دريدا بين ظهرانينا
ما الذي يجعل الثقافة العربية قريبةً من جاك دريدا وبعيدةً عنه في الآن نفسه؟ إلامَ
تعود غرابة هذه العلاقة الانتقائية جدًّا والملتبسة جدًّا؟ لا أحد يستطيع أن
يُنكر أن أول تلقٍّ فعلي لنصوص دريدا كان على يد المفكر المغربي عبد الكبير الخطيبي،
منذ رسالة دكتوراه السلك الثالث التي نشرها بعنوان الرواية المغربية.
١ إن هذا التلاقح المبكر كان ضربًا من التفعيل المنهجي والانفتاح المعرفي
من قِبل عالم اجتماع تحوَّل إلى مفكر وفيلسوف وغدا أحد مواقع الفكر الحداثي العالمي
بالعالم العربي علاقةً وصداقة. وكان من اللازم انتظار ترجمة أعمال الخطيبي إلى
العربية كي يتعرَّف القارئ العربي بشكل شذري وشخصي وتأويلي على هذا الفيلسوف في سياق
لا يغايره كثيرًا في الاستراتيجية الفكرية والتحليلية.
لم يُترجَم دريدا بشكل منهجي وفعلي لأول مرة إلا سنة ١٩٨٧م على يد كاظم جهاد ليتعرف
القارئ العربي لأول مرة نصًّا على مفاهيم دريدا واستراتيجيتها النصية والتناصية.
لتتوالى الترجمات بفتور
٢ يُفصح عن إشكالية لا تزال تطرح نفسها في بُعدين: بُعد التملك المفاهيمي
لكتابات دريدا، وبُعد الإمكان الترجمي لنصوصه. يذكِّرني هذا الأمر بمفكر وظاهرة أخرى
في الفكر المعاصر هو العالم النفساني جاك لاكان الذي لم تُنشر أعماله أو مناظراته
إلا في السنوات الأخيرة، وظلَّت محاضراته تُتداول على الكاسيط بين المتخصصين لسنوات
طويلة. الفرق بين الاثنين أن لاكان ظلَّ مُقلًّا، فيما ظل دريدا مسهبًا إلى درجة ذاع
معها صيت طول مداخلاته ومحاضراته.
بين دريدا والثقافة العربية المعاصرة ضرب من العداء الخفي أو الممانعة المعلنة
والمقاومة الناجمة عن أسلوب دريدا الفلسفي الذي يبدو حتى لفلاسفة العرب الأكثر
تحرُّرًا ضربًا من الهيروغليفية المُقَنَّعة. وحتى بالمغرب العربي الذي تعرَّف على أعمال
دريدا مبكرًا وبشكل مباشر في لغتها، لم يجد هذا الأخير إلا هوامش لم تُتَح لفكره فيها
الفرصة ليغدو مكوِّنًا ثقافيًّا محليًّا، أما الاهتمام المتأخر به في المشرق العربي
فناجم عن الشهرة التي حظي بها هذا المفكر في الولايات المتحدة، والتي حوَّلت فكره إلى
مذهب يُسمَّى التفكيكية. والحقيقة أن تلقي دريدا في الولايات المتحدة نفسها يخضع إلى
القانون نفسه الذي يسود في العالم العربي: قلة الترجمات مقارنةً مع كثرة الكتابات
البيداغوجية والديداكتيكية والتحليلية والتأويلية والسياقية. فبالرغم من انتماء
الإنجليزية إلى عائلة اللغة التي يكتب بها دريدا والسهولة المفترضة لهجرة الغرابة
اللغوية والاشتقاقات والنحوت اللفظية، فإن اشتغال النص الدريدي على لغته بشكل
انعكاسي وتأويلي متواصل قد يجعل مهمة المترجم الإنجليزي نفسه مهمةً ربما لا تقل
عسرًا عن مهمة المترجم العربي أو العبري.
إن هذه المفارقة نابعة من وعي نصوص دريدا نفسها بمستويات استحالتها، وقدرتها
المتناسلة على تفكير تلك الاستحالة نفسها باعتبارها شرطًا فكريًّا. من ثم فإن عملية
التوسيع والتطويع التي يقوم بها دريدا كي تسع اللغةُ فكرَه وسيرورة تفكيره تنعكس بشكل
ما على عملية الترجمة وإمكانها. وهو ما يدفعنا إلى إعادة التفكير في ثنائية القابل
للقراءة والقابل للترجمة باعتبارها ثنائيةً قابلة للنقض. فإذا كانت نصوص دريدا
مستعصيةً على القراءة، من منظور القارئ غير المتمرِّس بفلسفته وبفلسفات الاختلاف
والتفكيك قبله، فإنها قابلة للقراءة والإدراك للقارئ المترجم باعتباره قارئًا
محترفًا منتبهًا لخصوصيات النص ولغته. ومع ذلك فإمكان القراءة هذا لا يعني منطقيًّا
إمكان الترجمة؛ لأن ثمة بينهما لعبة اللغة وحلزونية الفكر ومتاهات الدلالة
والمعنى.
الترجمة قضيَّةً فلسفيةً
ظلَّت الترجمة مجالًا منبوذًا، لا من قِبل الفكر عمومًا، وإنما أيضًا من قِبَل
الفلسفة والتفكير الفلسفي حصرًا؛ فنحن لا نُصادف في تاريخ الميتافيزيقا الغربية
تصورًا للترجمة من حيث هي عنصر قابل للتفكير والتفكر والتعقل، أو من حيث هي ممارسة
أصلية. والنص المترجَم يدخل في هذا الإطار في مضمار النسخة والشبيه والسيمولاكر.
