ابن عربي: الصورة والآخر

إذا كانت مسألة صورة الآخر ترتبط بمبحث جديد يسمى بعلم الصور (imagologie) يهتم بالأساس بالتصورات التي يُنتجها النص عن الآخرين، أدبيًّا كان أو فكريًّا وفلسفيًّا، فإن مسألة الذات والصورة والآخر، بالشكل الذي نسعى إلى طرحها، أوثق ارتباطًا بفكر ابن عربي، وعنها تصدر صور الآخر من جهة، وباعتبارها إحدى أهم القضايا التي طُرحت في الفكر الفلسفي منذ نيتشه وهوسرل وهايدغر وسارتر وميرلوبونتي، ثم في ما بعدُ من قبلُ فوكو ودريدا ودولوز، أو في ما سُمي اختزالًا بفكر الاختلاف. لقد أثار هايدغر، منذ مقالته الشهيرة عن الهُوية والاختلاف المنشورة في «قضايا ١»، مسألةً شائكة يمكن من خلالها التفكير في مجاوزة مسألة الذات في صيغتها العقلانية والفروق بين التطابق والهُوية وبين المثلية والتطابق والاختلاف، وبالتالي إمكانية تفكير الذات باعتبارها هُويةً واختلافًا في الآن ذاته، وباعتبارها أيضًا أساسًا قضيةً أنطولوجية.

ونحن لا يُهمنا هنا هذا الموقف إلا في مدى قدرته على ملامسة القضايا الوجودية والفكرية التي طرحها ابن عربي في علاقته الأساسية بالمرأة، باعتبارها آخر، وعلاقته بالذات الإلهية أيضًا من حيث هي هُوية (غيرية، بلغتنا الحالية)، وتصنيفه للوجود إلى ثلاثة عوالم؛ عالم الحق، وعالم الخلق، وعالم الصور والخيال، باعتباره عالمًا برزخيًّا يجمع الكثرة الناجمة عن الوجود من حيث هو هُوية.

الذات الإلهية: هُوية الهُوية

يتميَّز تصور ابن عربي للوجود بكونه تصورًا دائريًّا ينطلق من اعتبار العالم مبنيًّا على دورة كونية كبرى؛ فالله «ما خلق الذي خلق من الموجودات خلقًا خطيًّا من غير أن يكون فيه ميل إلى الاستدارة أو مستديرًا في عالم الأجسام والمعاني.»١ هذه الدائرية تمكِّن ابن عربي من تفادي خطية العلاقة بين الحق والخلق من جهة، ومجاوزة مبدأ القطيعة أو الهوة الأنطولوجية المطلقة بين الذات الإلهية والعالم، واتصال المبدأ والمنتهى، واعتبار العالم تجليًا للمعاني الإلهية. كما أنها تُعبِّر، في الآن نفسه، عن دائرية المعرفة ودور الخيال الخلَّاق فيها؛ فالحائر له الدور والحركة الدَّورية حول القطب فلا يبرح منه، وصاحب الطريق المستقيم مائل خارج عن المقصود، طالب ما هو فيه، صاحب خيال إليه غايته؛ فله مِن وإلى وما بينهما.٢ إن المعرفة الصوفية، حتى تمسك بموضوعها، تتطابق مع ماهيتها الدائرية وتحاكيها، وكأنها بذلك تأتي على صورتها، بالشكل نفسه الذي أتى به الإنسان على صورة خالقه. والإنسان بوصفه صورةً يغدو مطالَبًا بمعرفة نفسه من حيث هو كذلك، ومن خلال تلك المعرفة يتمكن من معرفة الأصل بوصفه منطلقًا ومآلًا. إنه صورة مفكرة تعيش وجودها الخيالي في نمط نشيط فعال لا منفعل فقط. بهذا الشكل تكون دائرية المعرفة تعبيرًا عن دائرية الوجود وتأكيدًا لها وكشفًا لصيرورتها وحركيتها التي من خلالها ينْشدُّ الخلق إلى الحق.

