الجنية والمجنون والجنة: الجسد والحكاية والألم

في مراجعة مفهوم النص

من الواضح أن الثقافة العربية المعاصرة لا تزال حبيسة تنويرية محجوزة، ترى بعَوَرٍ بيِّن إلى الثقافة ككمٍّ متراكم من النصوص ذات التراتبية الواضحة، بحيث تخضع عملية الترتيب هذه إلى أقانيم تنطلق من القدسي الديني (لا غيره) إلى النصوص البلاغية ذات السُّنن التعبيرية المتوافقة مع «الذوق العربي»، مرورًا بالشعر والمقامات والنصوص المدرسية المختلفة. ولا يخفى أن هذه القِيَمية هي التي جعلت الكثير من النصوص الشعبية (السِّير) والكثير من النصوص الخبرية وغيرها من النصوص الإيروسية تعيش لمدة طويلة على هامش الثقافة العربية عمومًا، الحديثة منها والمعاصرة.

إن هذه القِيَمية الإقصائية ذات الطابع الأخلاقي أحيانًا، بدأت تعيش ضربًا من الأزمة منذ اهتمام المستشرقين الأكثر مقبوليةً في العالم العربي والإسلامي بنصوص هامشية وإحلالها المكانة التي يلزمها أن تتبوَّأها في مدونة الثقافة العربية عمومًا. وبهذا المعنى، غدا من المألوف منذ عقود، وبفضل جهود الكثير من الباحثين العرب المعاصرين، الحديث عن السير الشعبية وعن ألف ليلة وليلة، بل وعن كتابات إيروسية من قبيل «الروض العاطر» و«نزهة الألباب في ما لا يوجد في كتاب» و«رشف الزلال من السحر الحلال» وغيرها، باعتبارها نصوصًا تتمتَّع بمشروعية ثقافية (مركبة طبعًا)، مثلها في ذلك مثل أي نص آخر كالبخلاء للجاحظ وغيره.

بيد أن مفهوم النص نفسه لا يزال حبيس ضرب من الاختزالية التي تسود حتى لدى أكثر الباحثين علمية؛ إذ ما الذي يتم تحريره من الهامشية لتمتيعه بالحضور النصي الثقافي؟ إنها في الغالب الأعم نصوص حكائية طويلة (ألف ليلة وليلة، السير الشعبية المعروفة والخرافات)، وكأن التحرير والاعتراف هنا لا يمكنه أن يطول إلا ما يمتلك بنيةً حكائية ذات نَفَس قصصي روائي. أما الحكايات غير ذات النفس، فيُرمى بها في صلب الخبر أو النادرة أو اللطيفة أو النكتة. بل وكأن هذه الأنواع الحكائية البسيطة، التي ظلَّت متداولةً في نسيج الثقافة العربية، المكتوبة منها والشفوية، القديمة منها والحديثة، ليست بأنواع حكائية، ومن اللازم غض الطرف عنها باعتبارها تأتي في أسفل سُلَّم التراتبية الجديدة، التي لا تعترف هي نفسها إلا بأنواع حكائية على حساب أخرى.

لنتذكَّر أن يوليس Jolles، أحد الشكلانيين الألمان المتأخرين، قد أعطى أهميةً قصوى في كتابه «الأشكال البسيطة» (منشورات دار لوسوي بباريس في الترجمة الفرنسية، ١٩٧٢م)، واعتبرها أشكالًا حكائية لها ذكاؤها النصي وبنيتها الحكائية والتركيبية، وموقعها في التداول الثقافي للتواصل الحكائي. وهو بالمناسبة مؤلَّف تناساه العرب واهتموا بالمقابل فقط بالشكلانيين الروس، وإن كان يوليس أقربهم إلى ذهنية الثقافة العربية. ولْنتذكَّر أيضًا أن فرويد قد اهتم اهتمامًا واضحًا بما يسمى Le mot d’esprit؛ أي ما يقابل لدينا النكتة أو اللطيفة، وحلَّل مدلولاتها النفسانية بالشكل نفسه الذي تعامل به مع رواية غراديفا للكاتب الاسكندنافي المغمور ينسن، كي يحلِّل من خلالها الأحلام والهذيان.

