الترجمة المضاعفة

التجربة والسياق

كلمة وحكاية …

أتتني فكرة هذا النص من سؤال وسياق، ومن ترجمة حرفية وانسياق. أما الأول فيتعلق ببداية ممارستي للترجمة في أوائل التسعينيات، وكان الراحل عبد الكبير الخطيبي وقتها قد اتفق مع الروائي الفرنسي المعروف كلود أوليي على ترجمة روايته Marrakech Medine (مراكش المدينة)١ إلى الفرنسية وانتدبني لذلك؛ ولهذا الغرض حصلت على منحة تمكَّنت بمقتضاها من أن أُجالس المؤلف في بيته في جنوب باريس مدةً للتحاور بشأن الترجمة.
دار بنا الحديث عن مراكش وعن سنوات عيشه بالمغرب في الخمسينيات، واعتماده على الصور الفوتوغرافية في وصف الأمكنة، واستعادة الأيام التي وصل فيها إلى المغرب صحبة زوجته التي كانت قد عُيِّنت حينها مدرِّسةً بمراكش، وعن المفكر والمستعرب المعروف جاك بيرك الذي كان حينها حاكمًا في السلطة الاستعمارية، وهو ما لا يعرفه إلا القليلون، ثم بعد أسئلة اختبارية عديدة بادرني كلود أوليي وهو الذي لا يجهل العربية تمامًا: «وكيف تترجم عبارة: le livre de lecture؟» والعبارة جاءت في سياق يتلو فيه صبيان في الكُتاب آيات قرآنية … كان السؤال أشبه بتحصيل الحاصل لشخص مثلي ردَّد الآيات وتلاها وحفظها عن ظهر قلب في «المسيد» بالطريقة نفسها؛ فقد أدركت للوهلة الأولى أن أولييه قد ترجم حرفيًّا كلمة «القرآن» للفرنسية، وما كان عليَّ سوى أن أعطِّل هذه الترجمة لأُرجعها لأصلها؛ أي أن أؤولها، والتأويل لغةً كما هو معروف رد الشيء لأوله.٢ لكن لماذا سيكتفي المترجم بتعطيل العمل الرائع الذي يقوم به الروائي، والذي يندرج هنا في طابعه الحرفي littéraliste في الجماليات الموضوعية والموضوعاتية والشيئية والظاهرياتية التي مارستها الرواية الجديدة، علمًا أن أولييه أصغر كاتب في مجموعة الرواية الجديدة؟ أليست عملية الاستعادة هذه أشبه بالفعل الأصولي الذي ينفي اشتغال الغيرية في صلب اللغة الأصل؟
لكن لنقارب الأمر من وجهة أخرى. قبل ظهور ترجمة الرواية سنة ١٩٩٦م دُعيت إلى مراكش للمشاركة في ندوة في موضوع «مراكش في الأدب العالمي». وكنت طبعًا سأتحدث عن هذه الرواية الرائدة والمعقَّدة، لكن أحد المشاركين قبلي اختار أن يقدِّم للحاضرين مقاطع مترجمةً من بعض النصوص، ومن ضمنها المقطع الذي أشرت إليه سالفًا. وهكذا كانت ترجمته لعبارة le livre de lecture بكتاب القراءة أو التلاوة لا أتذكَّر … معطِّلًا هو بدوره المعنى الأصل والترجمة التي قام بها كلود أوليي … حينها أدركت الاختبار الذي مارسه معي كلود أوليي …

أيُّ المقاربتين إذن هي الأصح؟ أهي الترجمة التي تُرجِّح كفة الدال أم تلك التي ترجِّح كفة المدلول؟ أم ترجمة تسعى إلى الجمع بين الاثنين وكيف لها ذلك؟ تلكم هي الأسئلة الإشكالية التي تضع المترجم في وضعية حرجة لأنه يتقاسم مع المؤلف الذي هو بصدد ترجمته وظيفة الترجمة …

