الذات والأنوثة في الرواية العربية

«لكي تكون نظرتنا لنص ما عادلة، من اللازم وبطريقة تكون بالغة التحديد، تحمُّل مسئولية الخلل أو العيب والضعف، وعدم تفادي ما استطاع الآخر تفاديه بمهارة؛ وذلك لإبرازه انطلاقًا من هذه المسافة.»

جاك دريدا، حواشٍ، منشورات غاليلي باريس، ١٩٨٦م، ص٣٧.

مفارقات …

  • (١)
    حين اكتشف الناقد العربي أن الرواية تبدو وقد غدت أحد أهم أجناس التعبير الأدبي، بادر إلى استلهام المقولة الهيجيلية القائلة بأن الرواية ملحمة البورجوازية ليجعل منها قولًا مأثورًا يزعم بأن الرواية جنس العصر،١ وأنها من ثَم الصوت التخييلي الذي يُعبِّر عن مجمل التناقضات والتحولات التي يعيشها الإنسان العربي أو بالأحرى المجتمع العربي. والغريب في الأمر أن هذا الرأي الاختزالي وجد صدًى في نفوس النقاد وتجاوز ذلك إلى مجمل مكونات الثقافة العربية، بحيث أصبح أشبه بالمُسلَّمة التي يتم ترديدها من غير الانتباه إلى المفارقات التي تنز بها. وبما أن غرضنا الأولي هنا الحديث عن البطريركية في الرواية العربية، فالأولى والأحرى بنا أن ننتبه لها في قلب مصطلحاتنا التي نتعامل بها مع هذا الكِيان الثقافي، ساعين من وراء ذلك إلى أن نخرج من الدائرة الضيقة للقول الروائي، ومن ثمة الأدبي، لمعانقة مجمل العلائق والتعالقات التي تخترق جسم النص الثقافي عامةً من خلال إشكاليات خصوصية متصلة بالرواية.
    وحين استكشف الناقد العربي هذا المفهوم، كان من خلال ذلك يستقرئ معطًى أصبح واضحًا في الثقافة العربية يتمثَّل بالأساس في التوجه العام الذي بدا أن الكتابة الأدبية تنحوه مع التحولات الاجتماعية والسياسية والثقافية التي عرفتها المجتمعات العربية، بدءًا من أواخر السبعينيات، والرجَّات التي حدثت بشكل معلن أو مضمر في بنية التفكير الثقافي العربي. بيد أن استنباته جاء عبارةً عن إعلان فتوة أدبية واعتباطية توخَّى من خلالها التعبير عن واقع خصوصي لا يمكن استثمار مستتبعاته بشكل تجريبي وسياقي؛ ففي هذا الوقت أو الزمن بالذات، ومن خلال قراءة أنثروبولوجية بسيطة، يمكن القول بأن ثمة تداخلات زمنيةً عديدة كانت تسم ذلك «الزمن»، لم يكن من اليسير فيه تحديد هيمنة نمط ما إلا بالقراءة الشمولية للواقع الثقافي العربي؛ فالعصر عصر الصورة والرقمية بامتياز، حتى في المجتمع العربي، وهو عصر صورة متقدم ومركَّب عرفت معه السينما نفسها، مع دخول التلفزيون للحياة التواصلية، ارتجاجات وتراجعات في المجتمع العربي نفسه. إنه زمن التواصلات البصرية المركَّبة التي تغدو الرواية نفسها جزءًا خطابيًّا منه. بل يمكن القول إن هذا البصري نفسه غدا يخط لنفسه برنامجًا متواترًا يتم من خلاله استعادة مجمل العناصر التي كبتتها الحداثة وبخاصة منها الطابع التداولي والجسدي والشفوي للثقافة.٢

    إن هذه التسمية، وبالرغم من أن العديد من القرائن تؤكِّدها، فإن القرائن نفسها تنفيها بمجرد ما نضعها في سياقها الثقافي؛ ذلك أن الانتقال من «زمن» الشعر إلى زمن الحكي هو انتقال لا يتم افتراضًا إلا من خلال قدرة الحكي على تمثُّل الشعري واحتوائه؛ وهو ما يبدو أنها خاصية قام بها الشعر والحكي معًا وفي فترة واحدة. مما يعني أن الأمر يتعلق من الناحية الجمالية بانزلاقات تمثِّل فيها الرواية الشعرية والشعر الروائي عمليتين مُفكَّكتين للخلوص النوعي أو الإجناسي والتجنيسي من كل نزوع وضعي. وإذا كان ثمة من نوع ثقافي غدا سلطةً في وقت ما وبسط هيمنته لفترة معينة على الثقافة والمجتمع، بل على الاقتصاد حتى، فهو السينما، خاصةً في عز الهوليوودية، قبل أن يدخل التلفزيون إلى المعمعة ويتبوَّأ على عرش التواصلات الثقافية.

    إذا كان وجود الرواية رهينًا بمدى قدرتها على تفكيك العلاقات الاجتماعية وإعادة تشكيلها، فإن هذا الأمر لا يتم إلا وفقًا لاستراتيجيات كتابية بلورية، تعتمد مجموعةً من الرؤى والمنظورات الحكائية، التي تعبِّر بشكل أو بآخر عن معطيات تتصل بالذات والجماعة وبالأنا والآخر وكذا بالمرئي واللامرئي، أو بلغة متداوَلة بالمحسوس والمتخيل. من ثم يمكن القول بأن الرواية العربية سلكت مسيرًا عامًّا يتصف بالبحث المُضني عن ممكنات تأسيس الذات في مواجهة العالم تارة، وعن ممكنات الوجود في العالم تارةً أخرى. بهذا الشكل يتجلى هذا البحث المزدوج والمتواشج في صور شتى تتراوح بين وجهات متعدِّدة ومتباينة، تتعلَّق تارةً بتفكيك العلائق الاجتماعية، والتأريخ لسلطاتها المُعلَنة والمضمرة، وتتصل في حالات أخرى بالبحث عن قيم جديدة انطلاقًا من شجب القيم الكائنة، وتتمثَّل أيضًا في بناء الذات باعتبارها وجودًا مستقلًّا عن الآخر والعالم إن لم تكن كِيانًا يقول العالم في فرادة الذات. تخترق هذه التشكُّلاتِ أو أنماطَ الكتابة ضروبٌ من الوشائج تجعل مُجمل الموضوعات والوجهات المقترحة في هذا اللقاء مداخل ممكنةً لقراءة تواتر القضايا الأنطلوجية والتعبيرية للكتابة الروائية. ولعل هذه البلورية، أو المنظورية perspectivisme بلغة نيتشه، هي التي تدعوها إلى أن تخلق الروابط المتينة وتبتكرها أيضًا بين الأب والجسد والجنس والفرد أو الذات، باعتبار أن السلطة الأبوية تتحرك وسط سلسلة من السلطات الفرعية والضمنية التي تقوم بتدبير الجنس والعلاقة بالجسد والذات …
  • (٢)