يجرِّد ابن عربي الذات الإلهية من كل اختلاط ليجعل مرتبتها مرتبة وجود مطلق هو وجود الحق، قائمةً بذاتها من حيث هي كذلك؛ وهو مستوى الأحدية باعتباره رتبةً وجودية مطلقة تغيب عن كل تحديد وقائمةً بأسمائها، وهي مرتبة الألوهية (أو الواحدية) باعتبارها مرتبةً وجودية مقيَّدة بكثرة ما (الأسماء والصفات والموجودات). وبما أن الأسماء الإلهية واحدة من حيث مفهومها الكلي، وكثيرة من حيث المعاني المتعدِّدة التي تحتويها مرتبة الألوهية، فإن العلاقة بالذات الإلهية، ومن ثمَّ معرفتها، تتم من هذه المرتبة؛ لأنها المضمار الأوحد الذي يسمح بالتفكير في الحق والخلق وفي ما يربط بينهما، ولأن كثرتها تُمثِّل بصورة ما مدخلًا لكثرة الخلق؛ فالحق موجود باعتباره هُويةً ذاتية مطلقة (الأحدية)، وباعتباره أيضًا، وبشكل ما، هُوية ما يخلقه ويمنحه المعنى والوجود.

لذا فإن ما يُعرف بوحدة الوجود لدى ابن عربي يتم من خلال العلاقة اللغوية المفهومية مع الذات الإلهية؛ أي في المجال المشترك والمفهومي للمعرفة الذي هو اللغة والتصور (الأسماء والتجليات). ولا يمكن الربط بين هذه الوضعية المتعالية للأحدية بما يليها من أسماء وصفات وخلق، إلا بتحول الكثرة إلى عالم برزخي فيه يتحقق الاتصال والمعرفة والربط بين المطلق والنسبي، من ثم توجد مرتبة الألوهة وفضاؤها في البرزخ من حيث هو وضعية تمكِّن من «الجمع بين الطرفين بما هو برزخ، فيعلم نفسه ويعلم بطرفيه ما هو برزخ بين شيئين، فيكون جامعًا من هذا الوجه عالي المقام وبين فضله على الطرفين؛ فإن كل طرف لا يُعلم منه إلا الوجه الذي له.»٣ من ثم لا يمكن معرفة الوجود إلا من وراء «هذا البرزخ وهو الألوهة، ولا تحكُّم الذات في المخلوق بالخلق إلا بهذا البرزخ وهو الألوهة.»٤ بيد أن مرتبة البرزخ أيضًا تضع الحدود والفوارق، وتمكِّن من تحويل الغيرية إلى غيرية متوسطة. «ولما كان البرزخ أمرًا فاصلًا بين معلوم وغير معلوم وبين معدوم وموجود، وبين منفي ومُثبت، وبين معقول وغير معقول، سُمي برزخًا اصطلاحًا.»٥
وإذا كان أبو العلاء عفيفي محقق وشارح فصوص الحكم يتحدث عن وحدة للوجود تامة بالشكل الذي بلورها في مطلقيتها ابن سبعين، فإن العلاقة لدى ابن عربي بين الوحدة والكثرة هي علاقة مبنية على المفارقة والتباين والاختلاف، وهي لذلك ليست علاقة تطابق identité أو تماهٍ، وإنما هي علاقة قريبة مما سماه هيدغر لاحقًا ﺑ mêmeté؛ فالأسماء الإلهية، بهذا المعنى، يصعب تحديدها بالعلاقة مع الذات»؛ «فلا يقال هي هو ولا هي غيره»،٦ لأنها تعيين من المخلوق للخالق باعتبار أنه جعله بمألوهيته إلهًا، وأن الذات لو تعرَّت من تلك النسب لم تكن إلهًا.