إن هذه الوضعية تتعقَّد وتغدو أكثر إشكاليةً في حالة أخرى تلامس المقدس … وذلك في منحيَين؛ فعنوان الرواية نفسها، يلعب ضمنًا برمز النور من غير أن يذكره. إنه يطلق اسم المدينة المنورة: Marrakech Medine على مراكش. وقد يبدو الأمر ضربًا من التدنيس، لكن من ينظر لتاريخ تعامل الرحالة مع بعض المدن المغربية، وبالأخص مدينة فاس، يدركون أن بيبر لوتي أو شوفريون مثلًا كانا ينعتانها بالمدينة المقدسة la ville sainte، ويضاهيانها بالقدس ومكة والمدينة المنورة؛ نظرًا لطابعها الإشعاعي كعاصمة علمية للغرب الإسلامي.٣
تتمثَّل لعبة الروائي في كونه يضاهي مدينة مراكش بالمدينة من خلال تبني لفظ Medine المقابل لعبارة «المدينة المنورة». ومن ناحية أخرى يُحيل بشكل آخر إلى لفظ médina الكولونيالي الدال على المدينة القديمة. وفي هذه اللعبة المزدوجة والملتبسة يُزجُّ بالمترجم في ورطة تتحمَّلها اللغة الفرنسية لأنها لغة ثقافة عقلانية تُبيح للفنون أن تتعامل مع المقدسات من منظور المتخيل. أما اللغة العربية، خاصةً في العقود الأخيرة، التي عرفت فيها المجتمعات العربية عودةً للديني والمقدس في المظاهر والممارسات، بل عرفت فيه بعضُ المجتمعات العربية بعدما سُمي «الربيع العربي» وصول التيارات الإسلامية إلى السلطة، فإن الترجمة الحرفية لعنوان رواية كلود أولييه (مراكش المدينة المنورة) سيُعتبر هرطقةً يمكن أن يتصيَّدها أي واحد ويعتبرها كذلك. أما الترجمة التي اخترناها (مراكش المدينة) فإنها وإن بدت تعطيلًا (مرةً أخرى) لالتباس العنوان وازدواجه، فإنها مع ذلك تحتضن في العمق اسم المدينة المنورة التي تُسمى في المغرب المدينة؛ غير أن تخفيف هذا المعنى في الترجمة العربية يترك العنوان الفرنسي أشد قوةً وتعقدًا …
من جهة أخرى، وفي موضع آخر من الرواية، يمارس المؤلف ضربًا من الترجمة اللاواعية التي تحوِّل قصص الأنبياء الإسلامية إلى قصص مسيحية، وكان المؤلف حينها حريصًا على أن يُسجِّل وعيه ونظرته في الفضاء الإسلامي. وهكذا يمارس المؤلف/الراوي ضربًا من الوصف لتصاوير شعبية متداولة عن الأنبياء والصحابة والأولياء، وهي تصاوير منسوخة عن الرسوم التي أصدرتها مطبعة المنار بتونس في بدايات القرن الماضي.٤ وحين يصل المؤلف إلى الحديث عن صورة إبراهيم وهو يمسك إسماعيل والسكين مُشْهرة، يتم استبدال اسم إسماعيل باسم إسحاق؛ وبذلك تتم العودة للحكاية التوراتية في عالم إسلامي لتزج بالمؤلف قهرًا في قلب تصوُّره الثقافي المرجعي. إن هذه الترجمة اللاواعية هي ترجمة ثقافية، تُبيِّن إلى أي حد يمكن للوعي الثقافي أن يكون جاذبًا ومؤثِّرًا، وأن يخلق البلبلة في ذهن المؤلف الذي أحسَّ بالحرج وأنا أحدِّثه سنوات بعد ذلك عن الأمر، معترِفًا لي أن لا أحد نبَّهه قبلًا للأمر، خاصةً وأن حوارنا كانت تفصله عن صدور الرواية أكثر من خمس عشرة سنة.