والترجمة محكومة بأسطورة الأصل والهُوية التي لم يتنطَّع لنقدها إلا مفكِّرون من أمثال
نيتشه، ثم بعده هايدغر بالأخص في مقالته الشهيرة عن الهُوية … الترجمة بهذا المعنى
ظلَّت تُعتبر ظل اللغة غير المتحدِّد وغير المحدَّد، ومآلها الذي لا يُغيِّر من جوهرها
أو
صورتها شيئًا. ومن حيث هي كذلك؛ أي كِيانًا عارضًا مدينًا في وجوده للأصل، لم يكن لها
أن تجد مكانًا في فضاء الفكر عمومًا. وربما كانت كتابات فريدريك شليرماخر
٣ والرومانسيين الألمان عمومًا، ثم بعدهم هايدغر ووالتر بنيامين، الأولى
التي منحت للترجمة وجودًا أنطولوجيًّا في الفكر، وحوَّلتها إلى موضوع للتفكير
والتفكر.
ولعل دريدا كان أول من منح لمشكل الترجمة مكانةً مركزية في الفكر الفلسفي لم يكن
ليحظى بها قبله، ولو مع مفكرين نبيهين ومتيقِّظين للهوامش من قبيل هيجل أو هوسرل أو
هايدغر أو سارتر أو ميرلوبونتي. وبهذا الصدد سيعتبر دريدا أن الترجمة ملزمة لكل ما
يدخل في رهان المرور إلى الفلسفة.
٤ وهو ما يعني أن سيرورة التفلسف رهينة بفعل الترجمة باعتبارها مجازًا
وفعلًا حقيقيًّا.
ثمة ثلاثة مستويات يمكننا من خلالها الإحاطة بمفهوم الترجمة لدى جاك دريدا: أولًا
باعتباره مترجمًا لنصوص الآخرين، سواء بشكل مستقل، أو في النص الفلسفي نفسه، ثم في
تصوره لمفهوم الترجمة باعتبارها مكونًا للتفكير وعنصرًا فاعلًا في صياغته، ثم
أخيرًا باعتباره هو نفسه موضوعًا للترجمة ولفعلها. إنه الأمر الذي يجعلنا أمام
تحليل لظاهرة مرآوية تكون الترجمة أسًّا وأثرًا وامتدادًا لها، وموضوعًا وأداة،
وأفقًا وتاريخًا.
بدأ جاك دريدا حياته الفكرية مترجِمًا، بحيث كانت ترجمته لكتاب هوسرل
أصل
الهندسة، الخطوة الأولى للمرور إلى الفلسفة، إذا نحن أبحنا لنفسنا هذا التعبير. كما أن
المقدمة التي كتبها لهذا المصنف نفسه ستحظى بموقع خاص لدى فلاسفة ومفكري تلك المرحلة؛
بل إن جاك
لاكان احتفى به احتفاءً كبيرًا. وليس من قبيل الصدفة أن يكون مرور دريدا نفسه للفلسفة
قد تم واستمر
يمر إليها عبر الترجمة؛ وكأن الترجمة بهذا المعنى سيرة الكتابة الفلسفية. يتبدَّى ذلك
واضحًا في أمرين
اثنين: أولًا في استمرار العلاقة الحميمة بين دريدا ومترجميه إلى الحد الذي يتقاسم معهم
فضاء
كتبه؛
٥ ثم في كون علاقته التفكيكية بالفلسفة الإغريقية
والألمانية، ومنذ كتاباته الأولى وبالأخص
في علم الكتابة De la Grammatologie و
التشتيت La Dissémiation، عبارة عن تفكيك
بالترجمة.
٦ وهو الأمر الذي جعله يصرِّح بتلك العلاقة الصميمة بين الكتابة والترجمة ثم بين التفكيك
والترجمة. وبما أن التفكيك «أكثر من لغة واحدة»، فإن الترجمة تغدو لذلك كما التفكيك مرتبطةً
بالممتنع
عن الترجمة باعتباره قضية وجود وفكر. لقد نبَّه دريدا في كتابه
الكتابة
والاختلاف إلى الطابع الميتافيزيقي للغة، الذي يجعل من مسعى المفكر والفيلسوف مسعًى
محدودًا بإمكانات المجاوزة. من ثم، فما تُمكِّن منه الترجمة هو توسيع لعبة الهوامش والمدارات
التي
يستدرج فيه الفكر الميتافيزيقا إلى مراياها وشتاتها عبر اللعب على ممكنات اللغة نفسها.
إن الحساسية «المتضخِّمة» لدريدا تجاه اللغة والكلمات والحروف والنطق والكتابة
والأثر، كلها نتيجة لهذه اللعبة الترجمية الكامنة أصلًا في الفكر. ونحن لا نقرأ له
نصًّا إلا ونجد أنفسنا وقد تم الزَّج بنا منذ البدء في مسارب الغابة ومسالكها
الوعرة. فما إن يتعلَّق الأمر بالفكر، وخاصةً باللغة، حتى تتبدى استراتيجية الترجمة
استراتيجيةً موازية، إن لم تكن ماهدةً لكل الأمور التي اعتدنا أن نعتبرها ذات أهمية
قصوى كافية لتحجب ما كان يبدو من بعيد أكبر حجمًا من الترجمة. إن دريدا يحوِّل
الترجمة إلى قضية ضيافة للأجنبي وقضية سياسية واستراتيجية. وبهذا الصدد نورد هذا
الهاجس كما جاء على لسانه في مداخلته بلشبونة سنة ١٩٩٤م أمام البرلمان الدولي للكتاب
الذي كان وراء تأسيسه. فبعد أن تحدَّث عن موقع اللغة باعتبارها جسدًا للمثقف، وعن
هيمنة بعض اللغات كاللغة الأنجلوأمريكية نُلفيه يدعو إلى توظيف هذه الهيمنة وإدانتها
من خلال حماية اللغات والثقافات المحلية وإخراجها من محليتها. يقول: «لا مجال للأدب
من غير إعادة توكيد للغة المحلية وللحرف، لكن لا مجال للأدب إذا هو لم يتحرَّر من
العقيدة والخلوصية والحرفية. إن معاناة هذه المفارقة يتطلب سياسةً للسان والترجمة.»