٧ إن هذا النفي المزدوج، كما يقول جاك دريدا، هو عَيْن المغايرة من حيث إنها غير ذات جوهر، وهو نفي مزدوج لا يمكن اختزاله في الإثبات المزدوج، باعتباره انفصامًا لا تعدُّدًا أو كثرة؛ فنحن نعرف أن العلاقة بين الموجودات لا تنبني على التناقض (بين الخير والشر مثلًا كما هو الأمر في التصورات الأخلاقية والقيمية الإسلامية) ﻓ «لا خير ولا شر ولكن وجود»،٨ ولا على التراتبية؛ فالعالم كله رفيع بلا وضاعة؛ ذلك أن كل حقيقة في العالم مرتبطة بحقيقة الألوهة باعتبارها الحقيقة بامتياز.
تتم معرفة الحق بالتجلي، من حيث هو حركة كشف، ومبدأ موحَّد للوجود والمعرفة. هكذا تُصبح كل المعارف العقلية والحسية والخيالية أشكالًا وصورًا مثلها مثل المرايا؛ فالذات الإلهية ناطقة، حسب ابن عربي، من كل صورة لا في كل صورة، وهو المنظور بكل عين والمسموع بكل سمع.٩ وهو يتجلَّى بما شاء كيف شاء؛ فهو متجلٍّ في كل قول ومعقول ومفهوم وموهوم، كما يقول الجيلي.١٠ إن الصور سبيل المعرفة وحاجزها في الآن نفسه، ووضعيتها الخيالية والبرزخية تلك لا تغدو نسقيةً إلا من خلال حركة التأويل، باعتباره موقفًا وجوديًّا قمينًا بالكشف عن البنية الرمزية الإشارية الثاوية وراء الصور، من جهة، وباعتباره منطبعًا أيضًا بالحيرة والمفارقة، وهو الأمر الذي يجعل من تلك الحيرة مدخلًا للفناء الصوفي؛ أي لحل معضلة علاقة الذات الصوفية بالآخر.
تشكِّل الحيرة صفةً ووضعية للإنسان الكامل (العارف): «فالكامل من عَظُمت حيرته ودامت حسرته ولم ينل مقصوده.»١١ وهي بذلك تُشير إلى الوعي الشقي للمعرفة الصوفية١٢ وبالأخص إلى الانتقال من إمكان المعرفة إلى استحالتها في صورتها المطلقة؛ فالفناء الصوفي، بهذا المعنى، وضع للذات الصوفية في مأزق ذاتيتها، وتحويل لها، في حكم الاستحالة المعرفية تلك، إلى ذات لا توجد معرفيًّا إلا في فنائها في موضوع معرفتها، من حيث هو وجود مطلق قابل للمعرفة بصوره وأسمائه ومخلوقاته وغير قابل للمعرفة بذاته؛ فدلالة الحق على ذاته ودلالته على العالم تمكِّن الصوفي من المعرفة، أما وجوده كهُوية لهُويته، فإنها تنفي عن الصوفي كل هُوية، وتنفي عن المعرفة الإمكان، وتجعل من علاقة الذات بالذات علاقة اتصال ممكن تقوم على انفصال الذات العارفة عن نفسها.

وليس هذا الانفصام سوى مدخل للاغتراب كسياحة، وبالأخص كحب مباشر للإلهي، وكتجرِبة ممكنة يتمكَّن من خلالها الصوفي من تجاوز الاستحالة الوجودية لمعرفة الوجود المطلق للذات الإلهية. وبعبارة أخرى، تتبلور هُوية الكائن الإنساني في بلورته للهُوية المعرفية للذات الإلهية. وهو لا يكتسب من ثم وعيه بهُويته كوجود إلا في خيالية ذاك الوجود وكونه صورةً وتجليًا من تجليات الحق.