حرية الخطاب وحداثة الحكاية

إننا نجد أنفسنا هنا بالضرورة أمام النسق الثقافي العربي باعتباره شموليةً اختلافية، لا باعتباره شموليةً تراتبية؛ فبالشكل نفسه الذي يُحس فيه القارئ والباحث أنه قريب من النص الثقافي المعاصر لكي يُحاور فيه وجوده في الهنا والآن، كذلك يجد نفسه قريبًا من النص الثقافي القديم في تجلياته المتعدِّدة والمختلفة؛ فالحداثة ليست قضيةً تاريخية كرونولوجية؛ لأن الزمن يشتغل فيها وفقًا لقدرات النص (مهما كان نَفَسُه، ومهما كانت هامشيته) على أن يكون معاصرًا؛ أي على أن يدخل في حوار مع متحوِّلات الحاضر. ومن هذا المنظار، يمكن القول بأن المجتمعات العربية كانت في الماضي تمنح الحريةُ للخطاب والحكاية بشكل أكبر ممَّا نشهده في العقود الأخيرة. والدليل على ذلك أن كتابات من قبيل الروض العاطر أو نزهة الألباب أو أخبار النساء، لم تعانِ من المنع والحجز مثلما تعانيه كتابات كالخبز الحافي أو غيره، لا تصل إلى جرأتها التعبيرية ومشاهدها الفريدة. هذه الحرية هي ما يؤكِّد عليه صلاح الدين المنجد أحد الباحثين الأوائل في هذا المضمار، منذ أواسط القرن الماضي قائلًا: «موقف العرب من الجنس كان كله حريةً وانطلاقًا؛ فما كانوا يتحرَّجون من الحديث عن المرأة والجنس ومن التأليف فيهما. وأعتقد أن حريتهم هي التي تسبَّبت في التزمُّت الذي نعيشه اليوم.»١

إن هذه الحرية الخطابية هي التي أنتجت، إضافةً إلى العناوين التي ذكرنا، العديد من المصنَّفات في أمور متعدِّدة ذات أهمية بالغة، كالعشق والجنس والوصال والجنون، والموت … نذكر من أهمها: روضة المحبين ونزهة المشتاقين (لابن قيم الجوزية)، وتزيين الأسواق في أخبار العشاق (لداود الأنطاكي)، وديوان الصبابة (لابن أبي حجلة التِّلِمْساني)، ومصارع العشاق (لابن الحسين السراج)، وأخبار النساء (لابن قيم الجوزية) وأخبار الحمقى والمغفلين (لابن الجوزي)، وعقلاء المجانين (لابن حبيب النيسابوري) … ومن عجائب الأمور ألَّا تحظى كتابات من قبيل هذه بالشهرة نفسها التي حظيت بها كتب كالأغاني للأصفهاني، وطوق الحمامة لابن حزم، بالرغم من أن بعضها لا ينقص عنها أهمية، إن لم يكن أغنى خبريًّا وأعمق وأشمل من نواحٍ كثيرة، وكأن تكريس تلك الكتب كان ينم عن عملية «تصفية» يتم بموجبها حجب الغابة بشجيرات قليلة!

ترتبط الحرية الخطابية التي تحدَّثنا عنها بكونها كانت نابعةً من حرية في التفكير جعلت أغلب القضايا ذات الطابع المتطرِّف أو الراديكالي أو الغريب تحظى باهتمام الفقهاء والعلماء المرموقين، من قبيل السيوطي وابن قيم الجوزية وابن الجوزي وابن الحسين السراج وغيرهم، فيحلِّلونها، ويُخبرون عنها، ويروون حكاياتها وسرودها، ويُبوِّبون مظاهرها. ولعل في أصل هذا الاهتمام تكمن أيضًا الجاذبية والغرابة التي تحظى بها موضوعات من قبيل العشق والجنس والموت والجنون والألم، وتلك الرغبة الصارمة التي يمتلكها العالِم في تلك المراحل في أن تشمل معرفته الغامض والواضح، والغريب والمألوف، والمستحسَن والمستهجَن. وبما أن تلك المواضيع كانت على الحد الفاصل بين المقدَّس والمدنَّس (بلغة الأنثروبولوجيين)، أو على الأقل في فضاء بَيْني ملتبس، فإن الذين ألَّفوا في أمور من قبيل هذه قد تحَلَّوا بالفطنة والحذر، سائرين على سراط دقيق حتى لا ينساقوا وراء فتنة الموضوع، وفي الآن نفسه لا يمحقونه حقه من الحكي والتفكير والعبرة.٢