حكاية اللغة ولعبة الاستحالة

لا يخفى أن الازدواج اللغوي قد تمَّ عيشه في الكتابة المغاربية باللغة الفرنسية بشكلين أساسيين: بشكل مأساوي أقرب إلى الدرامية، وذلكم كان حال العديدين منهم، لعل أهمهم عبد اللطيف اللعبي ورشيد بوجدرة، بحيث إن الاثنين معًا، وهما عارفان باللغة العربية ومتقنان لها، سارعا في الثمانينيات والتسعينيات إلى الدعوة إلى العودة للغة الأم، فكانت تجربتهما أشبه بمن يجره التيار إلى أحد الشطين، فاختار النجاة بالعود للشط الأبعد. وعاشها آخرون بشكل مأساوي آخر لكنه مَرِح (الخطيبي وعبد الوهاب المؤدب)، أو مأساوي قاتل كمحمد خير الدين وكاتب ياسين.٥
لا ينفي عبد الكبير الخطيبي الجروح التي تخلقها وضعية الازدواج ولا ما يستتبعها من مفارقات ومن مصادفات. إنه يطالب فقط بتعويض المعاناة، وبتحويل الشروخ من خلال اكتشاف جديد للذات والهُوية وللآخر؛ الآخر بما هو أنا؛ أي بما هو غريب يعيش متعته الخاصة في تملك شخصي هنا للغة مغايرة هي اللغة الفرنسية. يقول في تحليله لرواية عبد الوهاب المؤدب «طالسمانو»: «هكذا يشتغل ضرب من تعويض المعاناة المزدوجة اللسان: ترحيل التناقضات، وتداخل الهُويات والاختلافات التي تعقدها اللعبة المشروخة للازدواج اللغوي. إنه ترحيل نحو اليوتوبيا؛ أي نحو مجال للكتابة ليس بلا واقعي، غير أنه مكان الممكن الإمتاعي.»٦
حين يكتب المغاربي باللغة الفرنسية، فإنه يكون غريب اللغة الذي يأتي إليها من فضاء ثقافي مغاير ويمارسها باعتبارها مرآته التي تكشف له عن متناقضاته الداخلية خارج طمأنينة الهُوية والتطابق؛ لذا فإن مفهوم الترجمة الذي يكون لصيقًا بكل وضعية مزدوجة اللسان يغدو في الكتابة نشيطًا إلى حد كبير يجعل الخطيبي يعلن: «اللغة الأم تشتغل اشتغالًا في اللغة الأجنبية. ومن الواحدة إلى الأخرى تتم بينهما ترجمة دائمة وحوار باطن يصعب الإعلان عنه … أين يرتسم عنف النص إن لم يكن في هذا الملتقى الذي يصعب في الحقيقة المصالحة بين طرفيه؟»٧

هذه المقدمات كلها لأتحدَّث عن ظاهرة غريبة من نوعها: الترجمة الممتنعة التي تجعل ترجمةً ما ممكنة.

كان احتفاء الخطيبي باللغة في الذاكرة الموشومة واضحًا، غير أنه صار في ما بعدُ مصدرًا خصبًا تحوَّلت معه اللغة إلى حكاية. ذلكم هو حال عشق اللسانين، الذي يحاور مستحيل اللغة والترجمة بين الفكر والجسد وبين الكلمة واللمسة لنقرأ في مستهل الرواية: «لماذا كان يعتقد أن اللسان أشد جمالًا وأكثر رهبةً لدى الأجنبي؟ هدأ روعه فجأة، حين تبدَّت له الكلمة العربية الدارجة «كلْمة» مع مقابلها العربي الفصيح «كلِمة»، ومعها سلسلة كاملة من الاشتقاقات والتوريات التي صاحبت صباه: «كليمة» … عادت الكلمة الثنائية اللغة «كلْمة» للظهور من غير أن تنمحي الكلمة الفرنسية mot. كانت الكلمتان تتراصدان في داخله، سابقتين الانبثاق السريع الآن للذكريات وشذرات الكلمات والمحاكيات الصوتية، والكلمات المتشابكة المتعانقة حتى الموت بحيث تصير غير مفهومة وغير مقروءة. إنه مشهد لا يزال صامتًا. وحين سيعنُّ له أن يتكلم فسوف ينغمر في فقدان الذاكرة، يخترقه أحيانًا اضطراب رائع يجعله ينسى الكلمات التي لا تُنسى في هذا اللسان أو ذلك. كان يفكِّر في الشمس، وما إن يقوم بذلك حتى ينقلب الاسم من لغة لأخرى، من المؤنث إلى المذكر والعكس بالعكس …
(…) اللسان المزدوج؟ إنه حظِّي وهُويَّتي الفردية وطاقتي الرائعة على النسيان. (…) فليكن كل لسان مزدوجًا في لاتوازي الجسد واللسان، والكلام والكتابة، على شفا استحالة الترجمة.»٨
حتى لا يتحوَّل هذا النص إلى تحليل لِما هو غير مرصود له، أُسِر للقارئ هنا جهارًا أني ياما حاولت أن أُترجم هذه الرواية/الحكاية فلم أتجاوز قط الصفحة الأولى، وفي كل محاولة أُحِسني يتيم نفسي ولغتي، بل يتيم ازدواجي اللغوي. ويعلم البعض أني خصَّصت لهذه الرواية نصف بحث رسالتي في السوربون،٩ بل يعلم الله وربات الترجمة أني لم آلُ جهدًا في ذلك … لكن كيف يمكن أن تتم الترجمة إلى العربية والترجمة نفسها موضوع أساس يشتغل على استحالة الترجمة نفسه. إن نص عشق اللسانين يحكم على الترجمة بالاستحالة، وعليَّ كمترجم بضرورة ترك جسد اللغة العربية لعاشقه المتخيَّل فقط …