    لأبدأ من موقع يؤكد ترابط المتناقضات وتفاعلها وافتتان أطرافها البعض بالآخر.

    منذ أصدر الروائي المغربي إدريس الشرايبي روايته الماضي الخالص Le Passé simple سنة ١٩٥٤م، ظل الاعتقاد الراسخ يتمثل في كونها روايةً ضد الأب ومعه ضد كل أشكال البطريركية في المجتمع التقليدي العربي المبني على السلطة المرجعية للأب وعلى غياب الحرية في الأسرة العربية.٣ ومع ذلك، فإن أغلب قُراء الرواية توارثوا هذا الحكم وأسبغوه على الرواية، متجاهلين علاقة الافتتان والأنموذجية التي يبنيها البطل في نهاية الرواية مع الأب، مبينًا عن الضعف والهشاشة التي تنخر كِيانه الواهن. الأمر نفسه عاينَّاه مع كتابات محمد شكري، التي يتوقَّف الغالب الأكبر من متناوليها عند رواية الخبز الحافي، ساعين إلى قراءتها في ملفوظها المباشر، متناسين أو متجاهلين الالتباس الذي يكتنف الحكي الروائي والطبيعة الملتبسة لبناء الشخصية والذات الروائيتين؛ ففيما تُعلن هذه الرواية ظاهرًا عن شهوانية الشخصية وفضائحية بل ازدواجية رغباتها، تبين العديد من النصوص الأخرى عن كون هذا الأمر ليس سوى مجاز يحجب ويكشف في الآن نفسه الطهرانية التي تسري في كتابات شكري كما يسري الدم في عروق الجسد.

    إننا ونحن نُثير هذين المعطيين ندعو من ثم إلى ضرب من القراءة المتعددة في الموقع أو الموقف الواحد؛ قراءة متأولة لذاتها وللآخر، في علاقة مرآوية تشكل لعبةً يتم من خلالها استدراج النص إلى الإفصاح عن منابته ومنابعه الحكائية، بحيث يقوم هو نفسه بدعوتنا إلى عدم الانسياق وراء ثوابت قد تبدو لنا متغيِّرات والعكس بالعكس.

  • (٣)
    من هذا المنطلق يمكننا أن نعتبر أن مسير الرواية العربية في منعطفه الحاسم قد انطلق بشكل ما من حجر الزاوية هذا: مناهضة موقع الأب باعتباره موقعًا رمزيًّا لكل السُّلطات التي يشكِّل بصورة ما نموذجًا لها. ونشير هنا إلى أن ثمة نقطةً ثالثة تشكِّل نقطةً عمياء في منظور النقد العربي للأدب تتمثل في نزوعه إلى تشذير تاريخ الرواية العربية وبنائه على مفهوم الأفضلية الثقافية. والحال أن ثمة أنواعًا من الكتابة الروائية، وإن كانت لا تلائم جمالية الذوق المثقفي ولا المنازع السياسية التي استهوت النقاد والمؤرخين، إلا أنها، أراد الناقد أم كره، تجد موقعًا لها في التلقي على الأقل، وكانت بشكل أو بآخر محطَّ استهواء كم هائل من القراء العرب إلى حدود اليوم. إن الأمر يتعلَّق بما يسمَّى بالرواية العاطفية سواء في صيغتها النمطية لدى عبد الحليم عبد الله أو إحسان عبد القدوس أم في صيغتها الهجينة والثقافية لدى غادة السمان. ويمكننا أن نعتبر أن هذه الرواية قد ساهمت بشكل غير مباشر في طرح مجمل المعضلات ولو بشكل عابر أحيانًا واختزالي أخرى لقضايا تتعلق بالجنس والأنوثة والذكورة وتوتر السُّلطات الرمزية. وليس علينا هنا سوى أن نتمثَّل برواية إحسان عبد القدوس «أنا حرة» التي أعتبرها نموذجًا للرواية العاطفية في اكتمالها.٤ وتجاوُزها، في الآن نفسه للعديد من الروايات العربية التي اعتُبرت في بحر سيادة الأيديولوجيا القومية روايات طلائعية.
  • (٤)
    ولنا أن نطرح هنا قضيةً تتعلق بفرضية فكرية أكثر منها روائية. لنقل بدءًا إن الرواية العربية في حداثتها انطلقت من السؤال أو هي كانت روايةً تساؤلية، وغنائية، ومن ثمة نقدية. وهذا الطابع جعلها بشكل أو بآخر روايةً تحاور بشكل معلَن أو ضمني تيارًا فكريًّا لم يتعامل معه المحيط العربي الحديث والمعاصر إلا بشكل سلبي أو جزئي. يتعلق الأمر بالرومنسية في تحديداتها الأكثر أصالةً لدى غوته وشليغل. إننا نعني بالبعد الرومنسي هنا ولادة علاقة جديدة مع الموضوع الجمالي (العمل الروائي)، وولادة علاقة جديدة أيضًا مع الذات subjectivité. من هذا المنظور يكون اندراج الرؤية التي تحكَّمت في تطور الرواية العربية في مجملها، وإلى وقت قريب، واندراج النقد المتفتح والمنفتح على هذه التحولات بكل التباساتها وتعرجاتها، في هذا البعد أو المدار الرومنسي٥ الضمني لكن الواضح، اندراجًا تاريخيًّا في تحولات الثقافة العربية وخصوبة القضايا التي تطارحتها أو طرحتها على الوعي والمجتمع العربيين. إن حداثة الرواية العربية وحدود هذه الحداثة يعودان بالأساس إلى هذا الاشتغال الاستراتيجي على الذات من حيث هي هُوية الفرد وبوتقته الوجودية، وفي الآن نفسه إلى الاشتغال على مراياه الجمالية من أنماط للحكي والكتابة. بهذا المعنى يكون هذا البعد الرومنسي أيضًا المولِّد للسخرية اللاعبة على المفارقات، وهو المولِّد أيضًا للأبعاد المأساوية في الكتابة العربية، وللعودة للخيال الفردي والحياة الشخصية، ولمجمل الحوافز التي كانت وراء استلهام التاريخ النوعي للحكاية وتفتيت الحكاية الأم؛ أي الرواية. من ثم أليس «زمن» الرواية في العالم العربي بشكل ما زمن نهاية الحكاية؟ ذلكم هو لب المفارقة التي نحن بصددها.