إننا نرمي هنا إلى إبراز قيمة الحكاية الخبرية من جهة، والثراء الثقافي الذي تنبئ عنه من جهة ثانية، والقابلية التأويلية التي تمنحها للقارئ المعاصر، بل للمناهج المختلفة من تحليل سيميائي دلالي وتحليل نفسي أدبي وتأويليات (هرمينوسيا) من جهة ثالثة. إنها قراءة تأويلية بالمعنى الأصلي اللغوي لكلمة التأويل؛ أي إرجاع المعنى إلى مَوْئله ومآله. من ثم فنحن نبدأ من اللغة لنعود إليها، في حركة دائرية تُبين عن حلزونية المعنى الحكائي، نتابع فيها تمفصلات الخبر ونسيج تداعياته في الحقل الثقافي العربي العام للثقافة العربية «القديمة» في انفتاحها المستمر على ممكنات القراءة.

•••

لعلَّ كتاب مصارع العشاق للسراج أكبر موسوعة عربية عن آلام العشق والمحبة بجميع أشكالها، بيْد أن أكثر الأخبار والحكايات التي يضمها تتعلَّق بمآل العشاق وأخبار موتهم الناجم عن فعل العشق. إنها أخبار موثوقة المصادر ومتواترة الرواية بحيث نخالها واقعات من الوقائع التاريخية؛ والحال أن الشكل الذي يأخذه الألم الجسماني والنفسي وآثاره البدنية والطريقة التي بها يعيش العشاق موتهم من التشاكل والتشابه بحيث لا يمكن إلا أن نعتبرها بناءً تخييليًّا مرتبطًا إلى هذا الحد أو ذاك ببناء الحكاية وطريقة أسْطَرتها للوقائع. بهذا المعنى أسْطَر العربي العلاقة العِشقية وجعلها تأخذ طابعًا إشكاليًّا وحكائيًّا في طابع استحالتها. إن الحكاية والخبر الحكائي رهينان بالمغامرة والعوائق، وإلا، فلماذا تتوقف جميع حكايات ألف ليلة وليلة لحظة وصال العشاق وزواجهم؟ ولماذا تتوقف جميع الحكايات الخرافية عند انتهاء مشكلات الفراق؟

شقاء الجسد

ينجم عذاب العشق وألمه أساسًا لا عن فعل الحب نفسه وإنما عن استحالته القصوى. وهذا الألم يؤدي إلى إحدى النتيجتين: الجنون، وللسراج في ذلك حكايات وأخبار كثيرة؛ والموت ألمًا وعذابًا. ومن غرائب الأمور أن ترتبط استحالة الحب لا بالجنون فقط، وإنما باستبدال مجازي يتم بموجبه إسقاط الحب المحجوز على كائنات متخيَّلة تُسمى بالجن. ولعل مصدر ذلك يكمن بالأساس في الجذر اللغوي للجن والجنون، الذي يدل في ما يدل عليه على الخفاء والتواري؛ ففي كتاب الحيوان للجاحظ ومروج الذهب للمسعودي، وهما من أكثر أخباريينا عقلًا وتعقُّلًا، من الحكايات التي تُثبت عشق الناس للجن ما يجعل من فعل العشق نفسه فعلًا تخييليًّا ومتخيلًا يُبنى كما تُبنى الحكايات والخرافات، ويشذ هو أيضًا عن الواقعية الحسية.