بيد أني أخذت بثأري من لعبة الازدواج اللغوي هذه بترجمة رواية أخرى هي نفسها مكتوبة عن الترجمة، وبطلها، علاوةً على ذلك، مترجم فوري. أخذت بثأري من غير أن أستطيع أن أثأر ليُتمي السالف الذكر. لكن السؤال الذي سيطرحه، من لم يحظَ بالاطلاع على الروايتين هو: لمَ تنصاع رواية فيما تمتنع أخرى أو تتمنَّع، على الأقل، حتى لا أجعل الاستحالة هنا أمرًا مطلقًا؟

نص حب اللسانين يغدو عائقًا للترجمة لأنه بكل بساطة يتخذ من لغته ومن اللغة الأم مجالًا للترجمة والتحليل والتخييل. وهذه اللعبة المرآوية ترمي بالمترجم إلى اللغة العربية خارج إمكان الترجمة؛ بل إنها وهي تجعل من المؤلف موضوعًا للمشهدة الروائية والحكائية تبني معناها على استحالة الترجمة تلك. وكأن مسرحة الهُوية تكون عائقًا أمام استعادة تلك الهُوية، أو لنقل إن كل لغة قابلة للترجمة إلا إلى ذاتها.
أما رواية صيف في ستكهولم١٠ فإنها تصرِّف الترجمة في مجال لغوي لا يمت للغة المترجم بصلة، مما يجعل تلك البرانية قابلةً للترجمة. والحكاية فيها لا تتجسَّد في اللغة وإنما بها.

مرايا اللغة

يحدث أحيانًا أن يعيش المترجم تجربةً تتجاوز الازدواج إلى التعقُّد والتشابك ذي الطبقات الترجمية المتراكبة التي يتحوَّل فيها النص إلى خذروف تَحوَلُّ له عينا المترجم النهائي. وأنا هنا أتحدَّث عن المترجم النهائي؛ لأن النص الذي سيقرؤه القارئ العربي بوساطتي النشيطة عبارة عن نص يمارس الترجمة والتأويل بشكل متسلسل ولا منتهٍ.

