الذات والأنوثة في الرواية العربية
«لكي تكون نظرتنا لنص ما عادلة، من اللازم وبطريقة تكون بالغة التحديد، تحمُّل مسئولية الخلل أو العيب والضعف، وعدم تفادي ما استطاع الآخر تفاديه بمهارة؛ وذلك لإبرازه انطلاقًا من هذه المسافة.»
مفارقات …
-
(١)
حين اكتشف الناقد العربي أن الرواية تبدو وقد غدت أحد أهم أجناس التعبير الأدبي، بادر إلى استلهام المقولة الهيجيلية القائلة بأن الرواية ملحمة البورجوازية ليجعل منها قولًا مأثورًا يزعم بأن الرواية جنس العصر،١ وأنها من ثَم الصوت التخييلي الذي يُعبِّر عن مجمل التناقضات والتحولات التي يعيشها الإنسان العربي أو بالأحرى المجتمع العربي. والغريب في الأمر أن هذا الرأي الاختزالي وجد صدًى في نفوس النقاد وتجاوز ذلك إلى مجمل مكونات الثقافة العربية، بحيث أصبح أشبه بالمُسلَّمة التي يتم ترديدها من غير الانتباه إلى المفارقات التي تنز بها. وبما أن غرضنا الأولي هنا الحديث عن البطريركية في الرواية العربية، فالأولى والأحرى بنا أن ننتبه لها في قلب مصطلحاتنا التي نتعامل بها مع هذا الكِيان الثقافي، ساعين من وراء ذلك إلى أن نخرج من الدائرة الضيقة للقول الروائي، ومن ثمة الأدبي، لمعانقة مجمل العلائق والتعالقات التي تخترق جسم النص الثقافي عامةً من خلال إشكاليات خصوصية متصلة بالرواية.وحين استكشف الناقد العربي هذا المفهوم، كان من خلال ذلك يستقرئ معطًى أصبح واضحًا في الثقافة العربية يتمثَّل بالأساس في التوجه العام الذي بدا أن الكتابة الأدبية تنحوه مع التحولات الاجتماعية والسياسية والثقافية التي عرفتها المجتمعات العربية، بدءًا من أواخر السبعينيات، والرجَّات التي حدثت بشكل معلن أو مضمر في بنية التفكير الثقافي العربي. بيد أن استنباته جاء عبارةً عن إعلان فتوة أدبية واعتباطية توخَّى من خلالها التعبير عن واقع خصوصي لا يمكن استثمار مستتبعاته بشكل تجريبي وسياقي؛ ففي هذا الوقت أو الزمن بالذات، ومن خلال قراءة أنثروبولوجية بسيطة، يمكن القول بأن ثمة تداخلات زمنيةً عديدة كانت تسم ذلك «الزمن»، لم يكن من اليسير فيه تحديد هيمنة نمط ما إلا بالقراءة الشمولية للواقع الثقافي العربي؛ فالعصر عصر الصورة والرقمية بامتياز، حتى في المجتمع العربي، وهو عصر صورة متقدم ومركَّب عرفت معه السينما نفسها، مع دخول التلفزيون للحياة التواصلية، ارتجاجات وتراجعات في المجتمع العربي نفسه. إنه زمن التواصلات البصرية المركَّبة التي تغدو الرواية نفسها جزءًا خطابيًّا منه. بل يمكن القول إن هذا البصري نفسه غدا يخط لنفسه برنامجًا متواترًا يتم من خلاله استعادة مجمل العناصر التي كبتتها الحداثة وبخاصة منها الطابع التداولي والجسدي والشفوي للثقافة.٢
إن هذه التسمية، وبالرغم من أن العديد من القرائن تؤكِّدها، فإن القرائن نفسها تنفيها بمجرد ما نضعها في سياقها الثقافي؛ ذلك أن الانتقال من «زمن» الشعر إلى زمن الحكي هو انتقال لا يتم افتراضًا إلا من خلال قدرة الحكي على تمثُّل الشعري واحتوائه؛ وهو ما يبدو أنها خاصية قام بها الشعر والحكي معًا وفي فترة واحدة. مما يعني أن الأمر يتعلق من الناحية الجمالية بانزلاقات تمثِّل فيها الرواية الشعرية والشعر الروائي عمليتين مُفكَّكتين للخلوص النوعي أو الإجناسي والتجنيسي من كل نزوع وضعي. وإذا كان ثمة من نوع ثقافي غدا سلطةً في وقت ما وبسط هيمنته لفترة معينة على الثقافة والمجتمع، بل على الاقتصاد حتى، فهو السينما، خاصةً في عز الهوليوودية، قبل أن يدخل التلفزيون إلى المعمعة ويتبوَّأ على عرش التواصلات الثقافية.