٧ بيد أن هذا لا يعني أن الترجمة تتعلق فقط بالنص وباللغة والأدب؛ إنها
فعل يشمل مجمل أنماطها كما حدَّدها ياكبسون بين اللغة والظواهر، وبين اللغات.
الترجمة في مجمل معانيها
يتعامل دريدا مع الترجمة باعتبار مجمل معطياتها العبرلغوية والعبرسيميائية. إنها
العملية التحويلية التي تُشكِّل وساطةً نشيطة بين كل موقعٍ وآخر؛ ففي أحد نصوصه الأولى
عن فرويد يتطرَّق بشكل أولي للترجمة بالشكل التالي، بعد أن يتحدَّث عن نظرية فرويد في
الأحلام ورموزها، باعتبارها رموزًا لا تتشكل في سَنن قارٍّ يشكِّل لغةً للحلم في الكتابة
النفسية: «من ثم فإنها (رموز الأحلام) ليست بعبارة دقيقة دوالًا. وإمكان الترجمة،
إذا كان بعيدًا عن الزوال … يبدو مع ذلك مبدئيًّا ونهائيًّا محدودًا.»
٨ ثم يضيف بُعيد ذلك بنبرة نظرية وتنظيرية: «لا وجود للترجمة، ولنسق
للترجمة، إلا إذا كان ثمة سَنن دائم يمكِّن من استبدال أو تحويل الدوال بالحفاظ على
المدلول نفسه في
حضور دائم بالرغم من غياب هذا
الدال أو ذاك …»
٩
في نقد دريدا الجذري هذا لتصور فرويد للكتابة الحلمية، نراه يرتكز على قانون
الترجمة في تحديده العلامي، مؤولًا بشكل أصيل ولأول مرة الكتابة النفسانية لدى
فرويد انطلاقًا من بياضاتها وآليتها الداخلية ومؤدياتها العامة. هكذا فإن فرويد لا
يني يمارس ضربًا من الترجمة باعتبارها مجازًا، بحيث إن استبدال الدوال يشكِّل على ما
يبدو النشاط الأساس والجوهري للتأويل النفساني؛ ففي تطرُّقه للتعبير اللفظي كما يتحدد
في الحلم، نلاحظ أن جسم اللفظ أو نبرته لا ينمحي أمام مدلول التعبير، أو على الأقل،
أنه لا ينصاع للعبور أو الخرق كما يتم ذلك في الخطاب الواعي. من ثم فإن «الجسم
اللفظي لا ينصاع للترجمة أو النقل إلى لغة أخرى. إنه يشكِّل بالضبط ما تُسقِطه الترجمة
من حسابها. إسقاط الجسد من الحساب وتركه، تلك هي بالضبط الطاقة الجوهرية للترجمة.
وحين تستعيد الترجمة جسدًا فإنها تكون شعرًا.
١٠ من هذا المنظور فجسد الدال الذي يُشكِّل الجانب المحلي للغة
idiome غير قابل للترجمة.
إن نقاش دريدا هنا يضع فكره في مواجهة (بالمعنى الأصلي للكلمة؛ أي الوجهية لا
المعارضة) بينه وبين اللايُترجَم itraduisible قبل
المواجهة مع اليُترجَم traduisible (إذا أبحنا لنا
هذين المفهومين في هاتين الصيغتين). بل إن مهمته الفلسفية تبدو كما لو كانت تهتدي
بهذا التحدي المستمر الذي تتطلَّبه ترجمة العوالم الفكرية الغامضة المحاذية أو
المتاخمة للامعنى. بمعنًى آخر، تتشكَّل الترجمة وفقًا لهذين الإيقاعين المتعاضدين،
باعتبارها فعلًا ترجميًّا le traduire لا يني يمارس
نفسه في الاختبار، معانِدًا حضور الذات وغيابها وأفول الحاضر وعودته المحتملة
وباعتبارها انتقالًا مستمرًّا بين الحاضر والغائب، والذات والعالم، والأصل المفترَض
ونسخه الحقيقية.
من هذا المنظور يستدعي دريدا تصوُّر والتر بنيامين للترجمة ويمارس فيه وعليه نقده
وتفكيكه لميتافيزيقا الدَّيْن
dette. يعتبر والتر
بنيامين أن المترجم يظل مدينًا للأصل من حيث إن النص الأصل يفرض عليه مهمته وواجبه
الذي يتوجَّب عليه أن يقوم به في أحسن الظروف والأحوال. هكذا يكون المترجم وريثًا
لمسئولية تُمكِّن من خلاص الأصل وخلوصه؛ وبما أن الأصل مُتعلِّق في هذا الخلاص وهذا
البقاء بالمترجم، فإنه في الأخير يصبح مدينًا أكثر في هذه المهمة المعهودة بها
للمترجم. والحقيقة أن علاقة المترجم هذه بالنص، باعتبارها دينًا متبادَلًا، تنطبق
أيضًا على كل قراءة عمومًا وعلى كل قراءة ممكنة؛ خاصةً وأن المترجم قارئ بل قارئ
متميِّز وخصوصي. من ثم يمكن القول مع دريدا بأن كل قراءة هي أيضًا دَيْن للنص المقروء.
١١
يُميِّز بنيامين بين النص والترجمة؛ فالنص ينصاع للترجمة وإعادة الترجمة مرات عديدة،
بينما يمتنع النص المترجَم عن الترجمة بدوره.