هذه التجربة العنكبوتية عِشتها بقنفذيتها الشائكة (والعبارة لجاك دريدا) في تجربتين مختلفتين مع هنري كوربان؛ تتعلَّق الأولى بترجمة كتابه المرجعي الخيال الخلاق، والذي صدر في طبعتين، الأولى مغربية والثانية مشرقية.١١ والثانية بترجمة نصوص عبارة عن مقدمات لهنري كوربان لنصوص السُّهْرَوَردي. تتمثل الوضعية الترجمية في تعقُّدها في ما يلي: كوربان قبل أن يكون مستشرقًا واستشراقيًّا هو أول مترجم لمارتن هايدجر إلى اللغة الفرنسية.١٢ ومعلوم أن ترجمة نصوص من قبيل هذه إلى لغة أخرى تتطلَّب من الجهد المفاهيمي والدقة الفكرية ما جعل هذه الترجمة ماهدةً ومؤسِّسة لمجمل الترجمات التي جاءت فيما بعد. وليس أدلَّ على ذلك من ترجمة مفهوم Dasein بمفهوم ètre-là وما تمثِّله العارضة من دلالة عميقة في صياغة المفهوم، ثم صياغة مفهوم historial في اللغة الفرنسية، والذي سيغدو نموذجًا لصياغة مفهوم imaginal مقابلًا لمفهوم «عالم المثال» لدى ابن عربي في ما بعد.
لكن الانتقال من ترجمة هايدجر إلى ترجمة السُّهْرَوَردي أمر يدعو إلى الحيرة، وفي ذلك يصرِّح كوربان: «وقد لاحظت بمرح أحيانًا الدهشةَ التي تعتري محاورِي حين يكتشفون أن مترجم هايدغر ومترجم الفلسفة الإيرانية الإسلامية هما الشخص نفسه، وكانوا يتساءلون: كيف انتقل من الواحد منهما إلى الآخر؟»١٣ بيد أن جواب كوربان يسعى إلى توكيد أن ليس ثمة من انعزال للمعارف بعضها عن بعض ولا للغات والقضايا. كما أن الأمر لا يعود إلى المجالات (الدراسات الجرمانية والدراسات الإسلامية)، وإنما إلى ما يسميه «مسعى الفيلسوف» la quête du philosophe، وهو يوضِّحه كالتالي: «والفيلسوف يمارس مسعاه وبحثه في الوقت نفسه على جبهات متعدِّدة، خاصةً إذا كانت الفلسفة لا تنحصر لديه في المفهوم الضيق للعقلانية الذي ورثه آخرون اليوم عن «عصر الأنوار». الأمر أبعد من ذلك؛ فاستطلاع الفيلسوف يلزم أن يشمل حقلًا أكثر شسوعًا يمكن أن تدخل فيه الفلسفة الشهودية لأشخاص كجاكوب بوهم وابن عربي وسويدنبورغ … إلخ، باختصار كي تدخل فيه مُعطَيَات الكتب المقدسة وتجارب عالم المثال imaginal، مثلها مثل كل المصادر المنذورة للتأمل الفلسفي. وإلا فإن عشق الحكمة philosophia سيكون غير ذي علاقة مع الحكمة Sophia. إن تكويني هو في الأصل فلسفي بالكامل؛ لهذا فأنا في الحقيقة لست لا جرمانيًّا ولا حتى مستشرقًا، وإنما أنا فيلسوف يُتابع مسعاه حيثما تقوده الروح. وإذا كان قد قادني إلى فريبورغ وإلى طهران وأصفهان، فإن هذه المدن تظل في نظري «مدنًا رمزية»؛ أي «رمزًا لمسير دائم».»١٤
وإذا كان كوربان قد اتُّهم خطأً بأن ما قاده نحو السُّهْرَوَردي هو خيبته من فلسفة هايدغر، فإنه سيرد بشكل حاسم على هذا الأمر ليجعل مسيره الفلسفي والترجمي والاستشراقي مسيرًا واحدًا متشعبًا: «ما كنت أسعى له لدى هايدجر، وما أدركته لدى هايدجر، هو بالضبط ما كنت أبحث عنه في الميتافيزيقا الإيرانية الإسلامية.»١٥ ويقول أيضًا: «لنمر إلى المعجم الغريب الذي يضعنا هايدغر أمامه، والذي وضع مترجمَه الأول إلى الفرنسية في محنة قاسية. أفكِّر في كلمات من قبيل Erschliessen, Erschlossenheit (الانبثاق)؛ وفي كل المصطلحات التي تُعيَّن العمليات التي من خلالها تتكشَّف صيغ الحضور الإنساني (الدازاين)؛ أفكِّر في مصطلحات من قبيل Entdecken؛ أي الاكتشاف، وVerborgen؛ أي الكشف عن المستور. وما عشته قليلًا بعد ذلك كتجربة هو أنني وجدت مقابلات لهذه الكلمات في العربية الفصحى للمتصوِّفة الشهوديين الكبار في الإسلام.»١٦
حين نرسم «بروفايل المؤلف» بهذا الشكل، فإنني باعتباري مترجمًا لهذا المؤلف أجدني في الآن نفسه مترجمًا لمؤلف لم يكفَّ بدوره عن أن يكون مترجمًا. هذه الوضعية المركبة، المضاعفة، تجعلني أنا المترجم في وضعية مرآوية، ثم من ناحية أخرى في وضعية لا يمكن أن أُحسَد عليها. فإذا كانت العادة جرت ألَّا يتقاسم المترجم والمؤلف مقدرةً لسانية مشتركة تتعلق باللغة التي سيُترجَم إليها النص موضوع القول هنا، فإن المؤلف كوربان شخص يتقن العربية والفرنسية والفارسية؛ أي يحيط بموضوعه إحاطةً شاملة لا تتوفر لدى مترجمه للغة العربية، من ثم ذلك الإحساس بالانسحاق الذي يمكن أن يُحس به أي مترجم يتنطَّع لهذا العمل. وهو انسحاق مركب بدوره؛ لأنه لا يتعلَّق بالجانب اللساني، كما أبَنَّا عنه، وإنما أيضًا بالجانب الفكري الفلسفي. ولعل هذا هو ما جعل كتاب الخيال الخلاق يظل كتابًا مرجعيًّا لكل الباحثين من غير أن يتنطَّع أحد لترجمته للعربية لما يناهز النصف قرن.
يُحس المترجم وهو يمارس ترجمة هنري كوربان أنه موضوع مراقبة مشدَّدة ومتعدِّدة، يعيشها بشكل حسي ولغوي وفكري. إنه، من جهة، موضوع رقابة النص موضوع البحث والترجمة؛ أي نص ابن عربي في عمقه ودقته ولعبته اللغوية والروحانية والفكرية والشعرية والدلالية. وهو، من جهة ثانية، موضوع رقابة في التأويل الفهمي الذي يمارسه كوربان مثل راقصٍ عليه فيمنحه شكلًا جديدًا، ثم هو موضوع إحراج ومراقبة؛ لأنه مطالب بترجمة تحليل وتأويل هو في الآن نفسه ينبني على ترجمة لابن عربي إلى الفرنسية، موجَّهة إلى جمهور وثقافة لها رموزها القريبة من ابن عربي (بوهم وسيودنبرغ ورايمون لول تلميذ ابن عربي)، ولها اصطلاحاتها من قبيل mundis imaginalis المقابل لعالم المثال أو عالم الصور لدى ابن عربي.