إن استحالة الحب تخلق هوةً بين العاشق وموضوعه، وتجعل العاشق فريسةً لهذه الاستحالة نفسها بل ضحيةً لها. ولا يكون له في ذلك سوى خيارين أمام المتولِّه: إما الاستسلام لتلك الاستحالة وهو ما يؤدِّي في العادة إلى حالة جسمانية يترك فيها الحب المحجوز آثاره الألمية على الجسم والنفس، وتنتهي لدى الأخباريين إما بالموت أو الجنون؛ وإما اللجوء إلى الخيال لدوره السحري في تحقيق التواصل. هذا الدور السحري هو ما يؤكِّده جان بول سارتر بقوله: «إن فعل الخيال فعل سحري … إنه دعاء موجَّه إلى استظهار الموضوع الذي يفكِّر فيه المرء والشيء الذي يشتهي بشكل يمكنه معه امتلاكه؛ ففي هذا الفعل ثمة دائمًا شيء ما خطر وطفولي ورفض لأخذ المسافة والصعوبات بعين الاعتبار.»٣ لكن، إذا كان عشق الجن والزواج منها خلاصًا متخيلًا من الاستحالة، فإنه ليس سوى حيلة لا شعورية يتم من خلالها خلق موضوع العشق نفسه. إنه تجاوز للاستحالة بالاستحالة نفسها، وتعويض عن الغائب بغائب أكثر تصوريةً منه. ولنا أن نخال هذا الطيران في عالم الجن كاستحضار دنيوي وشيطاني لعالم الجنَّة؛ فالجن والجنون والجنة من جذر لغوي واحد. وكأن الحكاية تصوغ علنًا لُعبتها الانتقالية داخل الذات العاشقة نفسها من خلال هذه المعاني الأصلية باعتبارها أسطورةً ذاتية للعشق.

وفي حالة أخرى يكتفي العاشق بالانصهار في حالة الاستحالة تلك متابعًا لها، مجاهدًا في مقاومتها بل وفي الاستسلام لها. وربما كانت حكاية غورك المجنون أكثرها تمثيلًا لذلك:

«قال أبو بكر محمد بن فرخان: لقيت غورك المجنون، وفي عنقه حبل قصير، والصبيان يقودونه. فقال لي يا أبا بكر، بمَ يعذِّب الله أهلَ جهنم؟ قلت: بأشد العذاب. قال: صفْ لي. قلت: ومن يصف عذاب رب العالمين؟ قال: أنا في أشدَّ من عذابه. ثم رفع ثوبه عن جسده، فإذا هو ناحل الجسم دقيق العظم، فقال لي:

انظر إلى ما فعل الحب
لم يبقَ لي جسم ولا قلب
أنحلَ جسمي حبُّ من لم يزلْ
من شأنها الهِجران والعَتْب
ما كان أغناني عن حب من
من دونها الأستار والحُجب.»٤
من ثم، فإن تجرِبة العشق المحجوز تجرِبة حدِّية يتوازى فيها الاختلال العقلي والعذاب النفسي. إنها تجرِبة الانمحاء التدريجي والتواري الذي يُنعت بالجنون؛ فالكائن يجِنُّ ويُجَنُّ ليتحوَّل إلى مجرد ظل لنفسه. ولا أدَلَّ على ذلك من أن الجنون يعني في ما يعنيه التواري (إذ سُمي الجن جنًّا لتواريهم واستشباحهم) والتحول إلى شبح. يؤكِّد ذلك بشكل واضح ضمور الجسد وتحوله هو نفسه إلى مجرد شبح وصورة منفصمة عن الذات، وعلامة على تلك التجربة في قسوتها النفسية والبدنية، بل إن هول هذه التجرِبة يدفع بأصحابها إلى التفكير فيها وتفكُّرها، ولا يتم ذلك إلا من خلال جعل الألم وصوره قضيةً إشكالية تأخذ هنا صفة إعلان تفرُّدها واستحالة مقارنتها ومضاهاتها بتجربة أخرى ولو كانت عذاب جهنم، باعتبارها تجربةً قصوى للألم. وكأن العاشق المعذَّب هنا ينفي صفة العشق إلا عن نفسه، خالِقًا بذلك جدليةً من نوع خاص لا تركيب فيها ولا وحْدة؛ فحين ينتفي القلب والجسم، باعتبارهما منبعَي الوجود والإحساس، يتحوَّل الكائن إلى غياب؛ أي إلى هُوية.٥ إنه هو نفسه وغيره في الآن نفسه، على حدِّ الحياة والموت، بل إن هذا التحول نفسه يطول الذات فيجعل منها شخصًا (والشخص لغةً ظل الإنسان). بهذا المعنى يمكن الحديث عن العاشق المتألم باعتباره ظلًّا؛ أي شخصًا من أجل الآخر، لا وجود له إلا في ما يُعيِّن به موضوع استحالته. هزال الجسد وسقمه دلالة على ألم الجسد، يغدو صورةً (والصورة لغةً الجسد والوجه والظل والشبح)؛ إنه يغدو بمعنًى ما صورةً لصورة؛ أي صورةً تُعيِّن ماضي العاشق ومستقبله، وتُحيل تدريجيًّا على الفناء (في دلالته بوصفه موتًا وحلولًا في الآخر الحبيب). من ثم، فألم العشق ليس له من غائية. إن غائيته الوحيدة تتمثَّل في أنه مدخل للموت؛ بل إنه ليس فقط كذلك، وإنما هو الصورة الحية للموت.