إذا كان وجود الرواية رهينًا بمدى قدرتها على تفكيك العلاقات الاجتماعية وإعادة تشكيلها، فإن هذا الأمر لا يتم إلا وفقًا لاستراتيجيات كتابية بلورية، تعتمد مجموعةً من الرؤى والمنظورات الحكائية، التي تعبِّر بشكل أو بآخر عن معطيات تتصل بالذات والجماعة وبالأنا والآخر وكذا بالمرئي واللامرئي، أو بلغة متداوَلة بالمحسوس والمتخيل. من ثم يمكن القول بأن الرواية العربية سلكت مسيرًا عامًّا يتصف بالبحث المُضني عن ممكنات تأسيس الذات في مواجهة العالم تارة، وعن ممكنات الوجود في العالم تارةً أخرى. بهذا الشكل يتجلى هذا البحث المزدوج والمتواشج في صور شتى تتراوح بين وجهات متعدِّدة ومتباينة، تتعلَّق تارةً بتفكيك العلائق الاجتماعية، والتأريخ لسلطاتها المُعلَنة والمضمرة، وتتصل في حالات أخرى بالبحث عن قيم جديدة انطلاقًا من شجب القيم الكائنة، وتتمثَّل أيضًا في بناء الذات باعتبارها وجودًا مستقلًّا عن الآخر والعالم إن لم تكن كِيانًا يقول العالم في فرادة الذات. تخترق هذه التشكُّلاتِ أو أنماطَ الكتابة ضروبٌ من الوشائج تجعل مُجمل الموضوعات والوجهات المقترحة في هذا اللقاء مداخل ممكنةً لقراءة تواتر القضايا الأنطلوجية والتعبيرية للكتابة الروائية. ولعل هذه البلورية، أو المنظورية perspectivisme بلغة نيتشه، هي التي تدعوها إلى أن تخلق الروابط المتينة وتبتكرها أيضًا بين الأب والجسد والجنس والفرد أو الذات، باعتبار أن السلطة الأبوية تتحرك وسط سلسلة من السلطات الفرعية والضمنية التي تقوم بتدبير الجنس والعلاقة بالجسد والذات … -
(٢)
لأبدأ من موقع يؤكد ترابط المتناقضات وتفاعلها وافتتان أطرافها البعض بالآخر.
منذ أصدر الروائي المغربي إدريس الشرايبي روايته الماضي الخالص Le Passé simple سنة ١٩٥٤م، ظل الاعتقاد الراسخ يتمثل في كونها روايةً ضد الأب ومعه ضد كل أشكال البطريركية في المجتمع التقليدي العربي المبني على السلطة المرجعية للأب وعلى غياب الحرية في الأسرة العربية.٣ ومع ذلك، فإن أغلب قُراء الرواية توارثوا هذا الحكم وأسبغوه على الرواية، متجاهلين علاقة الافتتان والأنموذجية التي يبنيها البطل في نهاية الرواية مع الأب، مبينًا عن الضعف والهشاشة التي تنخر كِيانه الواهن. الأمر نفسه عاينَّاه مع كتابات محمد شكري، التي يتوقَّف الغالب الأكبر من متناوليها عند رواية الخبز الحافي، ساعين إلى قراءتها في ملفوظها المباشر، متناسين أو متجاهلين الالتباس الذي يكتنف الحكي الروائي والطبيعة الملتبسة لبناء الشخصية والذات الروائيتين؛ ففيما تُعلن هذه الرواية ظاهرًا عن شهوانية الشخصية وفضائحية بل ازدواجية رغباتها، تبين العديد من النصوص الأخرى عن كون هذا الأمر ليس سوى مجاز يحجب ويكشف في الآن نفسه الطهرانية التي تسري في كتابات شكري كما يسري الدم في عروق الجسد.إننا ونحن نُثير هذين المعطيين ندعو من ثم إلى ضرب من القراءة المتعددة في الموقع أو الموقف الواحد؛ قراءة متأولة لذاتها وللآخر، في علاقة مرآوية تشكل لعبةً يتم من خلالها استدراج النص إلى الإفصاح عن منابته ومنابعه الحكائية، بحيث يقوم هو نفسه بدعوتنا إلى عدم الانسياق وراء ثوابت قد تبدو لنا متغيِّرات والعكس بالعكس.