ضد المرجع أو مرايا الذات

وفي هذا الإطار، وغير بعيد عن مرآويته الإشكالية، يمكن اعتبار روايتَي ليلى بعلبكي: الآلهة الممسوخة (١٩٦٠م)، ثم أنا أحيا (١٩٦٣م)،٦ روايتين متآزرتين للبحث الجامح عن الذات ومن خلالها عن الحرية والسعي للانعتاق من خلال الصراخ بنداء جَهْوري؛ ففي الرواية الأولى، ومن خلال كتابة متشذِّرة ومشهدية، بل مطبوعة بحوارية متخيَّلة، تُمسرح الكاتبة صوتًا أنثويًّا يواجه العالم بجسد مغاير. إن عايدة تجد نفسها أمام عريس يصفها بكل الأوصاف ويُهينها بكل الإهانات، ويهجرها لأنه يكتشف أنها ليست عذراء. وتتكاثف «المآسي» بالعقم، بحيث يبدو وكأن ليلى بعلبكي تخلق مسافةً كاسرة بين عالم الزوج الغائر في السكر والملذات، وعالم المرأة المعزول في لظى التعويض. لكن الرواية تحول الزوج «نديم» إلى صورة للأب الذي سوف تقول عنه ميرا عشيقته الصبية: «أشكرك، عندي تخمة من الآباء، لو لم يكن ميتًا لتمنَّيت له أن يموت» (ص١٢٦). إن ميرا إذن تولد بعد غياب الأب، وهي لا تستبدل الأب الذي قتلت سلطتَه أمها، إلا بصورة له هو العشيق الذي لا يستطيع أن ينفذ أيضًا إلى كِيانها المتجدِّد، بحيث إنها ترفض الزواج من رجا، الشاب الذي أيقظ فيها أنوثتها وحرَّك فيها أوار الشهوة حتى تبقى محافظةً على كِيانها الذاتي، وحتى تتعامل مع الرجل باعتباره آخر فقط.
يتم القتل الرمزي للأب هنا بشكل مزدوج، من خلال الأب ومن خلال صورته المنحطة المتمثِّلة في شخص نديم. من ناحية أخرى، تتجسَّد في هذه الرواية العلاقة التي تخلقها سلطة الأب مع حجب الذات والفردية والرغبة الجنسية. إنها تحوِّل الرجال إلى آلهة ممسوخة، تلك الآلهة التي تُعلِن عن مسخها في صورة الأب مرةً أخرى في أنا أحيا، بحيث إن لينا تضبط أباها في الشرفة بلباسه الداخلي يتأمل امرأةً تنزع ببطء عنها ملابسها القطعة تلو الأخرى. وهكذا تكشف الراوية عن مفارقات العالم الذي تعيشه، والذي يشكِّل الأب فيه قطب الرحى، لا فقط بتواطئه مع الفرنسيين ولا بجشعه التجاري، وإنما أيضًا بعلاقاته مع رجال آخرين من الطينة الاجتماعية نفسها. ويكون الضياع الهويَّاني idetitaire شكلًا هلاميًّا ومتخيَّلًا لا ينبني إلا على معاداة الأب؛ ذلكم هو تصور البطلة: «كبرت في حذائي شهوة طاغية لمرمغة أنفه وسحقه» (ص٢٧)، ثم: «لست شرقيةً ولست غربية، لست حرةً ولست مستعبدة … لست شقراء ولست سمراء» (ص٧٤). إن هذا التساؤل الوجودي القريب من العبث هو اللعبة المرآوية التي توحِّد بين روايات عديدة في الستينيات والسبعينيات. وفي أنا أحيا أيضًا يتجدد الثالوث المقرون الذي تحدَّثنا عنه؛ فضياء (الصورة الأخرى لرجا في الرواية السابقة) سوف يجسِّد مفارقةً أخرى هي الفردية والجماعية (انتماؤه للحزب الشيوعي)، والشهوة المتفرِّدة والعادة. وفي معمعة التساؤلات القلقة التي تخترق هذه الرواية، وتبعًا لسلسلة الاستبدالات (الواقع/السينما) تكتشف لينا فياض جسدها وأنوثتها.
إن صرخة لينا: «المرأة تنشد الحرية، أما الرجل فلا يستجيب إلا لروافده»، صرخة مشدودة إلى تشابكات الواقع العربي آنذاك بأحزابه ووقائعه وتحولاته ورهاناته. ومن غير أن نقوِّم هذه الرغبة والتحرُّرية باعتبارها مرتبطةً بعلاقة تناقضية مع الآخر/الرجل، فإن العلاقة التي تقيمها الرواية، ومثيلاتها وإن بشكل متأخر، غادة السمان وخناثة بنونة، بين الخطاب والمعنى، علاقة تتم في مدلول اللغة، أما موضوعاتيًّا فإن الرجل يكون بشكل أو بآخر المستهدَف من هذا الخطاب الحكائي والدلالي. وليس يخفى أن هذا التصور، وبالرغم من التطورات الحاصلة في تناول مكوناته وثوابته، بل بالرغم من التلوينات التي تُسبَغ عليه أحيانًا، هو الذي سنجد لُحمته ونواه فيما بعدُ لدى سحر خليفة (لم نعد جواري لكم …) ورجاء أبو غزالة (امرأة تحت الحصار …) وإملي نصر الله (الرهينة …)، وهند سلامة (الدُّمَى الحية …)، ورجاء عالم (٤ صفر …) وعالية ممدوح (ليلى والذئب …)، وليس لنا للتمثيل على ذلك سوى أن نركِّب فيما يشبه التوليف السينمائي بين لحظة اكتشاف فقدان عذرية عايدة التي أشرنا إليها، والمشهد نفسه في رواية حنان الشيْخ بعدما ينيف على العقدين من ذلك، في حكاية زهرة، في حديث زوج زهرة ماجد، عن عدم عذريتها ليلة عرسها. هنا لم يعد العنف جسديًّا يُعاش من قِبَل الشخصية الراوية، وإنما خطابًا يأخذ مكان الخطاب المحجوز لزهرة. وكأننا بين الروايتين نجد أنفسنا أمام إشكالية الكلام التي تنتقل من الرغبة الذاتية للروائي إلى الرغبة الذاتية للشخصية، ومن انفجار الحكاية إلى انفجار عملية الحكي وانفلاتها من يد الرواة.