يمكِّن مبدأ حكاية الألم العشقي إذن من نفي الذات ونفي حدود العذاب المعروفة، بيد أنها كي تسترسل وتوجَد من حيث هي حكاية للمستحيل، وتجرِبة واقعية وتصويرية للحدود القصوى، تخلق لنفسها تراتبيةً للعذاب يكون الجسد موضوعًا لها، والقلق عنصرها الطاغي، وفقدان العقل أو الموت منتهاها. وهذا ما يؤكِّده قيس بن الملوَّح نفسه حين اتُّهم بالجنون فرد قائلًا:

«قالت جُننتَ على رأسي، فقلت لها
الحب أعظم ممَّا بالمجانين
الحب ليس يُفيق الدهرَ صاحبُه
وإنما يصرع المجنونَ في الحين.»
بهذا المعنى يكون الوجود في قلب الاستحالة عنصرًا يخلق فضاءً للتفكير في الألم الناجم عن العشق، وسبيلًا إلى تحويل الحُجُز إلى مرآة ينظر فيها العاشق إلى حالته. من ثمَّ، فالجنون الناجم عن العشق جنون مجازي، وهو ما يؤكِّده بلا أدنى شك قول قيس. وكأني بالعُشاق هنا يتبارزون في إبراز ما تعجز اللغة عن وصفه. فإذا كان غورك يفكِّر في عذاب العشق باعتباره متجاوزًا لعذاب جهنم، فذلك ليؤكِّد عجز اللغة نفسها عن وصف ذاك العذاب. وإذا كان قيس يصوِّر ذلك الألم بما يتجاوز الجنون، فلكي يؤكِّد من جانبه عجز الجنون نفسه عن احتواء حالة العشق. وفي الحالين معًا يُفصح ذلك عن استحالة التفكير في الألم الشخصي، بل وحكيه باللغة؛ ولهذا نجد أنفسنا، من ناحية أخرى، أمام تراتبية في الاستحالة نفسها تنهض على النفي، وهو الأمر الذي يجعل من كل تفكير في الألم ضربًا من القلق ذي الجوهر الميتافيزيقي.٦ إن العشق المحجوز بهذا المعنى استحالة الاستحالة نفسها.
لنقرأ هذا الخبر عن الأصمعي؛ قال: «لقد أكثر الناس في العشق، فما سمعتُ بأوجز ولا أجمل من قول بعض نساء العرب وسُئلت عن العشق فقالت: داء وجنون.»٧

وقول أحدهم:

«أيها العاذلون لا تعذلوني
وانظروا حُسن وجهها تعذروني
وانظروا هل ترَون أحسن منها
إن رأيتم شبيهًا فاعذلوني
فيَّ جنون الهوى وما بي جنون
وجنون الهوى جنون الجنون.»٨

يفترض العشق إذن المفهوم ونقيضه، والحالة وما يتجاوزها. إنه أشبه بوضعية يضيع فيها الألم والمسافة بين الرغبة وتحقُّقها كلَّ وجهة أمام العاشق، بحيث يفقد المفهوم مضمونه التحقُّقي. العشق إذن وضعية مأساوية تجعل العاشق يعيش في الفاصل بين الواقع والسَّديم، في البرزخ الذي يسمِّيه ابن عربي بحضرة الخيال. وهو ما يجعل كل تعيين مجرد صورةً ممكنة تُعلن عن استحالة العبارة من العبور إلى المعنى المراد.