الحب الإلهي والمرأة والغيرية

الانفصام والاغتراب هما اللذان يحدِّدان العلاقة بالمرأة ويؤسِّسانها؛ فالجسد الأصلي الآدمي، حسب ابن عربي، انفصم لتنجم عنه الذكورة والأنوثة. والمفاضلة الأصلية بين الذكر والأنثى عرضية لا جوهرية؛ ذلك أن آدم فرد وحواء واحد في الفرد مبطون فيه. من ثم فقوة المرأة، حسب ابن عربي، من أجل الوحدانية، أقوى من قوة الفردانية؛ ولهذا فالمرأة أقوى في ستر المحبة من الرجل؛ ولهذا كانت أقرب إلى الإجابة وأصفى، محل كل ذلك من أجل الوحدانية. وانطلاقًا من هذا الاختلاف في الفردانية والوحدانية والقوة، يفسِّر الشيخ الأكبر أن المرأة في الإرث تُخَص بقسم لأنها الأقوى ويُخص الرجل بقسمين لأنه الأضعف.١٣
هكذا تكون العلاقة الجنسية رغبةً في استعادة الجسد الأندروجيني الآدمي الأصل الفرداني المُبطن للوحدانية، فيغدو النكاح صورةً أصلية لحركة الوجود. يقول ابن عربي بهذا الصدد: «فما كمُل الوجود ولا المعرفة إلا بالعالم، ولا ظهر العالم إلا عن هذا التوجُّه الإلهي عن شيئية أعيان الممكنات بطريق المحبة للكمال الوجودي في الأعيان والمعارف، وهي حالة تشبه النكاح للتوالد (…) فكان النكاح أصلًا في الأشياء كلها، فله الإحاطة والفضل والتقدم.»١٤ لهذا كان النكاح ظاهرةً كونية تتم بين الحروف والليل والنهار والسماء والأرض، وهو بذلك عبادة للسر الإلهي.
هذه النظرة الوجودية هي ما يدفع الشيخ الأكبر إلى جعل الخنوثة الشكل الأسمى للوجود، والإنسان محاطًا بأنثيين هما المرأة والحق: «فإن الرجل مدرج بين ذات (= إلهية) ظهر عنها، وبين امرأة ظهرت عنه، فهو بين مؤنثين: تأنيث ذات وتأنيث حقيقي.»١٥ ولعل هذا الموقع الخصوصي هو الذي يبرِّر الحب الصوفي باعتباره رغبةً في الفناء في المحبوب وتحقيقًا للغيرية وتدميرًا للذات؛ فالحب الصوفي حب لسر الأنوثة لا للأنوثة بذاتها، وهو بذلك حب مزدوج للذات الإلهية، بما هو حب يجمع بين الحب الروحاني والجسماني، بما أن الله لا يُرى ولا يُعرف إلا في صورة عينية (متخيَّلة أو حسية)؛ أي في صورة تجليه.
لهذا يطرح الحب الصوفي لدى ابن عربي مسألة الذات والموضوع،١٦ من الذي يُحب وما هو ذات الحب أو موضوعه؟ فالذات تعيش وضعيتين متزاوجتين: وضعيتها في الخطاب الصوفي ووضعيتها من حيث هي خطاب. فإذا كان المحب يعيِّن ذاته محبًّا؛ فهو من ثمَّ لا يرى محبوبه بعينه كتجلٍّ وإنما بعين المحبوب. ويتحوَّل المحبوب بذلك إلى كائن مركَّب من المشهود المحسوس والمشهود الروحاني، بل تتحوَّل الذات العاشقة إلى ذات تحضر في الخطاب وتغيب في مضمونه. هذه اللعبة تدعونا إلى