-
(٣)
من هذا المنطلق يمكننا أن نعتبر أن مسير الرواية العربية في منعطفه الحاسم قد انطلق بشكل ما من حجر الزاوية هذا: مناهضة موقع الأب باعتباره موقعًا رمزيًّا لكل السُّلطات التي يشكِّل بصورة ما نموذجًا لها. ونشير هنا إلى أن ثمة نقطةً ثالثة تشكِّل نقطةً عمياء في منظور النقد العربي للأدب تتمثل في نزوعه إلى تشذير تاريخ الرواية العربية وبنائه على مفهوم الأفضلية الثقافية. والحال أن ثمة أنواعًا من الكتابة الروائية، وإن كانت لا تلائم جمالية الذوق المثقفي ولا المنازع السياسية التي استهوت النقاد والمؤرخين، إلا أنها، أراد الناقد أم كره، تجد موقعًا لها في التلقي على الأقل، وكانت بشكل أو بآخر محطَّ استهواء كم هائل من القراء العرب إلى حدود اليوم. إن الأمر يتعلَّق بما يسمَّى بالرواية العاطفية سواء في صيغتها النمطية لدى عبد الحليم عبد الله أو إحسان عبد القدوس أم في صيغتها الهجينة والثقافية لدى غادة السمان. ويمكننا أن نعتبر أن هذه الرواية قد ساهمت بشكل غير مباشر في طرح مجمل المعضلات ولو بشكل عابر أحيانًا واختزالي أخرى لقضايا تتعلق بالجنس والأنوثة والذكورة وتوتر السُّلطات الرمزية. وليس علينا هنا سوى أن نتمثَّل برواية إحسان عبد القدوس «أنا حرة» التي أعتبرها نموذجًا للرواية العاطفية في اكتمالها.٤ وتجاوُزها، في الآن نفسه للعديد من الروايات العربية التي اعتُبرت في بحر سيادة الأيديولوجيا القومية روايات طلائعية.
-
(٤)
ولنا أن نطرح هنا قضيةً تتعلق بفرضية فكرية أكثر منها روائية. لنقل بدءًا إن الرواية العربية في حداثتها انطلقت من السؤال أو هي كانت روايةً تساؤلية، وغنائية، ومن ثمة نقدية. وهذا الطابع جعلها بشكل أو بآخر روايةً تحاور بشكل معلَن أو ضمني تيارًا فكريًّا لم يتعامل معه المحيط العربي الحديث والمعاصر إلا بشكل سلبي أو جزئي. يتعلق الأمر بالرومنسية في تحديداتها الأكثر أصالةً لدى غوته وشليغل. إننا نعني بالبعد الرومنسي هنا ولادة علاقة جديدة مع الموضوع الجمالي (العمل الروائي)، وولادة علاقة جديدة أيضًا مع الذات subjectivité. من هذا المنظور يكون اندراج الرؤية التي تحكَّمت في تطور الرواية العربية في مجملها، وإلى وقت قريب، واندراج النقد المتفتح والمنفتح على هذه التحولات بكل التباساتها وتعرجاتها، في هذا البعد أو المدار الرومنسي٥ الضمني لكن الواضح، اندراجًا تاريخيًّا في تحولات الثقافة العربية وخصوبة القضايا التي تطارحتها أو طرحتها على الوعي والمجتمع العربيين. إن حداثة الرواية العربية وحدود هذه الحداثة يعودان بالأساس إلى هذا الاشتغال الاستراتيجي على الذات من حيث هي هُوية الفرد وبوتقته الوجودية، وفي الآن نفسه إلى الاشتغال على مراياه الجمالية من أنماط للحكي والكتابة. بهذا المعنى يكون هذا البعد الرومنسي أيضًا المولِّد للسخرية اللاعبة على المفارقات، وهو المولِّد أيضًا للأبعاد المأساوية في الكتابة العربية، وللعودة للخيال الفردي والحياة الشخصية، ولمجمل الحوافز التي كانت وراء استلهام التاريخ النوعي للحكاية وتفتيت الحكاية الأم؛ أي الرواية. من ثم أليس «زمن» الرواية في العالم العربي بشكل ما زمن نهاية الحكاية؟ ذلكم هو لب المفارقة التي نحن بصددها.
ضد المرجع أو مرايا الذات
ثمة في هذا الضرب من النصوص سخرية دفينة تنبني على تحويل الذات إلى مجال للكشف عن مفارقاتها وعن تناقضات العوالم المحتمَلة للحلم (الغرب، المرأة الأوروبية …). بهذا الصدد يقول الراوي بغير القليل من السخرية السوداء: «فكَّرت مليًّا. يا إلهي! ما هذه الحيرة والعطالة في دماغي؟ إن ساعة الاختيار قد حلَّت. ما هي إلا فرصة واحدة تتحقَّق في العمر كله. وأنا؟ من أي جنس أنا؟ عربي: ما لكل العرب تتحقَّق فرص مثل هذه. لماذا لا أصير زهرة؟ ولماذا لا أتزوَّج المرأة البدينة التي يمكن أن تساعدني على أن أصير إلهًا؟ … حرَّكت قدمي وتذكَّرت كل ماضيَّ السيئ الذي عشته واحدًا مثل الملايين في قرًى قذرة منتشرة في جبال الأطلس أو جبال الريف … وتذكَّرت صوت آلامي الكثيرة التي قصمت ظهري الضعيف. الآن وجدت الحل: امرأة بدينة تُحبني وتُنقذني من هذه الورطة الصعبة التي تتخبَّط فيها أوهامي وأحلامي …» (ص٦٣).