لقد ارتادت ليلى بعلبكي، بخصوصية خطابها الروائي، أُفق الحداثة الروائية منذ البدء، ربما من خلال هذا النَّفَس الغنائي الذاتي الذي يحوِّل العالم إلى مجال لفعل الذات وفعل الكلام وفعل اللغة، ومن ثم لطراوتها القلقة النقَّادة.٧
وبالرغم من أن ما يفصل بين روايتَي بعلبكي وكتابات زفزاف يتجاوز العَقد الزمني، فإن حوارًا مرآويًّا يمكن أن يتم بين التجربتين الروائيتين من حيث غنائيتهما الآسرة ومن حيث الكتابة التركيبية المشهدية والمتوترة التي ينسجانها معًا. إن التخييل الذاتي يبرز هنا عن خصوبته بشكل أكبر ويحوِّل الجدية المأساوية التي تطبع كتابة بعلبكي وما يسمَّى عمومًا بالكتابة النسوية إلى سخرية تحوِّل المفارقات إلى فضاء للسؤال الضمني والنظرة المواربة oblique لمعضلات الوجود العربي. لذلك، ربما كانت النظرة التي توجِّه اللعبة الحكائية في رواية المرأة والوردة أقرب إلى الدائرية منها إلى الاسترسال، أو لنقل إن الاسترسال يسعى إلى تحويل الدائرية إلى ضرب من التلوين الحلزوني الذي نكتشف معه أن الذات تولد في الفقد والمسافة والالتباس، أكثر مما تولد في تقصي الحقيقة والذات الغائبة. وكأننا بالرواية في هذه المرحلة (وهو ما سيتأكد بشكل أكثر جذريةً في روايات هدى بركات وآمال مختار وغيرها من الروايات التي سنتطرق لها بالإشارة أو التحليل)، تجعل البحث عن القيم الجديدة للذات والحرية وتواجه القيم الأبوية للسلطة والكبت والقمع بحثًا مطبوعًا بضرب من الانقلاب في طبيعة السؤال وطبيعة صياغته. وهو الأمر الذي يخلق علاقةً جديدة بالمفارقات الاجتماعية ويجعلها تنحو نحو السخرية أو الهزء أو الضحك الأسود (لدى عبد الرحمن منيف مثلًا في حين تركنا الجسر، أو هدى بركات في حجر الضحك)، أو تتجه نحو التاريخ والتراث كما لدى العديد من الكُتاب، لعل أقربهم إلينا الروائي المغربي بنسالم حميش.
من ثم يمكن القول بأن اللجوء إلى المتخيَّل التحويلي تقنية حكائية تعمل على تأويل الواقع وتأويل الحكي في الآن نفسه. هكذا، إذا كانت لينا، وبضرب من المجازية تتحدَّث عن صديق أبيها ككرسي، فإن الراوي لدى محمد زفزاف٨ يحوِّل الكائنات التي تُحيط به إلى كائنات متلوِّنة برغباته التأويلية والتحويلية؛ فهو يتصور أن الناس كلهم «قرود لأنهم لا يستطيعون أن يفهم بعضهم بعضًا إلا بالحركات»، ويرى مرتادي السوق العصري حشراتٍ «تملأ السلال وتمر قرب الفتاة الرابضة وراء آلتها الحاسبة»، كما تبدو له أذنا «ألان» غلاصم سمك بحيث يتخيَّله سمكةً تضرب بذيلها ماء النهر العكر فيطير في الهواء.

ثمة في هذا الضرب من النصوص سخرية دفينة تنبني على تحويل الذات إلى مجال للكشف عن مفارقاتها وعن تناقضات العوالم المحتمَلة للحلم (الغرب، المرأة الأوروبية …). بهذا الصدد يقول الراوي بغير القليل من السخرية السوداء: «فكَّرت مليًّا. يا إلهي! ما هذه الحيرة والعطالة في دماغي؟ إن ساعة الاختيار قد حلَّت. ما هي إلا فرصة واحدة تتحقَّق في العمر كله. وأنا؟ من أي جنس أنا؟ عربي: ما لكل العرب تتحقَّق فرص مثل هذه. لماذا لا أصير زهرة؟ ولماذا لا أتزوَّج المرأة البدينة التي يمكن أن تساعدني على أن أصير إلهًا؟ … حرَّكت قدمي وتذكَّرت كل ماضيَّ السيئ الذي عشته واحدًا مثل الملايين في قرًى قذرة منتشرة في جبال الأطلس أو جبال الريف … وتذكَّرت صوت آلامي الكثيرة التي قصمت ظهري الضعيف. الآن وجدت الحل: امرأة بدينة تُحبني وتُنقذني من هذه الورطة الصعبة التي تتخبَّط فيها أوهامي وأحلامي …» (ص٦٣).