إن حالة المترجم هنا تُشبه ذلك الشخص الذي يستقل مصعدًا زجاجيًّا لصيقًا بالعمارة، بحيث يمكن لأي مار في الشارع أو لأي واحد في الشقق المقابلة أن يُراقب حركاته وسكناته وهو يصعد من طابق لآخر أو ينزل من طابق لآخر.

بيد أن هذه الوضعية ليست ذات طابع مأساوي، إنها بالأحرى تجعل المترجم يعيش ضربًا من المريدية أو المجاهدة initiation التي تجعله يعيش تجربة جينيالوجيته المزدوجة، من حيث هو، بشكل أو بآخر، مريد لابن عربي وبالأخص لنظريته في الصورة والخيال، ومريد لكوربان باعتباره مترجِمًا ومحلِّلًا، وباعتباره أيضًا تلميذًا لهايدغر. إن المتعة المضاعفة هنا تتمثل في مسئولية مزدوجة تجاه الفكري الصوفي وتجاه الفلسفي الهرمينوسي …
ثمة تزاوج أيضًا في تجربة المؤلف المترجِم والمترجَم (كوربان) والمترجم المؤلف (كاتب هذه السطور)؛ أي في سيرتهما التكوينية. وبهذا الصدد يقول كوربان: «وقد ذكَّر دونيس دو روجمون سابقًا وبمرح أنه، في الوقت الذي كنا فيه رفيقَي الشباب، قد لاحظ أن نسختي من كتاب الوجود والزمن لهايدغر كانت تحمل في هوامشها العديد من التعاليق بالعربية. أعتقد بالتأكيد أنه كان سيكون من الأعسر عليَّ ترجمة معجم السُّهْرَوَردي أو ابن عربي أو الملا صدرا الشيرازي وغيرهم، لو أني لم أتدرَّب مسبقًا على التمارين والألاعيب التي قمت بها لترجمة المعجم الألماني غير المشهود الذي نجده لدى هايدغر.»١٧
وأنا أيضًا، كانت أولى علاقاتي الفلسفية بالترجمة تتمثَّل في الاشتغال المبكر على أحد تلامذة هايدجر المغاربة ألَا وهو عبد الكبير الخطيبي،١٨ فكانت معاشرتي التكوينية لكتاباته تلامس الفلسفة الألمانية والفرنسية والفكر العربي، وثمة كان أول لقاء لي بكوربان في ترجمته لهايدغر وفي مؤلَّفه المرجعي عن الفلسفة الإسلامية.