بهذا الصدد ليس من الغريب أن تسعى العديد من الكاتبات العربيات إلى التعبير عن هذه الولادة المضطربة للذات بسلوك السيرة الروائية القريبة والمحاذية للسيرة الذاتية، وإن غير المتماهية معها، وانتهاج التعبير الحكائي بصيغة الأنا أو الحكي الذاتي. إن اختيار الحكي بضمير المتكلم ليس فقط اختيارًا اعتباطيًّا لصيغة سردية معينة، بقدر ما هو اختيار لنمط من الحكاية أقرب إلى الذات وفي الآن نفسه، وهذا ما لم تنتبه له بعض الكاتبات العربيات إلا بشكل متأخر، أكثر استعصاءً على الحكاية وأكثر انصياعًا للهذيان. من هنا يكون التماهي بين الذات والأنا مدخلًا مباشرًا للحكاية المتشذِّرة المُعلِنة لموتها في مطلع هذا التماهي نفسه. إنها ولادة قيصرية للذات تختار لنفسها أن تقول أكثر من أن تحكي وأن تحكي أكثر من أن تصف، وأن تصف أكثر من أن تصوغ مشاهد تلميحية.
رهانات جمالية وخيارات أسلوبية
لعل الرواية هي النوع الأدبي الأشد صلابة، والأكثر هشاشةً في الآن نفسه، الذي يُعمي أحيانًا بقوة موضوعاته عن الخيارات الأسلوبية والجمالية الممكنة، والذي يُعمي أيضًا عن هشاشة موضوعاته باللعبة الجمالية التي يُقيمها في صلب التناول الروائي. إن هذا الميسم الخصوصي، غير ممكن، أو هو على الأقل ضعيف المردودية، في الأنواع الحكائية الفرجوية أو البصرية كالسينما والمسرح. وربما كانت هذه الحرية التي تتميَّز بها الرواية؛ إذ هي بنت الحداثة بامتياز، هي ما يجعلها تتمادى في هدم ما تقوم عليه أساسًا من حيث هي كذلك، فلا تضيع بذلك هُويتها بشكل مطلق، وتتمادى من جهة أخرى في تعزيز تلك الأسس قصدَ خدمة المعنى فلا تضيع منها جماليته وغرابتها.
هذا الخيار الأسلوبي والحكائي هو ما يجعل الرواية العربية روايةً منفتحة على التجريب ومحافظةً في الآن نفسه على التجربة الأصل: تجريب الممكنات الحكائية والموضوعاتية وتفكيكها في الآن نفسه. وبهذا المعنى أيضًا يكون هذا الخيار تعبيرًا عن عنف الرغبة الحكائية في الكتابة الأدبية بالعالم العربي.
وحتى نعود إلى ما ألمحنا إليه سابقًا من نزوع الحكي الروائي إلى الارتداد ضد نفسه من خلال استيحاء الممكنات التقنية لأجناس أخرى قد تكون معاديةً له أو على الأقل منافسةً له، يمكننا أن نعتبر هذه الخطوة التي تدخل فيما يمكن تسميته بالتناص الشكلي أو التمفصل الأسلوبي، ذات علاقة وطيدة بطبيعة السرد الشهرزادي الذي يستعين بالآخرين لتكوين جَوقة الحكي، التي من دونها لا يمكن أن تستوي الرواية باعتبارها كذلك. إن روائيًّا شابًّا من قبيل مصطفى ذكري ينساق إلى ضرب من العدوى التفاعلية بين اشتغاله البصري في السينما وبين الكتابة الروائية، بحيث تغدو الممارسة الروائية لديه ضربًا من المُشاهدة اللغوية إن صح هذا التعبير الصوفي المركب. وليس استعمال المنظورات والتقنيات السينمائية بجديد؛ فالقرابة بين الحكي الروائي والسينمائي قائمة؛ بيد أن ما تسعى إلى استبطانه روائيًّا العديد من التجارب الروائية هو الطابع البصري للسرد السينمائي، مما يدفعنا إلى القول إلى أن هذه الروايات تسعى إلى أن ترى من خلال اللغة، أو هي تسعى إلى تحويل الخيال اللغوي إلى خيال بصري. إنها محاولة مستحيلة وممكنة في الآن نفسه، بل هي مسعًى يُمكِّن من تجاوز البلاغة السردية وتعويضها بمنظورية بصرية ذات اقتصاد خاص قريب إلى حكاية العين المباشرة منه إلى حكاية الأذن.