يبدو إذن أن الاستراتيجيات الحكائية التي كانت في أصل المساعي الأولى لتفكيك وتقويض الحكاية الأبوية بما هي وجود للأب وللسلطات المرتبطة به ومنها سلطة القصة وسلطة الرموز الأبوية في مجموعها، وكما تواتر ذلك حتى كتابات روائية لم يُعترف لها بقيمة جمالية كبرى في السرد العربي المعاصر، ككتابات غادة السمان مثلًا، قد أنجبت علاقةً مرتبكة بالحكي والحكاية وموضوعاتهما. هذه العلاقة المرتبكة يمكننا التعبير عنها بنهاية الحكاية récit وولادة الذات (الحاكية). وبمحاكاة لمقولة بارت الشهيرة فإننا ندين لولادة الذات بموت الحكاية. إن موت الحكاية هذا ذو علاقة وطيدة بالمنزع الغنائي من حيث هو تجذير للأنا في قلب النسيج المولد للذات وسيرورتها الوجودية واللغوية. وهو من جهة أخرى شكل للصراع مع كل السلطات المهيمنة. من ثم يمكن القول بأن الكوجيطو الذي أطلقته ليلى بعلبكي (أنا أحيا)، وبعدها بسنوات وبعلاقة وطيدة بالمحددات نفسها يوسف السباعي (أنا حرة)، ثم أحلام مستغانمي، هو كوجيطو وجودي يُعلِن تلك الولادة المضطربة للذات في علاقتها بالرغبة في الكلام. هذه الرغبة هي التي يُشاطرها المؤلف مع شخصياته، الأنثوية بالأخص، التي تتحوَّل من ثم إلى شخصياتٍ راوية ومسئولة عن ولادة الحكي ومعه النص الروائي.

بهذا الصدد ليس من الغريب أن تسعى العديد من الكاتبات العربيات إلى التعبير عن هذه الولادة المضطربة للذات بسلوك السيرة الروائية القريبة والمحاذية للسيرة الذاتية، وإن غير المتماهية معها، وانتهاج التعبير الحكائي بصيغة الأنا أو الحكي الذاتي. إن اختيار الحكي بضمير المتكلم ليس فقط اختيارًا اعتباطيًّا لصيغة سردية معينة، بقدر ما هو اختيار لنمط من الحكاية أقرب إلى الذات وفي الآن نفسه، وهذا ما لم تنتبه له بعض الكاتبات العربيات إلا بشكل متأخر، أكثر استعصاءً على الحكاية وأكثر انصياعًا للهذيان. من هنا يكون التماهي بين الذات والأنا مدخلًا مباشرًا للحكاية المتشذِّرة المُعلِنة لموتها في مطلع هذا التماهي نفسه. إنها ولادة قيصرية للذات تختار لنفسها أن تقول أكثر من أن تحكي وأن تحكي أكثر من أن تصف، وأن تصف أكثر من أن تصوغ مشاهد تلميحية.

هنا، تقف الأنوية السردية في مواجهة الأبوية السردية، ويتوق عالم الأنا إلى توليد الذات من شظايا الماضي والحاضر؛ لهذا بالضبط يغدو الجسد والجنس والعلاقة بالآخر بوتقةً لهذا التوليد ومجالًا لمسرحة التناقضات، فيما وراء الشخصية وفيما يُواجِهها عينيًّا. بل يمكننا أن نجازف بالقول بأن تلك المشهدة mise en scène ليست مشهدةً كاملة مكتملة بقدر ما هي محاولة لذلك. ولا أدلَّ على قولنا من أنَّ حكي الجنس والجسد في الرواية العربية يخضع لمجموعة من التلوينات البلاغية التي يجدر بنا دراستها من حيث هي بلاغة تربط بين العيني والرمزي وبين الذاتي والغيري، وبين الخفي والغائب والمعلَن والحاضر. هكذا نجد أنفسنا أمام لعبة بلاغية تحتضن مجموعةً من الرهانات التي تُعبِّر عنها رواية الكاتبات العربيات بشكل مأساوي، فيما تُخضعها العديد من الروايات لعمليات متعدِّدة تبدأ باستكشاف الذات لتصل إلى القرف الوجودي مرورًا باستبطان كِيان الآخر.
إن شخصية خليل في رواية حجر الضحك لهدى بركات (١٩٩٠م)،٩ واللعبة التي ينصاع لها سواء مع الراوية أو مع ذاته المنشطرة، تجعل من هذه الرواية محطةً أساسًا، لا في تناول موضوعة الحرب اللبنانية فقط، وإنما أيضًا في المعالجة الروائية لقضية الذات والجنس والجسد ومتخيَّلاتها في الحكي الأدبي العربي المعاصر. فهامشية الصوت والشخصية في الحرب الأهلية، يشكِّلان مدخلين للتشكيك في علاقة الهُوية الجنسية بالحرب من جهة، وفي صياغة المفارقات الروائية التي تنبني عليها الكتابة الحكائية من جهة أخرى. إن خنوثة خليل ومعها أيضًا خنوثة الراوية أو وضعها الاحتجابي، يكون الغرض منهما اللعب بثنائية الذكورة والأنوثة وتحويلها إلى صور اجتماعية عرفية لا أكثر. ﻓ «حجر الضحك»، على غرار الاعتقاد بأن حجر الفلاسفة قادر على إدامة الحياة وتحويل المواد الوضيعة إلى ذهب أو فضة، هو كِيان خيميائي تروم الرواية من خلاله إلى تحويل الحرب إلى مصدر للضحك. إنه ضحك كالبكاء، ضحك أسود، وسخرية قاتلة تبدأ بالهزء من الهُوية والذات والجسد قبل كل شيء. من ثم يبدأ التراجيدي من انفصام الجسد والهُوية نفسهما، وعن ذلك تنتج متاهة العلائق الاجتماعية باعتبارها انعكاسًا لحالة الحرب والدمار. لنقرأ ذلك أيضًا في أهل الهوى:١٠ «صرت أرى الوجع كما في الحلم. أنا ولست أنا. جسمي وليس جسمي. وكأنني أنفرج، وكأن لي جسمين …» (ص٣٥). إنه الانفصام المجاوز للثنائية الجنسية نفسها: «هذه المرأة ليست امرأة، وهي كذلك ليست رجلًا. امرأتي ليست في أي الجنسين حتى أعمد إلى إدراجها في خزانة المحفوظات الملائمة وأستريح» (ص١٧٠).
هذا التحول في المنظور هو الذي يجعل من الرواية مجالًا لتوسيع دائرة النقد الشامل لا للمجتمع فقط، وإنما لهذه الذات المتولدة من ذاك النقد أيضًا. وبهذه العملية المزدوجة يمكننا أن نتفهَّم جيدًا العتبات التي تقف عندها الرواية العربية، والتي يكون تجاوزها الجَسور أو الموارب ضربًا من الفضائحية التي تقوم لها قائمة المنَّاعين وأصحاب اللوائح السوداء. بيد أن ذاك التحول هو ما يمكِّن من إعادة صياغة شخصيات نمطية ومرجعية كشخصية ابن خلدون، الذي يجعلها المؤلف في رواية العلَّامة شخصيةً تمتزج لديها المعرفة بالليونة، بحيث إنها تقبل خنثوية أخ الزوجة قَبولًا سلوكيًّا واجتماعيًّا. تبعًا لذلك، يمكن القول إن موضوعة الجنس، باعتبارها موضوعة تفاعل جنساني، أصبحت موضوعة جنس بالمعنى الهُويَّاني gender والنفساني للكلمة. ولا يخفى أن طرق هذه الإشكالية ومسرحتها الروائية كافية لوحدها لأن تشكِّل نقدًا جذريًّا للبطريركية وتقاليدها باعتبارها سلطةً تحافظ على نفسها بحفاظها أساسًا على نقاوة الجنس وخلوصه وعدم التفاعل أو العدوى أو التداخل بين الأصول المحدَّدة.