التفحُّص في وجهاتها باعتبار أن الضمائر اللغوية تسعى إلى تغييب هُويتها الواقعية المرجعية؛ فالغائب حاضر، والمخاطب غائب، والأنا حاضرة وقابلة للغياب في المخاطب، وعبره في الغائب؛ لذا لا وجود في الخطاب الصوفي الخاص بالعشق والفناء لأنوية ipséité متطابقة مع ذاتها؛ والهُوية الخطابية هي هُوية مزدوجة من حيث إنها ذات الخطاب وغايته في الآن نفسه١٧ وهو بتلفُّظه بالأنا لا يملأ دورًا فارغًا ولا يسعى إلى تعيين ذاته كمتلفِّظ للخطاب، وإنما يمارس استدعاءً للآخر (المحبوب ومن خلاله الذات الإلهية) ليمارس الحضور في احتجابه والغياب في حضوره. ولا أدلَّ على ذلك من النقد غير المباشر الذي يمارسه ابن عربي لدعاة الاتحاد، والذي يقدِّم من خلاله منظورًا جديدًا للعلاقة بالذات الإلهية، وينفي نفيًا قاطعًا مفهوم الاتحاد: «وأما مراتب الخلق في هذه الكنايات (موقع الأنا والأنت والهُو) فمختلفة باختلافها، وأشرفهم من كان هِجِّيره الهُو؛ فإن بعض الناس ممن لم يعرف شرف الهُو، ولا الفرق بين ذات الصور والتحول والذات المطلقة، جعل الأنا أشرف الكِيانات من أجل الاتحاد. وما عرف أن الاتحاد مُحال أصلًا، وأن المعنى الحاصل عندك من الذي تريد الاتحاد به هو الذي يقول أنا، فليس باتحاد إذن؛ فإنه الناطق منك لا أنت. فإذا قلت أنا فأنت لا هو، فإنك لا تخلو أن تقول أنا بأنانيتك أو بأنانيته. فإن قلتها بأنانيتك فأنت لا هو، وإن قلت بأنانيته فما قلت، فهو القائل أنا بأنانيته، فلا اتحاد البتة لا من طريق المعنى ولا من طريق الصورة.»١٨ من ثمَّ فالخطاب الصوفي ليس خطابًا تداوليًّا عاديًّا، وليس خطابًا مجازيًّا أو تخييليًّا (لأن ابن عربي لا يمنح مكانةً ما للبلاغي)، وإنما هو خطاب الحقيقة الخيالية. بل إن الأنا بذلك لا تعين الفرد في تفرده، وإنما في تحولاته المتعددة التي من خلالها يرغب في الإمساك بجوهر وجود أناه في علاقتها بالحضور المشهود للذات الإلهية.
إن المحب خارج عن نفسه بالكلية، وهو محو في إثبات، ولا نعوت له، وكله لمحبوبه.١٩ وفي حركة العشق هذه تتبدَّى دائرية الوجود والمعرفة مرةً أخرى؛ فالحب إدراك حسي، والمُطلق أقرب إلى المحسوسات منها إلى النظر العقلي، ومن ثم تكون وحدة الوجود أولًا وقبل كل شيء اتصالًا بين هُوية الذات والآخر الذي هو صورتها (الإنسان) من جهة، وسعي الأنا إلى أن تتحوَّل إلى ذات sujet؛ أي إلى هُوية (بالمعنى المعاصر للكلمة) من خلال تعرُّفها على نفسها؛ أي على الفقر في الهُوية الذي لا يمكنها أن تسده إلا بالتوق والشوق الروحاني لِمَا يسميه جاك لاكان الآخر الأكبر.