١٢ هذا البرهان يُعلي من قيمة الأصل ووحدانيته ويلغي فاعلية الترجمة
ليربطها ﺑ «خطيئة» الأصل. لكن بما أن كل ترجمة قراءة، فإن العديد من الترجمات تغدو
بدورها أصلًا يُترجَم. يشير دريدا بهذا الصدد إلى ترجمات هولدرلين لسوفوكل
١٣ ونُشير بدورنا إلى كتابات ماركس وخاصةً البيان الشيوعي وكتابات فرويد
التي تحوَّلت ترجماتها إلى الفرنسية والإنجليزية إلى أصول يُترجَم عنها للعربية.
وبالرغم من رداءة العديد من هذه الترجمات فإنها لا تزال سارية المفعول ولم تأتِ
ترجمات من «أصول الأصول» لتمحوها أو تأخذ مكانها. من ناحية أخرى، إلى أي حد يمكن
القول تبعًا لبنيامين بأن ترجمةً تمحو أخرى سابقةً عليها؟ ألَا تعيش العديد من
الترجمات أكثر من الأصول لفقدان هذه الأصول؟ ألم يتم تحقيق العديد من الأصول
انطلاقًا من الترجمات؟ ثم إن كل ترجمة تعيش مقدار ما تعيشه وتفعل فعلها. ألم يؤثِّر
البيان الشيوعي في ترجماته البسيطة، عن دار التقدم، أكثر مما أثَّرت ترجمة العفيف
الأخضر التي أثارت ضجةً كبرى، بحيث يمكن القول إنها جاءت في وقت كان المد الماركسي
يعيش فيه في العالم عمومًا انحسارًا رهيبًا؟
بهذا المعنى العام لمفهوم الترجمة يمكن اعتبار نصوص دريدا بكاملها ترجمةً أو ترجمةً
لنصوص «أصول». بيد أن هذه النصوص بدورها أصول؛ لأنها تقتضي بدورها الترجمة. ذلك هو
حال مفهوم التفكيك الذي يُعتبر ترجمةً لمفهوم
destruktio الهايدغيري، لكنه مفهوم يُفصح عن ثنايا
المعاني الإضافية التي تفترضها عملية واشتغال الترجمة اليقظة.
الترجمة في صلب المفاهيم
تُمكِّن الترجمة في فكر دريدا من التطرق إلى كل ما يتعلَّق بالعبور. وبما أن التفكيك
يتم في العبور أو في البَيْن بَيْن، لا في المنتهى، فإن الترجمة تُمكِّننا من تحليل
القضايا التي تنصاع لها، والتي تمتنع عنها، لتمنحنا تصورًا معينًا لها. ذلك هو
مثلًا أمر الاسم العلم؛ فالاسم العلم الذي به نُوقِّع النص والذي يُعتبر بمعنًى ما
«هُوية» النص، يقاوم فعل الترجمة؛ إذ هو لا ينصاع للترجمة في لغة أخرى. ولو كانت
الأصوات وحدها معانيَ لبحثنا عن مقابلات لدريدا في العربية من قبيل ابن دريد مثلًا،
ولكان الأمر عبارةً عن مسخرة سابقة على الفلسفة والترجمة معًا. يهم الاسم العلم
التصور الدريدي للوجود من وجهتين: وجهة الملكية الخصوصية (
propre,
propriété) باعتبارها أحد العناصر التي تُشكِّل نقده لفكر الحضور
والخصوصية لدى هايدغر، ومن وجهة علاقة الاسم العلَم باللغة؛ فباريس بالإنجليزية أو
باريز بالعربية لا تُترجَم باريس بالفرنسية، كما أن جمال أو جيمس لا يُترجَم جاك
بالفرنسية، فبالأحرى جاكي (الاسم الأصل لجاك دريدا).
١٤ هذا بالضبط ما جعلنا نعتقد في وقت ما بأن الاسم العلم ينفلت من نظام
اللغة؛ فالاسم العلم ليس خاصًّا، ومن ثم فهو مطالَب بعدم التخصيص؛ لهذا فهو ينتمي
إلى اللغة من دون أن ينتمي إليها. إنه يُخلخِل نظام الترجمة وسلطتها، وهذا ما يدفع
بأحد شُراح دريدا إلى القول بهذا الصدد: «علينا بأسماء أعلام للسان لا يعنيها من حيث
هي كذلك، ومع ذلك يُمسك بها بحرص شديد ليرفض انصياعها للترجمة إلى لغة أخرى. إن هذا
يعني بدءًا بأننا كنا على خطأ إلى حد الآن بالحديث عن اللسان، في الوقت الذي نحن
فيه كليةً إزاء تعدُّد من الألسن في وضعية ترجمة متبادلة. بيد أن ما يحتفظ به كل لسان
من خصوصية، ومن ثم من ممتنع عن الترجمة هو بالضبط أسماء الأعلام … إن هذا يعني أن
المرجعية التعيينية التي يتمتَّع بها الاسم العلم في طابعها التعييني الكوني تجعله
على هامش اللغة، وفي لعبة القَبول والامتناع الترجمي. وهو ما يعني أن كل ممتنع عن
الترجمة بشكل مطلَق قابل بشكل مطلَق أيضًا للترجمة، أو إنه دائمًا قد تمَّت ترجمته. من
ناحية أخرى، فالتفكيك ظل في علاقة ترجمة مع الميتافيزيقا؛ لأنه ظل على علاقة دَين
بها. إن التفكيك لا يمكنه أن يقترح لغةً أخرى غير لغة الميتافيزيقا.»
١٥ الترجمة من ثم تُمكِّن التفكيك من أن يحتفظ بطابعه البيني؛ إذ هو، كما يُلح
على ذلك دريدا، ليس مشروعًا ولا فلسفةً ولا نسقًا.