رهانات جمالية وخيارات أسلوبية

لعل الرواية هي النوع الأدبي الأشد صلابة، والأكثر هشاشةً في الآن نفسه، الذي يُعمي أحيانًا بقوة موضوعاته عن الخيارات الأسلوبية والجمالية الممكنة، والذي يُعمي أيضًا عن هشاشة موضوعاته باللعبة الجمالية التي يُقيمها في صلب التناول الروائي. إن هذا الميسم الخصوصي، غير ممكن، أو هو على الأقل ضعيف المردودية، في الأنواع الحكائية الفرجوية أو البصرية كالسينما والمسرح. وربما كانت هذه الحرية التي تتميَّز بها الرواية؛ إذ هي بنت الحداثة بامتياز، هي ما يجعلها تتمادى في هدم ما تقوم عليه أساسًا من حيث هي كذلك، فلا تضيع بذلك هُويتها بشكل مطلق، وتتمادى من جهة أخرى في تعزيز تلك الأسس قصدَ خدمة المعنى فلا تضيع منها جماليته وغرابتها.

لهذا، يمكننا أن نعتبر أن إحدى الخاصيات التي تندرج في نقد الرواية العربية للمرجعيات (ومنها صورة الأب، وذكورية المعرفة والكتابة، والتاريخ، والأنا، والجنس …)، كما تجلَّى ذلك في كتابات أغلب الروائيين العرب المعاصرين، من عبد الرحمن منيف إلى مصطفى ذكري، مرورًا بأشهر الأسماء في هذا المضمار، تكمن أساسًا في كون هذا النقد ساهم بشكل كبير في صياغة الشكل الروائي وممكناته، بدءًا من اختيار نوع الصوت الروائي إلى اختيار الشخصيات وطبيعتها ومُكوِّناتها إلى تركيبة السرد ونوعية الحكايات الفرعية، مرورًا بطبيعة اللغة وإيحائيتها أو شفافيتها الدلالية. وهكذا يمكننا الزعم بأن الأنموذج الشهرزادي للحكي قد شكَّل بصورة أو بأخرى أشبه ما يكون بالأنموذج الأصل للاستراتيجية الحكائية التي سلكتها الرواية العربية بشكل واعٍ أو لا واعٍ. ومن هذا المنظور فإن تجربة نجيب محفوظ نفسها قد سارعت إلى التبني الضمني ثم العلني لهذه التجربة الحكائية وجعلها بشكل ما عنوانًا ممكنًا، بل لا يمكن تفاديه، للرواية العربية المعاصرة. إن هذا لا يعني أن هذا التبني كامل أو حرفي، بل هو في الغالب الأعم استيحاء جزئي نجد بعضًا من تجلياته في ما يمكن نعته بالرواية الاحتجاجية،١١ وبعضه الآخر في الاشتغال المباشر على النص الأصل (ألف ليلة وليلتان لهاني الراهب، وليالي نجيب محفوظ على سبيل المثال). بل إن هذه الفرضية تشمل حتى الحكي العربي بلغات الآخر، وأكتفي هنا بالحديث عن الأدب المغاربي والعربي الناطق بالفرنسية، وبالأخص لدى عبد الكبير الخطيبي، والطاهر بنجلون ومحمد ديب، وصلاح ستيتييه. بل إن العديد من الروايات العربية ما إن تُقرأ مترجمةً حتى يتبدَّى هذا الاشتغال الضمني في ذاكرة اللغة والحكي العربيين واضحًا للعيان لا يحتاج للنبش أو الكشف.
إن زعمنا هذا لا يأخذ بعين الاعتبار الجانب السردي فقط (الذي درسه بدقة تزفيطان تودوروف)، وإنما أيضًا وأساسًا الجانب الأخلاقي éthique والسياسي للحكي، ذلك أن مشكل التذويت subjectivation (وضمنه تذويت الحكي) ليس مشكلًا فلسفيًّا فقط بقدر ما هو مشكل تاريخي مثله في ذلك مثل التاريخ الاجتماعي أو السياسي.١٢ ولا أدل على ذلك من أن المحاولة التي قامت بها آسيا جبار بالرغبة في إعطاء الكلمة لنساء الرسول في رواية بعيدًا عن المدينة المنورة، عبارة عن تشخيص وتجسيد لهوامش السيرة النبوية والمسكوت عنه في التاريخ الإسلامي. إلا أننا ونحن نسعى إلى تعميم هذه الأطروحة، التي لبديهيتها قد تبدو مكرورة، لا يمكننا إلا أن نُنَسِّب هذا الأمر ونُدَعِّمه بسياقه العياني والروائي؛ فالحكي الشهرزادي يتبدَّى بشكل أوضح في المحاولات الروائية القليلة ذات المنحى السيرذاتي وبشكل أكثر استبطانًا في السير الروائية التخييلية من حيث إنها مسرحة للرغبة الشهرزادية وتملُّكٌ لها في الآن نفسه، خصوصًا إذا اعتبرنا أن الليالي عبارة عن مركَّب من الحكايات الذاتية.