بيد أن التعبير مجرد عبور إلى حدود الألم؛ ذلك أن الألم طاقة قصوى تخلق قطيعةً بين الجسد وما يحيط به. «إنه عملية تحطيم وضغط، وهو يفترض وجود حدود؛ حدود الجسد وحدود الأنا، كما أنه يؤدِّي إلى إفراغ داخلي، أو ما يمكن أن نسميه أثرًا للانحباس implosion٩ الألم يتم في الأنا الجسدية، إنه يحوِّل الجسد إلى نفس والنفس إلى جسد،١٠ مُكسِّرًا بذلك الحدود داخل الذات. هكذا يخلق العذاب النفسي والجسدي لنفسه دائرةً داخل الأنا تقوم على نفي الذات من أجل الآخر باعتباره تجرِبةً قصوى للوجود، تتم على حدود وتخوم السديم؛ فالآخر (كما عبَّرت عن ذلك حكاية السراج) محجوب، وهو لا يوجد إلا من خلال ألم العشق وصورة جسده الذابلة الدالة على انحجابه ذاك.

ولأن الأمر كذلك، فإن العاشق لا يمكن له أن يروِّض عذابه ولو باللغة، ولا يمكنه أن يتواصل مع ألمه بأي شكل من الأشكال، ولا أن يبلغه بأي صورة من الصور، سوى أن يعرضه في صورته الطبيعية من حيث هو كذلك؛ لذا غالبًا ما يتم ذاك التواصل والتبليغ عبر الصمت والصرخة، التي قد تكون صرخة صرْعة الموت. ويسوق السَّرَّاج في ذلك حكايات عديدةً تبدأ بالصمت والكتمان، وتئول إلى ضمور الجسد لتنتهي بصرعة الموت.

وحين يكشف العاشق عن جسده، فهو يكشف عن جسد يبدو غريبًا عنه، إلى درجة يُحس بالانفصام معه. جسد العاشق هنا ليس جسده، وهو ما يجعله يعرضه كشهادة عن ذاك الانفصام. إنه جسد غير طبيعي، ويغدو بالتالي جسدًا غير إنساني monstrueux وغريبًا بكل معاني الكلمة. فكأننا بالعاشق وهو يعيش عنف الانفصال الأصلي عن موضوع رغباته، يعيش تجرِبة إخصاء تنتفي معها فحولته. إنه يعيش الإحباط في شكل شتيمة نرجسية كما يقول المحلِّلون النفسانيون. بل هو يمارس هذا الضرب من المازوخية على نفسه كي يلوذ فيها من الآثار المدمرة لخيبة العشق القاتلة وتلك الشتيمة النرجسية نفسها.١١ تبعًا لذلك، فإن ذاك الألم، كما تقول إحدى شخصيات لوكليزيو، يغدو صفة العاشق، وبدونه يستحيل العشق، أو هو يستحيل إلى حب أو محبة. لنقرأ لماني الموسْوس وصفه لحالة العاشق:
«لم يبقَ إلا نَفَس خافت
ومُقلةٌ إنسانُها باهت
بَلى وما في جسمه مفصل
إلا وفيه سَقَم ثابت
فدمعه يجري وأحشاؤه
توقَد إلا أنه ساكت»

وقال أيضًا:

«مُعذَّب القلب بالفراق
قد بلغت نفسُه التراقي
لم يبقَ منه السقام إلا
جِلدًا على أعظم رقاق
لولا تسَليه بالتبكي
آذنَت النفسُ بالفراق.»