عمل الترجمة إذن شبيه بعمل الأثر في فلسفة دريدا. فإذا كانت وظيفة الأثر تتمثل في
تمكيننا من التفكير في زمنية لا سلطة للحاضر عليها، فإن وظيفة الترجمة هي أنها
تمكِّننا من أن نتلقَّى النص في تعدُّدية زمنه. الترجمة تمنح النص إمكانية أن يكون في
عدة
أزمنة وأن ينفلت من دكتاتورية الحاضر الزمنية، ليعيش في حاضر متعدد وﺑ «أقنعة»
persona يفكِّك بها مفهوم الذات في علاقتها
الميتافيزيقية بالزمن.
يطرح دريدا مسألة الترجمة الجيدة في إشكالية الترجمة نفسها؛ أي في اختبار يتم من
خلاله إخضاع تجربة الترجمة لمحنة الترجمة أو اختبار الممتنع عن الترجمة. وفي عملية
الإخضاع هذه تُمارَس الترجمة ويمارِس المفكر المترجم فعل الترجمة والتفلسف في الآن
نفسه. ويُطرح السؤال: كيف يمكننا أن نتجرَّأ على القول بأن لا شيء قابل للترجمة ومع
ذلك لا شيء ممتنع عن الترجمة؟»
١٦ ألَا يذكِّرنا ذلك بما بدأ به دريدا نظريته التفكيكية من كونها تلعب على
النفي المزدوج؛ أي على ضرب من الإثبات التفكيكي الذي يجد موطنه في الفاصل والواصل بين
الشيء وضده؟ النص حسب دريدا يتحدَّى دائمًا المترجم. بيد أن الأمر لا يتعلَّق بعدوانية
ما أو بضرب من السجال، وإنما يكتب الكاتب فعلًا ثمة حيث يُحس بأن الترجمة قابلة
للاستدعاء ومستحيلة في الآن نفسه. بالمقابل يمارس المترجم اللعبة نفسها؛ فهو ينتهج
ما يسمَّى بالرابط المزدوج؛ أي إنه يُنسينا كقراء أن الأمر يتعلَّق بنص مترجم، وفي الآن
نفسه يُذكِّرنا بأن ثمة نصًّا أصلًا يعلن بأنه مكتوب في لغته لا في لغة المترجم.
١٧
إضافةً إلى الاشتغال العلني والضمني للترجمة في نصوص كثيرة لدريدا، ولحديثه الشذري
أو التخصيصي عن الترجمة، تجدر هنا الإشارة إلى نصين هامين يشكِّلان نصين مرآويين؛
لأنهما يطرحان الترجمة باعتبارها إشكالية كتابة للنص ومن خلال النص؛ الأول حول
الشعر، وهو بعنوان إيطالي تم الحفاظ عليه في غالبية الترجمات خاصةً اللاتينية منها
Che cos’è la poeia?، وهو ما يمكن ترجمته بالجملة
البسيطة والماهوية التالية: ما الشعر؟ يجعل هذا النص من قضية الترجمة والممتنع عن
الترجمة موضوعًا له. إنه نص يتحدث مسبقًا عن ترجمته المستقبلة. بل هو أيضًا نص
مكتوب في أفق ترجمته، إلى الإيطالية؛ أولًا لأنه نص تم طلبه من صديق إيطالي للمؤلف.
وثانيًا لأنه نص يتخذ من التعدُّد اللغوي جبهةً للنص ووجهًا للعلاقة مع الآخر، ومن
الترجمة فعلًا مكوِّنًا ومنجبًا للنصية. يقول دريدا بهذا الصدد في النص نفسه: «… حصول
عبور خارج المجال الشخصي، يكون خطرًا نحو لغة الآخر في أفق ترجمة مستحيلة أو
مرفوضة، ضرورية لكنها مرغوب فيها كالموت …»
١٨ أما الثاني فهو المحاضرة التي ألقاها أمام المترجمين الأدبيين في مدينة
آرل الفرنسية سنة ١٩٩٨م، والتي يحاور فيها الترجمة من خلال مفهوم الترجمة نفسها.
إنهما النصان اللذان يطرح فيهما دريدا مسألة الترجمة خارج أسطورة بابل، بل في تجاوز
لها ولمتاهاتها. وفي النصين معًا، تقود المتاهة الدريدية إلى طرح الاستحالة في
الإمكان والامتناع في الاستجابة، ودومًا في صيغة النفي المزدوج.
انطلاقًا من هذا النفي الثنائي الذي اعتدنا عليه في الفكر الدريدي منذ الستينيات،
أستعيد هنا لصالحي كمترجم مقولة المهبل التي طوَّرها دريدا في مجال يشبه مجال الترجمة
من غير أن يُكوِّنه. يعتبر دريدا المهبلَ مزيجًا بين الحاضر واللاحاضر. إنه وسط يوجد
بين الطرفين (المتعارضين)؛ فهو البين
entre الذي
يمكن قراءته على طريقة
la différance باستبدال اﻟ
é باﻟ
a. المهبل
يقع أو يحدث في المنزلة بين المنزلتين، في الفاصل الفضائي والزمني بين الرغبة
والمتعة، بين الانتهاك وذكراه؛ المهبل ليس هو الرغبة ولا المتعة وإنما ما بينهما،
لا المستقبل ولا الماضي ولكن ما بينهما.
١٩ من ثم يخلص دريدا إلى القول: «المهبل هو ما تسعى الرغبة إلى اختراقه في
عنف هو (معًا أو بين) الحب والقتل.»