من الصورة إلى صورة الآخر

يقول ابن عربي: «لولا سريان الحق في الموجودات بالصورة ما كان للعالم وجود، كما أنه لولا تلك الحقائق المعقولة الكلية ما ظهر حكم في الموجودات العقلية.»٢٠ وبهذا، تتم علاقة التجلي من خلال العلاقة المرآوية بين الحق والخلق؛ «فالمتجلي له ما رأى سوى صورته في مرآة الحق، وما رأى الحق، ولا يمكن أن يراها مع علمه أنه ما رأى صورته إلا فيه كالمرآة في الشاهد، إذا رأيت الصورة فيها لا تراها، مع علمك أنك ما رأيت الصور أو صورتك إلا فيها.»٢١ إن وساطة الصورة و«مجاز» المرآة يمكِّنان ابن عربي من الربط والفصل بين الخالق ومخلوقاته؛ أي بين الذات الإلهية، باعتبار مطلقيتها واستحالة مخالطتها، من حيث هي كذلك، للكثرة والتعدُّد والمحسوسات، وبين المخلوقات من حيث هي كثرة. بل إن هذه الوساطة التي يستطيع من خلالها الحق التمكُّن من الأضداد (هو الظاهر والباطن والأول والآخر …) التي تشكِّل المدخل لأي علاقة ممكنة بينه وبين خلقه؛ إذ المرآة واسطة نشيطة وفاعلة تغدو بشكل ما الهُوية التعددية للموجود: «فهو مرآتك في رؤيتك نفسك، وأنت مرآته في رؤيته أسماءَه وظهور أحكامها وليست سوى عينه.»٢٢ «فأنت له كالصورة الجسمية لك، وهو لك كالروح المدبر لصورة جسدك. والحد يشمل الظاهر والباطن منك.»٢٣

من خلال الصورة والتجسيم-التخييل الصوفي، يستطيع ابن عربي مجاوزة ثنائية التنزيه والتجسيم، كما تم تداولها في الفكر الكلامي؛ ذلك أن تصوره للوجود من الإحكام بحيث يدخل في صلبه الشيء وضده. فإذا كانت الذات الإلهية تتصف، كما ذكرنا، بالمفارقات، فذلك أصلًا للتعبير عن مطلق وجودها:

فإن قلتَ بالتنزيه كنت مقيِّدًا
وإن قلتَ بالتشبيه كنت محدِّدًا
وإن قلت بالأمرين كنت مُسدِّدًا
وكنت إمامًا في المعارف سيِّدًا
… فما أنت هو بل أنت هو، وتراه في
عين الأمور مسرَّحًا ومقيَّدًا.٢٤
«ومن عرف ما قرَّرناه في الأعداد، وأن نفيها عين إثباتها، علم أن الحق المنزَّه هو الخلق المشبَّه، وإن كان قد تميَّز الخلق من الخالق.»٢٥ والصورة كما في لسان العرب صورة وظل وعلامة دالة، وهذا ما يجعل ابن عربي يسم في أمكنة أخرى الصورة بالظل؛ لارتباط هذا الأخير بما يرجع إليه. ﻓ «مسمى العالم هو بالنسبة إلى الحق كالظل للشخص، وهو ظل الله، وهو عين نسبة الوجود إلى العالم؛ لأن الظل موجود بلا شك في الحس …»٢٦ والصورة، بوصفها نظيرًا وظلًّا، تمكِّن من إثبات التواصل والانفصال بين الحق والخلق والله والإنسان؛ كما تمكِّن، من جهة أخرى، من انعكاسٍ مغاير يجعل المخلوق مسربًا لمعرفة وجود الخالق ودليل إثبات على وجوده في انحجابه، باعتباره كنزًا مخفيًّا كما جاء في الحديث.
تُفضي مفاهيم الصورة والظل والخيال إلى تحقيق دائرية الوجود والمعرفة لدى ابن عربي بشكل مُثير؛ فالكائنات تعيين ظلي أو صوري للحق، والحق من حيث أحدية كونه ظلًّا هو الحق؛ لأنه الواحد الأوحد، ومن حيث كثرة الصور هو العالم. من ثم، فالعالم متوهَّم، ما له وجود حقيقي، وذلك معنى الخيال. إن الحقيقة لا تضاد الخيال إلا في كونها تعيِّن مطلقية الحق، والخيال لا يضادها إلا في كونه يعيِّن الفاصل الواصل بين الحق وما يُعيِّنه، من حيث هو كذلك؛ أي العالم. «فاعلم أنك خيال، وجميع ما تُدركه ممَّا تقول فيه ليس إلا خيالًا؛ فالوجود كله خيال في خيال، والوجود الحق إنما هو الله خاصةً من حيث ذاته وعينه لا من حيث أسماؤه.»٢٧ يرتبط الخيال بالكثرة والحقيقة بالواحد، وذلكم دليل لكي يتمرأى الكثير في الواحد، والواحد في الكثير، من جهة، ولتغدو المعرفة ممكنةً من جهة أخرى. وبما أن حضرة الخيال تكون في المنام، فإن المعرفة تبعًا لذلك لا تتم إلا بالتأويل؛ أي برد الكثرة إلى مآلها؛ أي إلى الوحدة.
ولا بد هنا من أن نختم بتصور ابن عربي وتفسيره لطبيعة الاعتقاد الديني، بالنظر إلى ما يقترحه في الصورة والخيال؛ فهو يميِّز بين الذات المتعالية (الإله المطلق) وبين ما يسميه «إله المعتقدات»؛ أي الإله الذي يصنعه المعتقِد: «فما رأى أحد إلا اعتقاده سواء عرفه في كل صورة … أو عرفه في صورة مقيدة ليس غيرها.»٢٨ وأعظم مجلًى عُبد فيه الله تعالى وأعلاه «الهوى»، وهو مرتبة العارفين المتصوفة وعنه تنجم الحيرة؛ أي الضلالة.
وحقِّ الهوى إن الهوى سبب الهوى
ولولا الهوى في القلب ما عُبد الهوى
والهوى هنا إرادة المحبة، وهو سبيل إيثار الذات الإلهية على غيرها في العبادة. وهي حالة يشبِّهها ابن عربي بعبادة الصور المحسوسة: «وكذلك كل من عبد صورةً ما من صور العالم واتخذها إلهًا، ما اتخذها إلا بالهوى.»٢٩ وسواء صادفَ هذا النوعُ من العبادة أم لم يصادف الشرع، فهو من القيمة نفسها بحسب تحديده. وكل عابد أمرًا ما يقوم بتكفير من يعبد سواه. والفرق أن العارف لا يضيع في كثرة الصور فيما يضيع الوثني فيها وينسب لها الألوهة. وهو يتبع هدى الرسول، من غير أن يُنكر أن التجلي في الصور، ولا بد أن يعبده من رآه بهواه. بهذا يكون الفرق بين المتصوف والمشرك، في كون الأول يصفي الصور من كثرتها ليردَّها إلى عين جوهرها، فيما يتوه المشرك في محسوسية الصور. بيد أن هذه المشابَهة تقصد التشبيه للتفسير؛ ذلك أن ابن عربي، إن كان يقبل مبدأ الاعتقاد بالهوى، فهو يرفضه رفضًا قاطعًا حين يؤدِّي إلى الشرك. والمشرك من ثم لا يتلقَّى أي مغفرة أو رحمة.

لقد عاش ابن عربي في فترة معروفة بكثرة قلاقلها وفتنها وبمحن المسلمين فيها؛ فالأندلس عرفت منتهى الصراع بين المسيحية والإسلام، والفِرَق الإسلامية من شيعة وسنة ومعتزلة، وأشاعرة وفلاسفة ومتصوفة، قد قسَّمت الفكر الإسلامي إلى قبائل معرفية تَدَّعي كل منها حيازة الحقيقة الوُحدى. وكثرت سياحة الشيخ الأكبر وتنقلاته، فحين غادر ابن عربي الأندلس إلى المغرب فالمشرق، لم يكن يُكثر من المكوث بمكان إلا بمكة، وكأنه بذلك لم يجد في المشرق أو المغرب ما يمكن أن يتوق له المتصوف من هدوء الأحوال واتحاد الأمة والعدل، بجميع أشكاله.