هذا الخيار الأسلوبي والحكائي هو ما يجعل الرواية العربية روايةً منفتحة على التجريب ومحافظةً في الآن نفسه على التجربة الأصل: تجريب الممكنات الحكائية والموضوعاتية وتفكيكها في الآن نفسه. وبهذا المعنى أيضًا يكون هذا الخيار تعبيرًا عن عنف الرغبة الحكائية في الكتابة الأدبية بالعالم العربي.

وحتى نعود إلى ما ألمحنا إليه سابقًا من نزوع الحكي الروائي إلى الارتداد ضد نفسه من خلال استيحاء الممكنات التقنية لأجناس أخرى قد تكون معاديةً له أو على الأقل منافسةً له، يمكننا أن نعتبر هذه الخطوة التي تدخل فيما يمكن تسميته بالتناص الشكلي أو التمفصل الأسلوبي، ذات علاقة وطيدة بطبيعة السرد الشهرزادي الذي يستعين بالآخرين لتكوين جَوقة الحكي، التي من دونها لا يمكن أن تستوي الرواية باعتبارها كذلك. إن روائيًّا شابًّا من قبيل مصطفى ذكري ينساق إلى ضرب من العدوى التفاعلية بين اشتغاله البصري في السينما وبين الكتابة الروائية، بحيث تغدو الممارسة الروائية لديه ضربًا من المُشاهدة اللغوية إن صح هذا التعبير الصوفي المركب. وليس استعمال المنظورات والتقنيات السينمائية بجديد؛ فالقرابة بين الحكي الروائي والسينمائي قائمة؛ بيد أن ما تسعى إلى استبطانه روائيًّا العديد من التجارب الروائية هو الطابع البصري للسرد السينمائي، مما يدفعنا إلى القول إلى أن هذه الروايات تسعى إلى أن ترى من خلال اللغة، أو هي تسعى إلى تحويل الخيال اللغوي إلى خيال بصري. إنها محاولة مستحيلة وممكنة في الآن نفسه، بل هي مسعًى يُمكِّن من تجاوز البلاغة السردية وتعويضها بمنظورية بصرية ذات اقتصاد خاص قريب إلى حكاية العين المباشرة منه إلى حكاية الأذن.

ولعل السؤال الذي قد يطرح نفسه الآن هو التالي: كيف يكون الاختيار الأسلوبي التقني مدخلًا لإخصاب الرؤية الموضوعاتية؟ هذا بالضبط ما تُفصح عنه مثلًا رواية آمال مختار نخب الحياة.١٣ وليس هذا العنوان سوى بعض من سخرية آسرة تخترق الرواية ولا تذر في ذلك مجالًا للمواربة. بل هذا الضرب من الكتابة، إن كان ينزاح نسبيًّا عن موضوعات «الكتابة النسوية» وطابعها التعارضي السجالي،١٤ فإنه يسعى من خلال ذلك إلى بناء الذات في المفارقات التي تتحكم بين المرأة والرجل، بين الصمت والبوح، بين الهُنا والهناك، وبين الوحدة والتعدد. يتفكك الصراع ليحل محله السؤال. تقول الراوية: «كان يجب أن أخوض التجربة بعيدًا عن «هنا» الذي أصبح الآن «هناك» … كان يجب أن أكتشف العالم على ظهر السفر والصدفة، بحثًا عن ذلك الشبه بيني وبينه: الإنسان أينما كان … انتبهت إلى أنفاسي على زجاج النافذة. سعى إصبعي من كسله، وكتب على أنفاسي: أحبك … قلتها له لأُعلن النهاية والقرار الأخير، لأقطع معه عشقي وأعود إلى نفسي أجمعها وأرد لها توحُّدها … لقد أيقنت بعد ذلك أن الحلم لا يكون أبدًا مشتركًا، كذلك المتعة لا تكون أبدًا مشتركة. قد يكون منبعها واحدًا، لكن الفعل ينجزه كلٌّ على طريقته» (ص١٩-٢٠). وهكذا يتبدى أن البحث عن الذات غدا بحثًا عن مساحة وجودية لها في المفارقة لا في التناقض، وكأننا بذلك نستعيد الدورة من حيث بدأناها مع ليلى بعلبكي، ليغدو موطن الصراع مستبطنًا، ومجاله محتمِلًا أكثر للالتباس الذي يُشكِّل جوهره. بل إن هذه الدورة تُعلن عن نفسها في أسلوب الكتابة الروائية بجملها القاصمة وإيقاعها السريع وتوليفها السينمائي الذي ينقلنا بين الحاضر والماضي، عبر التماهيات بين الأشياء للانتقال بينهما بحرية مفرطة.