٢٠ ألَا يصدق كل هذا على الترجمة؟ أليست الترجمة تجربةً برزخية لا هي بالنص
ولا هي باللانص؟ أليست الترجمة رغبةً ملتبسةً في الكتابة، ومتعتها مغايرة لمتعة
الكتابة من حيث هي كذلك؟ أليست الترجمة ملتبسةً التباس المهبل وشفافةً مثلها مثله
لأنها تتشرَّب المعنى المخصب؟
في هذا الحديث عن المهبل تعرَّضنا عنوةً لمفهوم العنف المرتبط بالاختراق الذي تمارسه
الترجمة وما ينتج عنه من افتضاض وسيَلان دم يوقع العنف ويعلن الزواج بين اللغة
الجديدة والنص الآخر. وفي هذا الإطار نتساءل: لماذا يتحدث جاك دريدا هنا عن الموت؟
ما علاقة امتناع الترجمة أو تمنُّعها بالحداد؟ أي مأساوية تثوي وراء الترجمة أو
تستعلن في فعل الترجمة، بما أن الأمر يتعلق حقًّا بفعل؟ هنا تتبدى الدائرة، ولو أن
مفهوم الدائرة ليس مفهومًا دريديًّا ولا هيدغيريًّا لأنه منافٍ للحلزونية. فإذا نحن
عدنا إلى ما ذكرناه آنفًا، فإن الاستحالة القاتلة تتبدَّى أصلًا في حدود الترجمة
نفسها؛ أي في اكتفائها بنقل «روح النص» وتركها للجسد؛ أي بفصلها للجسد (الدال) عن
الروح (المدلول)، وفي عملية الفصل ذاك يتم القتل أو الاغتيال، كما يُعبِّر عنه دريدا
مرةً أخرى، في حديثه عن المهبل/الترجمة.
اقتفاءً للآثار
يصعب على المرء تتبُّع دريدا، بل يعسر ترجمته أولًا لأنه أنتج ما يزيد عن السبعين
مؤلفًا، وثانيًا لأنه ما إن يأخذ الكلمة في موضوع محدَّد حتى يجد المرء نفسه في كومة
من الموضوعات التي تترابط في ما بينها إلى درجة الدوار. وكأن مهمة هذا الفيلسوف هو
أن يضع المستمع والقارئ دائمًا في الفاصل أو في الواصل بين الكلمة والمعنى، وبين
القول وتحقُّقه، وبين السمع والفهم؛ أي في ما بين العمليات المطلوبة لِمَا يسمَّى عادةً
تواصلًا. هل هو أثر للتفكيك الدريدي الذي يمارِس نفسه في خطاب دريدا نفسه؟
كل عملية ترجمة لدريدا اختبار épreuve لا خيار
فيه للشخص في تقبُّله من حيث هو كذلك. الاختبار هنا، لا بمعنى التمحيص فقط وإنما
بمعنى الخبرة والمحنة أيضًا. لا لأن عملية الترجمة فقط تقع بين الإمكان والاستحالة،
وإنما لأن المترجم يجد نفسه وقد زج بنفسه أو تم الزَّجُّ به في مجموعة من العمليات
المتعاضدة؛ فهو أولًا قارئ لنص يُفكِّر في نفسه وفي موضوعه جهارًا بصوت مرتفع، ويكتب
في الأثناء نفسها تفكيره ذاك وإيقاعه ونفسه. وهو ثانيًا قارئ لنص ينكتب أمام عينيه
وكأنه معاصر له ومشارك فيه. وهو من ناحية ثالثة قارئ متمازج مع النص، فما إن يستوي
المترجم كقارئ حتى يجرفه النص معه في وجده اللغوي والفكري والتفكيري. وهو رابعًا
يرى لنفسه في مرآة النص؛ إذ ليس ثمة من كتابة لدريدا لا يطرح مشكلة الترجمة كمشكل
من صميم الكتابة والنص، إن لم يكن مرتكزًا لها. المترجم في هذه الحال ليس واحدًا،
ولا يمارس على النص عمليةً خارجية أو بَرَّانية، إنه يمارس عمليةً خبرها النص، وقدَّرها
وقدَّر لها، بل قد يتحكَّم بشكل كبير فيها. المترجم بهذا المعنى صورة من صور النص ووجه
من أوجه بلاغته، وهو أخيرًا، ويا للمفارقة! مرفوض النص الأكبر ومنكَره؛ لأن النص
يُعلِن له استحالة وجوده وعسر كِيانه وهشاشة كينونته ولا احتماليته، وفي الآن نفسه
ينظر له باعتباره أُسًّا من أسس الكتابة. وكأن النص يقول للمترجم أنا النص وأنا
المترجم الوحيد الأوحد المكتفي بذاته في ممارسة عملية الترجمة، في عالمي الكتابي
الشاسع، ولي أن أسرح فيه وفي وجهاته الأربع وفي سطحه وعمقه، ممارسًا الترجمة
بوصفها كتابةً والكتابة بوصفها ترجمة. وحين تقوم بالترجمة، لا يمكنني أن أكون المؤلف
الفعلي لهذا النص؛ لأني أكتب بلغتي وبلغتي فقط. وحين تكتب نصي في لغة أخرى تكون
بشكل ما أنت مؤلفه؛ لأن الترجمة مسألة لغة أولًا وقبل كل شيء. من ثم، لا وجود
لمترجم إلا بوصفه كاتبًا ومفكِّرًا، ولا وجود لكاتب إلا بوصفه مترجمًا مفكرًا
…
في هذه العملية المرآوية يجد المترجم نفسه كِيانًا جديدًا، مدفوعًا ومطالَبًا
بممارسة عملية الترجمة بشفافية كبرى تجعل منه قارئًا متميزًا للنص؛ لأنه بمجرد ما
يمارس ترجمته إلى لغة أخرى يمارس ضربًا من الشرح عليه يكون قريبًا من المعنى
الهرمينوسي للشراح. فكل مترجم كما يقول غادامير مؤوِّل، ووضعيته في العمق هي وضعية
المؤول interprète (في معناه كعازف للموسيقى
وكممثل). وإذا كان المترجم عادةً ما يكون لسان النص الذي يمنحه لغته التي يعجز عن
الكتابة بها وشِفاهه التي سيتلفَّظ بها الحروف، فإن نصوص دريدا تفكِّر وتكتب نفسها بلغات
متعدِّدة من الفرنسية إلى الإنجليزية مرورًا بالإغريقية واللاتينية وغيرها. من ثم
يمكن القول إن هناك نمطين من المترجمين: المترجم الذي يدخل في الدائرة اللغوية
لنصوص دريدا، وهو بهذا المعنى يشكِّل صورةً فعلية من صور النص ولعبه الظاهرة والباطنة.