تكتمل حكاية الألم إذن من خلال خيار آخر: إما التفريغ عن ثقل الألم بالبكاء، وهو ما لا يُنجي من الموت بل يُؤجِّله فقط، أو الكتمان والصمت حتى حصول شهقة الموت. وبين هذا وذاك ليس ثمة من اختلاف جوهري؛ فزمن العشق يظل هو هو، باعتباره زمنًا قائمًا بذاته، يمتلك الجسمَ والنفس ويقود إلى العزلة القاتلة. وبدون الوصال، باعتباره اكتمالًا للذات وتبديدًا للقلق والحيرة وخلقًا لأنا مثالية مطموح إليها، يغدو العشق شرًّا لا معنى له. إنه بطولة تراجيدية سلبية وسالبة ويائسة. وفي منحاه ذاك، يكون تعبيرًا عن العلاقة المباشرة مع إطلاقية المطلق وعموديته المتسامية، من حيث هو حدٌّ أخير وملاذ؛ ذلك أن تجرِبة الألم المطلق هي التي تُفضي إلى الموت، وهو الأمر الذي سوف يُمارس عليه الصوفي من التسامي ما سيجعله يعيش من خلاله تجرِبة مغايرة.

الألم بوصفه مجاهَدةً صوفية

في حكاية أخرى للسراج، عن أبي حمزة الصوفي قال: «كنت مع محمد بن الفرج السائح، فنظر إلى جارية جميلة تُعْرض على رجل ليشتريها، فقال: بكم تباع هذه الجارية؟ فقيل له بألف دينار، فرفع رأسه إلى السماء وقال: اللهم إنك تعلم أني لا أملكها، ولا تنالها يدي، وإني لأعلم من كرمك أني لو سألتك إياها لم تردَّني عنها ولم تمنعني منها، تفضُّلًا منك عليَّ وإحسانا إليَّ، وإني أسألك ما هو أنفس عندي منها، بادنةً لا تمرض ولا تهرم ولا تموت، ومهرها ألَّا تراني نائمًا بليل، ولا طاعمًا بنهار، ولا ضاحكًا إلى أحد من خلقك أبدًا، وأنا أجدُّ في المهر من وقتي هذا، فأنجِزْ لي إذا لقيتك ما سألتك يا كريم. قال فما رأيناه نائمًا بليل، ولا طاعمًا بنهار، ولا ضاحكًا إلى أحد من الناس حتى لحق بالله عز وجل.»١٢
إن عملية الوساطة التي يقوم بها الصوفي تشكِّل حلًّا ممكنًا لمفارقة العشق «الواقعي»، بيد أنه حلٌّ بالمعنى الهيجيلي للكلمة؛ أي نفي وامتلاك مؤجل، وهو من ثم نفي لمفهوم الوساطة نفسها. ومجاهدة الصوفي هنا تتم من خلال إرادة العذاب، واتخاذه سبيلًا لنيل المراد. يخلق المتصوِّف حكاية العشق ويبتكرها ويُبَنْيِنها ويفكِّكها وفقًا لمُطلق قبلي هو حورية الجنة. أما الجارية، ومعها الجمال المحسوس، فلا يغدو ذلك سوى ذريعة للحكاية، أو حكاية ما قبل الحكاية pré-texte. إن عشق الصوفي عشقان: عشق يقوم بحجب موضوعه عن البصر، ويدرأ فتنته بالبصيرة، وعشق مؤجل ومطلق يرمي من خلاله إلى الفناء في الآخر (الذات الإلهية) والتفاني في حب الآخر (حور الجنان). هذه المتوالية العشقية تترابط عناصرها وخيوطها لتشكِّل العشق الصوفي عبر الكبت والإعلان من جهة، وعبر منطق المُواراة والإجلاء من جهة ثانية؛ فمعنى العشق لا يوجد في الجسد. إن هذا الأخير ليس سوى مظهر من مظاهره، والإمساك عن الطعام والضحك والنوم هو حدٌّ أقصى ومطلق للتعبير عن الرغبة العاشقة العدنية للآخر في غيريته المطلقة، فتغييب الجسد يدخل هنا ضمن استراتيجية مبتغاة تروم الفناء والإمساك بالزمن الوجودي. وبذلك ينطبق على الصوفي قول ابن عربي في ترجمان الأشواق:
فأنا ذو الموتتين منهما
هكذا القرآن قد جاء بها١٣

