقضات والمفارقات التي يعيشها آدم، والتي رافقته
منذ مرحلة دراسته في أوروبا، فهناك سيكتشف نزوعه للمثلية الجنسية، بحيث إن الحياة
الزوجية التي اختيرت له كادت أن تتحوَّل إلى مأساة لولا التوافق الذي تم بين الرجل
وعشيقه وزوجته.
بمثابة خاتمة
يمكن تقسيم المفهوم الإسلامي للذكورة والأنوثة، كما رأينا إلى ثلاثة تصورات
أساسية:
-
التصور «الأسطوري» (بالمعنى الأنثروبولوجي للكلمة) وفيه يستعيد الإسلام
الحكاية الآدمية التي يتحوَّل بموجبها آدم من كِيان أندروجيني إلى كِيان ذكوري.
وتشكِّل الصور المتعلِّقة بالجنة جزءًا مكملًا لهذا التصور، وإن بشكل مغاير؛ حيث
يغدو الأنثوي متعةً من متع الذكوري، وحيث تُباح معاشرة الغِلمان وشرب خمر
الجنة. وبهذا المعنى يشكِّل مبدأ اللذة مبدأً أساسيًّا من مبادئ التصوُّر الذكوري
العَدني.
-
التصور الإيماني الذي بموجبه يتم تقنين علاقة الرجل بالمرأة وموقع هذه
الأخيرة ضمن تراتبية الذكورة والأنوثة، سواء في القضايا الاجتماعية
المتعلِّقة بالإرث أو القضايا الشعائرية كالإمامة والصلاة، وغيرها.
-
التصور الاجتماعي الذي جعل نساء الرسول وذريته، وفي ما بعدُ الكثير من
النساء، يمارسن موقعهن الفكري والثقافي والاجتماعي، فكان منهن راويات
الأحاديث، والعالمات والشواعر، والمتصوفات. والحقيقة أن هذا التصور قد وجد
تطوُّره في الإسلام كممارسة تاريخية، انزاحت بهذا القدر أو ذاك عن الأنموذج،
وطوَّرت فيه الكثير من العناصر التي منحت للأنثى دورًا اجتماعيًّا وثقافيًّا
أكيدًا.
بيد أن الرهانات التاريخية والمعاصرة لهذه العلاقة لا تزال تَجِدُّ في العودة لإعادة
قراءة هذا الموروث الثقافي والتاريخي، والبحث فيه عن مواقع جديدة للمساواة بين
الجنسين، من جهة، وتطوير الطابع المتفتح للكثير من الممارسات التاريخية، ومنحها
امتدادًا في الحاضر. بيد أن المعضلة التي لا تزال تواجه الباحثين والمفكرين العرب،
رجالًا ونساءً، تتعلَّق بنوعيات الاجتهاد والتأويل اللذين يمكن من خلالهما النظر إلى
هذا التاريخ الثقافي والواقعي، وطبيعته المرجعية، بالعلاقة مع التحولات الاقتصادية
والاجتماعية التي تعيشها البلدان العربية، خاصةً في هذه المرحلة المتسمة بهيمنة
العولمة وآلياتها، وضرورات الحوار المتجدِّد مع الذات والآخر. من ثم، فإن بوادر
الحركة النسوية العربية، التي تشتغل على كل الواجهات (الاجتماعية والفكرية
والثقافية والبحثية)، قد طوَّرت آليات تصورها، وجعلت مبادراتها تتسم بالصراع ضد الأمية
والتخلُّف الاجتماعي في الآن نفسه الذي تتسم بالدعوة إلى تخصيص موقع أكبر وأهم للمرأة
في شئون التسيير والسياسة، بالموازاة مع النضال من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان.
هذه الاستراتيجية المتعدِّدة، هي التي تجعل من هذه الحركة الناشئة مكوِّنًا أكيدًا لا
يمكن تجاهله في كل الإصلاحات التي تمس وضعية المرأة، والتي بدأت تُلامس في السنين
الأخيرة المعاقل الكبرى للمثبِّطات التي تمس المرأة. ولعل أبرز مثال على ذلك حركة
المطالبة بإصلاح مدونة الأحوال الشخصية بالمغرب (المتعلِّقة بقضايا الزواج والطلاق
والإرث) والتي اتخذت، في الآونة الأخيرة، بُعدًا اجتماعيًّا عميقًا حرَّك مُجمَل مكونات
المجتمع، وخلق نقاشًا حادًّا بين المناوِئين والمؤيدين للدخول إلى الحداثة التشريعية.
ولا يخفى أن بلورة هذه المدوَّنة وتطبيقها وتفعيلها قد شكَّل ما يُشبه «الثورة» في مجال
العلاقات الاجتماعية.
تبدأ قضايا الذكورة والأنوثة إذن بالجسد واللاوعي والوجود الشخصي والهُوية، وتنتهي
بالممارسة السياسية والاجتماعية. بيد أن هذا المظهر لا يمكنه، في نهاية المطاف، إلا
أن يُفضي لذاك، وهو ما يتطلَّب تضافر المباحث والعلوم كي يمكن الإلمام بها إلمامًا
أفضل.