وبهذا المعنى أيضًا فالمترجم ليس بالغريب étranger،
وإنما هو كِيان من صلب النص، بحيث يمكن اعتبار عمله امتدادًا أو استمرارًا مؤجلًا
لكتابة المؤلف. المترجم يتقاسم في هذه الحال مع النص أحد ألسنه ويُقلِّبه من هذا
لذاك.
ثم المترجم الذي يخرج بالنص من دائرته اللغوية الأصلية ليزج به في غرابة لغة هي
العربية أو اليابانية مثلًا. وفي هذه الحالة ينقلب جسم النص نفسه ووجهة مقروئيته.
من الفوق إلى الأسفل، في اليابانية، ومن اليمين إلى اليسار في العربية؛ هذا
الانقلاب يمنح لدريدا يدًا أخرى، ولنصه وجهةً أخرى وسموات جديدة بل وجسدًا جديدًا.
ولو أُتيح لناشر أن ينشر نصًّا لدريدا مزدوج اللسان، لكان سيُقرأ من اليمين ومن اليسار
معًا بشكل يمكن معه الحديث عن ردفَي النص أو صدغيه، وعن يدَيْه أو عينيه أو أذنيه
…
يعبِّر دافيد ويليس، أحد مترجمي دريدا للإنجليزية، عن حيرة المترجم بالصورة التالية:
«إنني أجد نفسي في موقع الدابة التي تحاول قَطع الطريق السيَّار المسمى «النص
الدريدي». وعوض الطريق السيَّار، لنفكِّر بالأحرى في تلك الطرق الثلاثية المسار التي
يمكن للسيارات الآتية من الاتجاهين معًا السير في مسارها الوسط. في هذا العبور
الخطر على أرضية الآخر توجد الترجمة.»
٢١ هذه الخطورة (والخطر رهان الفكر حسب هايدغر) هي قدَر النص والترجمة
معًا. وليس يخفى أن تصوُّر بول فاليري للترجمة، وهو أحد أهم التصورات الحديثة في هذا
المضمار، يعتبرها اقتفاءً لأطلال النص بالعودة إلى تكوُّنه من خلال تتبُّع لحظات كتابته.
٢٢ ولا أُخفي القارئ أني حين اطلعت على تصريح دافيد ويليس، وأُتيحت لي
مناقشته معه في لقاء دولي عن ترجمات دريدا بتونس، لم أتوانَ في المجازفة بعلاقة خفية
كنت أقمتها بين المترجم والكلب؛ أولًا لأن الكلب دابة تسعى دائمًا لقطع الطريق في
كل وقت وحين، ولأنه من ناحية أخرى كائن بيني، حسب الجاحظ، فلا هو بالسبع ولا هو بالبهيمة،
٢٣ وإنما هو كِيان هجين، ومزيج منهما. كما أنه قفَّاء للآثار مثله في ذلك
مثل المترجم.
في الإطار نفسه، وفي حضرة جاك دريدا، صرَّحت كريستينا دي بيريتي، مترجمته إلى
الإسبانية باعترافها التالي: «قرأت لتوي فقط الترجمة التي قمت بها من عشر سنوات لنص
«ما الشعر»، وأحسست بالتأكيد بأنني لم أكن في مستوى التحدي.» لا يلزم قراءة هذا
التصريح في دلالته المباشرة، بل يلزم أن نفهم منه ما يلي: إذا كانت قراءة نصوص
دريدا قراءةً متواترة من جانبين؛ جانب نصوصه هو، التي يقرأ أحدها الآخر باستمرار
ويستعيده ويحوِّره و«يترجمه»؛ وجانب قراءتنا نحن بحيث نعود للنص نفسه مرات عديدة
لنكتشف عناصر جديدةً نابعة أيضًا من تراكم كتابات دريدا؛ إذا كان الأمر كذلك، فإن
نصوص جاك دريدا إن كانت لا تنصاع بسهولة للترجمة، فإنها بالمقابل تتطلَّب ترجمات
متواترةً وإعادة الترجمة، كلما تمكَّن المترجم من ذلك؛ لا فقط لاحتمال «الخطأ» وإنما
لاحتمال إصابة معانٍ ومناطق جديدة فيها يمكن من خلالها للمترجم إعادة تملُّكها، من
خلال مستجدات وجوده وكِيانه الثقافي.
إلى هذه الصعوبات يُشير جيوفري بنينغتون، مترجم دريدا وشريكه في الكتابة أيضًا،
متحدثًا عن الشعر باعتباره نصًّا يتحدث أيضًا عن الترجمة: «ثمة شكل من أشكال
الاستحالة يمكن اعتبارها استمرارًا للصعوبة والعسر. فبما أن الترجمة تكون عسيرة،
فإنها تغدو مستحيلة؛ غير أن هذه الاستحالة، التي نعرفها جيدًا نحن معشر المترجمين،
هي في الآن نفسه الإمكان الفعلي للترجمة. إنه حصادنا اليومي.»
٢٤ طبعًا يحيل هذا القول، الأشبه بالإحراج الفلسفي إلى قولة دريدا الشهيرة
التي ترد في أكثر من موضع لديه بتلاوينها المختلفة: «لا شيء ممكن الترجمة، لكن لا
شيء ممتنع عن الترجمة.»