يشتغل هنري كوربان وفق استراتيجية متعدِّدة للفهم والتأويل والترجمة؛ فهو بحاثة محقِّق ومنقِّب، يسعى أولًا وقبل كل شيء إلى صياغة تصور ممكن للتجربة الروحانية لهذا ولذاك، ومن خلال ذلك، في الوقت نفسه للتصوف الإسلامي وللفلسفة الإسلامية عمومًا. لهذا يتبنى كوربان بهذا الصدد مفهوم المستويات الهرمنوسية التي تجعل مقاربة التصوف وقصصه الرمزية مقاربةً خصوصية لا يمكن أن تنطبق على مقاربة نص سردي من قبيل المقامات مثلًا. إن المستويات الرمزية تُحيلنا هنا إلى مرجعية فلسفية هي المرجعية الفينومينولوجية والممارسة التأويلية المتصلة بها.

هكذا يقف المترجم وهو يمارس ترجمة كتابات كوربان على مُجمل هذه المكونات سواءً في شكلها الصريح؛ أي حين يوضِّحها المؤلف في سياق النص، فتكون الترجمة بذلك عنصرًا من عناصر بناء النص وبناء الفهم والتأويل، أو في شكلها المضمر من خلال ابتكار المقابلات عبر سيرورة فكرية وفلسفية نُتابع مضمراتها لحظةً لحظة.

لنتابع بهذا الخصوص عملية التأويل الترجمية في إحدى رحلاتها الطويلة المدى؛ يتعلق الأمر هنا بمفهوم البرزخ أو عالم المثال والخيال والصور؛ ففي الوقت الذي لا يجد الفيلسوف المترجم مقابلًا ممكنًا لهذا الاصطلاح، فإنه لا يجعل منه مفهومًا من مفاهيمه الممكنة، ليركِّز بالمقابل على مفهوم عالم المثال الذي يشتغل عليه بطريقتين متمايزتين: أولًا مقابلته بنظيره اللاتيني mundis imaginalis، المتداول في العصر الوسيط. وثانيًا، فإن هذا المفهوم اللاتيني يتطلب من الفيلسوف لا من الفيلولوجي، اجتهادًا آخر سوف يمكن اعتباره بهذا الصدد فتحًا في هذا المضمار. لقد استطاع المترجم الفيلسوف تعطيل مفهوم البرزخ؛ لأنه يشوِّش بشكل ما على مفهوم عالم المثال باعتباره مفهومًا مكانيًّا فقط، ومنح الأفضلية والأولوية لمفهوم يتضمَّن مفهوم إنتاج الصور. ذلك الاجتهاد يتعلق بالأساس بخلق مفهوم يتعلق بابن عربي وذلك بطريقة هايدجرية. إنه مفهوم l’imaginal الذي سوف يشتغل في الحقل الفكري والفلسفي الغربي منذ الستينيات، وإن بشكل هامشي.
إذا كان مفهوم l’imaginal يمكِّن من تجاوز ثنائية الخيال والمتخيل وشرخها (الذي يبدو أن كوربان يتشبَّث بهما مثله في ذلك مثل سارتر وإن بشكل أقل حدة)، فإن كوربان مع ذلك يظل يرمي بشكل صريح بالمتخيَّل في مزبلة ما لا يقبل الفكر والتفكير. إنه بذلك يمنح الخيال طابعًا خلاقًا يشبِّهه بالعقل الفعال، فيما يعطِّل مفهوم المتخيَّل صراحة: «ذلك هو الموضوع الأساس لهذا الكتاب. وربما من خلاله ساعد ابن عربي بعضًا من زملائنا الغربيين (وذلك مؤشر من المؤشِّرات الدالة) الجاهدين في أيامنا هذه في إعادة اكتشاف ميتافيزيقا الخيال وحضرة الخيال l’imaginal؛ إذ نحن لا نقول بمفهوم المتخيل … ففي نظرهم ثمة عالم ثلاثي يوجد «موضوعيًّا» وواقعيًّا؛ إذ بين الكون المدرك بواسطة الإدراك التعقلي (عالم العقول الملائكية الكروبيين cherubiniques)، والكون المدرك بالحواس، يوجد عالم وسط هو عالم الأفكار والصُّور والتمثيلات والأجسام اللطيفة و«المادة اللامادية». إنه عالم واقعي وموضوعي، متماسك وأبدي، مثله في ذلك مثل العالم المعقول والعالم المحسوس. كما أنه عالم وسط «فيه تتجسْدَن الرُّوح ويتروحَن الجسد»، يتكون من مادة ومن امتداد واقعيَّين بالرغم من أنهما في حالة لطيفة ولا مادية بالنظر إلى المادة المحسوسة الفاسدة. ذلكم هو العالم الذي تشكِّل المخيلة الفعالة عضوه. إنه موطن التجليات، والمشهد الذي تقع فيه الأحداث الشُّهودية والحكايات الرمزية في واقعها الحقيقي. سيدور الحديث كثيرًا هنا عن هذا العالم، من دون أن نتلفَّظ أبدًا بمفهوم المتخيَّل imaginaire؛ لأن هذه الكلمة وفي مقابلها الجاري تحكم مسبقًا على الواقع المقصود أو المبتغى، وتكشف عن العجز أمام هذا العالم الوسط والوسيط في الآن نفسه؛ أي عالم الحساسية المعقولة.»١٩