الموت الأول عن الأغيار؛ أي عن الآخر في ازدواجه الحسي والتصوري، والموت الثاني عن النفس؛ أي من خلال استراتيجية العذاب الجسدي كمدخل ضروري لتحقُّق العشق والوصال. وإذا كان العشق الصوفي، كما نحلِّله هنا، مقصديًّا يستدعي الألم والمعاناة والعذاب، فهو مع ذلك عشق غير قلق وغير تساؤلي، مقارنةً مع الأمثلة التي أوردناها. إنه حالة من السكينة التي لا تفكِّر في موضوعها الحدِّي (الحور العين) ووسائلها الحدِّية (تعذيب الجسد) إلا باعتبارها المبتغى الأوحد والطريقة الأنجع.

يقوم العشق الصوفي بقلب معادلة العشق ويبدأ حكايته من حيث انتهت حكاية العشق كما حلَّلناها سابقًا. إنه يغدو هنا صورةً معادِلة لعشق الجن؛ ففناء الصوفي وموته يبدو وكأنه سابق على عذاب الجسد، من ثمَّ فهو ينفي ذاك العذاب ويحوِّله إلى هناء. وعذاب الصوفي موجود وغير موجود في الآن نفسه. إنه موجود لدى الآخرين ومنعدم لدى الذات؛ إذ الصوفي لا يتواصل مع عذابه لا من خلال الصمت ولا من خلال الكلام، ولا من خلال الموت حتى؛ فبمجرد ما يقرِّر المجاهدة البدنية، يُلغي عن ذاته مبدأ الألم كمبدأ ممكن؛ ليحوِّله إلى مبدأ مطلق؛ لذا يمكن اعتبار عشق من قبيل هذا عشقًا متعاليًا يوجَد موضوعُه في ذاته وآخرُه في نفسه، وعشقًا خصبًا لأنه يُفضي إلى امتلاك الذات وزمنها ويحوِّلها إلى حضور وغياب.

ومع ذلك، فالعاشق هنا كائن سالب لأنه ينفي غريزة البقاء بتصور الموت قبل حدوثه، بل إنه يقيم ما يمكن تسميته بحكمة الألم، المفضية إلى المبتغى الميتافيزيقي. العذاب طريق المتصوف إلى الله، إنه أيضًا هُوية تنفي الذاتية وتجعل من المرئي سبيلًا إلى اللامرئي، والحاضر إفضاءً إلى الغائب عبر فعل التغييب نفسه؛ تغييب الجسد من أجل الآخر، وتغييب جسد الآخر بألم ينمحي بذاته، وتغييب الألم من أجل الذات لجسد يفنى في آخَره. ووحدها حكاية الجسد والألم تظل ماثلة، محكيةً هي نفسها بعين وكلام الآخر، وبضمير الغائب.

١  صلاح الدين المنجد، الحياة الجنسية عند العرب، مرجع مذكور، ص٦.
٢  انظر ما سبق.
٣  J.-P. Sartre, L’Imaginaire, Op. Cit., p. 240.
٤  ابن السراج، مصارع العشاق، دار صادر، بيروت، ب. ت.، ج١، ص١٢٥.
٥  أصل الهُوية من هو؛ أي الغائب. والهُوية تخص أصلًا الذات الإلهية.
٦  Etienne Borne, Le Problème du mal, PUF-Quadrige, 1958, éd. 1992, p. 16.
٧  النيسابوري، عقلاء المجانين، دار المكتب العلمية، بيروت، ب.ت.، ص٢٧.
٨  نفسه، الصفحة نفسها.
٩  J.-B. Pontalis, Entre le rêve et la douleur, Gallimard, Paris, 1977, p. 258.
١٠  نفسه، ص٢٥٩.
١١  Jeanne Lampl-de Groot, Souffrance et jouissance, Aubier-Montaigne, Paris, 1983, p. 64.
١٢  ابن السراج، مصارع العشاق، مرجع مذكور، ج٢، ص٨٤.
١٣  ابن عربي، ترجمان الأشواق، دار صادر، بيروت، ١٩٦٦م، ص٣٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