قانون مزدوج للضيافة
في حضرة دريدا بالرباط، خلال الندوة التي نُظمت سنة ١٩٩٥م حول كتاباته،
٢٥ كنت قد غامرت بمفهوم الضيافة باعتباره مفهومًا ترجميًّا. وبما أن هذا
النص لم يترجَم للأسف إلى لغة الضاد (في الصيغة العربية للكتاب الذي خُصِّص للقاء)، فإني
أُبيح لنفسي هنا استعادة بعض عناصره وتأليفها مع مفهوم دريدا عن الضيافة، كما جاء في
كتابه الذي نشره في ما بعدُ بقليل.
٢٦
يكمن موقع الإضافة
supplément في كونها التعبير
الحركي عن الغيرية. إنها اللعبة التي من خلالها يتحوَّل الاختلاف
différence إلى مغايرة
différance أو مخالفة. ما الذي يتم هنا في هذه
اللعبة الصامتة التي تؤزِّم المعنى؟ ثمة شيء صامت أشبه بالترجمة، يدخل في صلب اللغة
ومدلولاتها ويحلِّلها في صفة أخرى في لغة مغايرة. من ثم فإن الترجمة ضيافة للغريب في
لغة لا يعرفها، يستجير بها أو يستغيث بها أو في أبسط الأحوال يمر من أراضيها. وكل
ضيافة إضافة (صامتة) وتحويل وتملُّك فعلي أو مُرجأ. والكلمتان من جذر واحد؛ إذ تعنيان
(أضفت الشخص وضيَّفته) استمالة الغريب وتقريبه.
٢٧ أما في اللاتينية فإن الأمر يغدو أوكد لأن
hostis تعني معًا الضيف الغريب، والعدو العمومي.
وهو ما يؤكِّد هذا المنحى الإنساني للترجمة من حيث إنها ضيافة تحوِّل الغريب إلى جزء
من
الهُوية المشتتة؛ أي إلى هُوية مفترَضَة للذات قادرة على التلفظ بأناها من غير أن تدخل
في جدل هُويَّاني أو ذاتوي مع الآخر. في اللغة الفرنسية يكون
l’hôte في الآن نفسه الضيف والمضيف، مما يجعل عملية
الضيافة عمليةً تفاعلية تفترض تبادلًا دائمًا للمواقع. كيف ذلك؟ إن ما يسميه دريدا
ترجمةً وجيهة
relevant هي تلك الترجمة التي بمقتضاها
يتحوَّل النص المترجَم في لغته الجديدة وفقًا لقدر الترجمة المحيط بالكلمة
نفسها.
تختلف الضيافة الترجمية عن الضيافة اللامشروطة التي يتحدَّث عنها دريدا، والتي
تفترض وجود الضيافة المبدئية قبل التعرف على لغة المضاف وعِرقه وجنسه، من حيث إنها
تفترض مبدئيًّا التعرف على لغة وجنس المضاف؛ لأن ذلك هو جوهر وجودها من حيث هي كذلك.
بالمقابل توجد الترجمة قبليًّا كوجود مضيف وقابل للضيافة. أما الترجمة من حيث هي فعل
le traduire، فإنها ترتبط بتلك العلاقة الانتقائية
التي من خلالها يقول المترجم أو يجرؤ على القول مثله مثل الضيف: أنا النص، ويقيمان
من ثم علاقة لقاء بالآخر؛ أي علاقة ابتكار لهذا الآخر.
تضيف الترجمة للنص الأصل وجهًا آخر وحاضرًا ممكنًا آخر. إنها تُحيِّنه وتستحضره في
زمن كان أصلًا أفقًا للقراءة. وبهذا المعنى يعتبر دريدا المترجم أفضل قارئ، لا فقط
لأنه يكشف عن كِيان النص وكينونته وتكوُّنه، ولكنه أيضًا يُجسِّد، أو بالأحرى يجسْدِن
فعل
القراءة والقارئ المفترَض في أفق تلقي النص. ولا غرو في ذلك؛ فكل ترجمة تمنح لسانًا
جديدًا للنص به يتحدث لغة القوم الجديدة التي لم يكن ليعرفها مؤلفه أو لم يكن على
الأقل ليكتب بها بالطلاقة نفسها. بل إن الترجمة تُضيف للنص شفاهًا جديدة بها تصوغ
تمتمات النص، وألفاظًا جديدة على الثقافة المستقبلة ولغتها. وبما أن كل جَسْدنة
رَوْحَنة، فإن كل ترجمة أصل؛ أي إن كل ترجمة تمنح النص روحًا جديدةً في تلافيف اللغة
الجديدة. من ثم فإن كل ضيافة إضافة؛ لأنها تحيد بالنص عن أصله وأصليته، وتستخرجه من
استحالته، وتمارس معه لعبةً جديدة هي لعبة الخفاء والتجلي من حيث إنها لعبة الإمكان
والاستحالة.
حين تصوغ الترجمة كِيانها الملتبس في هذا الموقع
position/الموقف، بين أصل يشد نفسه إلى أصليته
وميتافيزيقاها الانطلاقية، ومرمًى محمول على هوى الاختلافات ومخاطرها المحدقة، فإنها
تتلاعب بالزمن؛ لأنها تستعيد وتُعيد مشهدة ولادة النص وخروجه للآخر. بهذا المعنى
يمكننا، من جانبنا، الحديث عن الترجمة بوصفها ابتكارًا
invention أو ابتداعًا للآخر. وبهذا المعنى أيضًا
يمكننا اعتبار العنف الذي تحدَّثنا عنه آنفًا، وعملية الحداد التي تتخلَّل الترجمة، في
الآن نفسه، ولادةً جديدة للنص وهجرةً سرية أو قانونية تفترض قوانين معينةً للضيافة
والإضافة والإمالة والاستمالة والحب.