إن العملية الفكرية التأويلية التي يقوم بها كوربان تستدعي منا عمليةً ترجمية مزدوجة بدورها، نتمكَّن من خلالها من أن نُتابع عن كثب الجهد المنتج في النص المترجم، وأن نستعيد ذلك الجهد حتى ونحن نعود للنص الأصل موضوع الترجمة. بهذا المعنى يغدو من الواضح أن العمل التأليفي والترجمي يكون تحويلًا باتجاه اللغة الفرنسية وتحويلًا مزدوجًا لا استعادةً بسيطة نحو اللغة العربية التي هي الأصل الفصل.

١  كلود أوليي، مراكش المدينة، ترجمة فريد الزاهي، منشورات عكاظ، ١٩٩٥م.
٢  حسب لسان العرب، ومعروف أن ابن عربي ونيتشه وهايدغر قد اعتمدوا كثيرًا في تأويلاتهم على الرجوع إلى المعنى الأصل.
٣  انظر مثلًا بيير لوتي، في المغرب، وقد ترجمه للعربية حسن بحراوي بمراجعتنا، وصدر قريبًا عن هيئة أبوظبي للثقافة والتراث؛ وكذلك، بيير شوفريون، رحلة إلى المغرب، ترجمة فريد الزاهي، هيئة أبوظبي للثقافة والتراث، ٢٠١١م.
٤  انظر الدراسة التي خُصصت لهذه الرسوم في أشغال ندوة «الرسوم المصورة» المنظمة بكلية الآداب بمكناس المنشورة سنة ١٩٩٢م.
٥  انظر مقال الخطيبي: “Biliguisme et littérature”, in Maghreb pluriel, Denoël/SMER, pp. 177–207.
٦  نفسه، ص١٩١.
٧  نفسه، ص١٧٩.
٨  A. Khatibi, Amour Bilingue, Fata Morgana, 1982, pp. 10-11.
٩  Farid Zahi, Langue, Corps et savoir, les figures du double dans Amour bilingue et le Livre du sang, thèse de 3e cycle, Sorbonne Paris-IV, 1987.
١٠  ع. الخطيبي، صيف في ستوكهولم، ترجمة فريد الزاهي، منشورات توبقال، ١٩٩٤م.
١١  هنري كوربان، الخيال الخلاق، ترجمة فريد الزاهي، ط١، منشورات مرسم، ٢٠٠٦م؛ ط٢، منشورات الجمل، ٢٠٠٨م.
١٢  M. Heidegger, Qu’est-ce que la métaphysique? Suivi d’extraits sur l’être et le temps et d’une conférence sur Hölderlin, Trad. de l’allemand par H. Corbin avec un avant-propos et des notes, Paris, Gallimard (coll. “Les Essais”, VIII), 1938.
١٣  هنري، كوربان، «من هايدغر إلى السُّهْرَوَردي»، ترجمة فريد الزاهي، مجلة نزوى، العدد ٥٣، ٢٠٠٨م، ص١٠٤.
١٤  نفسه، الصفحة نفسها.
١٥  نفسه، ص١٠٥.
١٦  نفسه، الصفحة نفسها.
١٧  نفسه.
١٨  بحث الإجازة الذي حرَّرناه عن الكتابة والاختلاف بجامعة فاس سنة ١٩٨٣م، وكان حينها أول إجازة بالعربية في شعبة الفلسفة بالجامعة المغربية عن الخطيبي.
١٩  ﻫ. كوربان، الخيال الخلاق في تصوف ابن عربي، ترجمة ف. الزاهي، ط٢، منشورات الجمل، ٢٠٠٩م، ص١٥١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