سؤال أخير

حين أثرنا في البداية مسألة الرواية العاطفية، لم يكن هدفنا تثمينها بقدر ما كان ذلك من جانبنا إثارة الانتباه إلى الأدوار التي تلعبها الأنواع الأدبية «الشعبية» أو التواصلية في التعاطي للموضوعات المتصلة بالسلطات: الأبوية والجنسية والسياسية، بل والتواصلية أيضًا. ولا يمكننا هنا إلا أن نثير سؤالًا غدا ملحاحًا في السنوات الأخيرة بالرغم من أنه لا يزال ضمنيًّا، على الأقل في الفضاء الثقافي العربي. يتعلَّق الأمر من جهة، بكتابات روائية تُثير قضايا مصيرية في الذات العربية من قبيل الحرية والجنس، ومكتوبة بطريقة قد لا تندرج في المسارات التاريخية لأساليب كتابة الرواية العربية كرواية المصري علاء الأسواني «عمارة يعقوبيان»، التي تحوَّلت إلى فيلم والتي أثارت ما أثارت من تلقٍّ ومن صدًى لدى القارئ العربي، ورواية السعودية رجاء الصانع بنات الرياض، التي تطرح بفصاحة مُجمل القضايا المتعلِّقة بشذوذ الوضع العربي في علاقته بالمرأة. ثم، من جهة ثانية، رواية العصر البصري الرقمي التي تجد مجالًا لها في شكل الكتابة والتداول المستوحية لمنتديات الدردشة وتقنياتها التواصلية المركبة، والتي نمثل لها ﺑ «كتابات» الأردني محمد سناجلة ظلال الواحد، وشات والتي تطرق بدورها مكبوتات المجتمعات الشرقية والخليجية منها بالأخص؛ ففي مجتمعات تعيش اليوم ما يمكن تسميته مع فرانسواز كوشار بعدوى المحرمات،١٥ تغدو البوابة الرقمية منفذًا يمرِّر كل الخطابات سواء منها المهيمِنة أم المقموعة. بل إن الآثار التي بدأنا نتحسَّسها في المجال الأدبي اليوم هي أن الشبكة العنكبوتية غدت مجالًا لمنح القيمة والعيانية visibilité لكل الآداب «القاصرة» التي لم تكن تجد لنفسها إمكانيةً للنشر فيما قبل.
من ناحية أخرى، وبالموازاة مع ذلك، ألَا يمكن اعتبار هذه التحولات مؤشرًا أيضًا على عودة الحكاية إلى حظيرة الرواية العربية، ومؤشرًا من ثمة أيضًا على تحولات صورة الأب التي غدت أكثر فأكثر متصلةً بالمعتقد foi، وبتأويلاته السياسية؟ ألَا تكشف هذه الانزياحات والانزلاقات أيضًا، سواء في رهان الحكاية أو رهان الشخصيات الرمزية عن العودة مجددًا إلى الصورة الرمزية للأب في مجازاتها وصورها المتعدِّدة والمتعدية وعن تجدُّد التقاليد الأبوية في الشكل الذي تستعيده تلك الصور؟
١  يبدو أن هذه الأطروحة، حسب علمي، لم تلقَ من النقاش ما يليق بخطورتها وبداهتها، مثلها في ذلك مثل مقولة النقد الثقافي وغيرها. انظر: جابر عصفور، زمن الرواية، منشورات المدى، قبرص، ١٩٩٩م.
٢  هذه هي أطروحة مشيل مافيزولي، في مجمل كتابته، ومنها بالأخص: تأمل العالم، ترجمة ف. الزاهي، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، ٢٠٠٥م؛ وكذلك: Du nomadisme, livre de poche, Paris, 1997.
٣  لا يخفى أن البناء الحكائي والأسلوبي في هذه الرواية، كما في الرواية المعاصرة لها نجمة لكاتب ياسين، يربط بين تفجير سلطة الأب وتفكيك البناء الروائي التقليدي ونُظُم الحكي به.
٤  هذا ما تطرَّقنا إليه في دراستنا: Farid Zahi, “Le Corps et ses représentations dans “La liberté” d’Ihsân Abdelqoddus”, in Trames, Université de Limoges, 1992.
٥  انظر حول هذا المفهوم كتابات جورج غوسدورف: Fondement du savoir romantique, Payot, 1982; L’Homme romantique, payot, 1983.
٦  ليلى بعلبكي، الآلهة الممسوخة، منشورات المكتب التجاري، بيروت، ١٩٦٠م؛ أنا أحيا، منشورات المكتب التجاري، بيروت، ١٩٦٤م.
٧  انظر بهذا الصدد: محمد برادة، «أنا أحيا بعد ٣٥ سنة: صوت المرأة المقلق»، ضمن أسئلة الرواية، أسئلة النقد، منشورات الرابطة، الدار البيضاء، ١٩٩٦م، ص١٨٤.
٨  محمد زفزاف، المرأة والوردة، ط.٢، الرباط، ١٩٨٧م.
٩  هدى بركات، حجر الضحك، رياض الريس، لندن، ١٩٩٠م.
١٠  هدى بركات، أهل الهوى، دار النهار للنشر، بيروت، ١٩٩٤م.
١١  Didier Azieu, Le Corps de l’oeuvre, Gallimard, 1981, p. 58.
١٢  Paul Veynes, “L’Individu atteint au coeur”, In: Sur l’individu, Seuil, 1987, p. 18.
١٣  آمال مختار، نخب الحياة، دار الآداب، بيروت، ١٩٩٣م.
١٤  لا مراء في أن موضوعة الصراع بين الرجل والمرأة وتحميل مسئولية اضطهاد المرأة للرجل وغيرها من الموضوعات المفضَّلة لهذا المنزع في الكتابة يتبدَّى في نصوص العديد من الروائيات العربيات بدءًا من العنوان: لم نعد جواري لكم لسحر خليفة، امرأة خارج الحصار لرجاء أبو غزالة، الرهينة لإملي نصر الله، الدمى الحية لهند سلامة، لا عزاء للسيدات لكاثيا سرور، رقيق القرن العشرين لنجوى القلعجي، امرأة في دائرة الخوف لضياء قصبجي … وغيرها كثير.
١٥  F. Couchard, Le Fantasme de séduction dans la culture musulmane, PUF, 1994, 2006.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