وإن لذلك أثرًا في تصوره الفكري التصوفي الذي يتجاوز الثنائيات ويوفِّق، إن لم يوحِّد، بينها. وكأنه بذلك أنشأ برزخًا تتلاقى فيه جميع التوجُّهات الفكرية وتنصهر في وحدة لا تلغي الاختلاف، وفي تآلف لا ينفي التباين؛ لذا يمكن القول إن دائرية الوجود ودائرية التأويل لدى الشيخ الأكبر قد فتحت له مرةً أخرى الطريق كي يدمج كل المكونات الاعتقادية في فكره.

فبعد أن يُنحِّي الإشراكَ بحركة فكرية مزدوجة، يقوم بإدماج التوجهات الفكرية كلها في باب الاختلاف الضروري للشرائع، جاعلًا ثمة مرتبتين لا فارق بينهما في الدرجة: مرتبة نسميها الآخر الذاتي (من فِرَق ومذاهب إسلامية تتضمَّن الشيعة والفلاسفة والمتكلِّمين)، وأخرى نسميها الآخر الغيري (من مسيحية ويهودية وغيرهما).

«وقولنا إنما اختلفت التجليات لاختلاف الشرائع؛ فإن لكل شريعة طريقًا موصلة إليه سبحانه، وهي مختلفة … ولهذا اختلفت المذاهب، وكل شرع في شريعة واحدة …»٣٠ وبهذا فإنكار الأشاعرة لأطروحات المعتزلة، مثلًا، ناجم عن صورة الاعتقاد المتجلي للطرفين. وكذلك الأمر حين نتجاوز إطار الاختلافات المذهبية الإسلامية إلى الأديان الأخرى؛ فالحق يتجلَّى في كل الصور الاعتقادية على السواء، وهو ما يؤدِّي، كما ذكرنا، للحيرة والضلال. وبما أن الحيرة أصل للمعرفة، فعلى الإنسان الكامل (أي القطب) أن يرى الحق في كل المعتقدات؛ لأنها كلها تقوم على الحقيقة الإلهية المتمثِّلة في تجليه في كل الصور. ولأن الرحمة (سواء كانت وجوبًا يتصف بها الله بوصفه رحمانًا، أو رحمةً وجودية يتصف بها الله بوصفه رحيمًا) أصل في الوجود، ولأن «الكون قد نشأ من الرحمة وهي مآله في الآن نفسه، فإن الرحمة ستعم الجميع في الآخرة.»٣١ والعذاب سيصبح ثوابًا:
فلم يبقَ إلا صادق الوعد وحده
وما لوعيد الحق عينٌ تعايِن
وإن دخلوا دار الشقاء فإنهم
على لذة فيها نعيمٌ مباين
نعيم جنان الخلد فالأمر واحد
وبينهما عند التجلي تباين
يسمَّى عذابًا من عذوبة طعمه
وذاك له كالقشر والقشر صاين

من ثم يكون التجاوز عن الوعيد ممكنًا بما أن الرحمة الإلهية أصل الوجود ومنتهاه؛ فعذاب النار مؤقت؛ لأن الرحمة تحوِّل العذاب إلى عذوبة مثلما يلتذُّ الأجرب بحك جلده.

ويفهم ابن عربي في هذا السياق الآية وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ باعتبارها حكمًا مطلقًا؛ فكل عابد لله لا يعبده إلا في الحقيقة، وهو يعتقد فيه في الصورة التي تجلَّى له بها باعتبارها ألوهة، ومن ثم فهو يعبد اعتقاده الألوهية في تلك الصورة. وكأننا بابن عربي يرتكز هنا على تصور جبري للاعتقاد يمكِّنه من تعضيد دائرية الرحمة الإلهية. وكما أن الضلال عارض، فالعذاب والغضب الإلهي أيضًا عارضان. والمآل إلى الرحمة التي تسع كل شيء أسبق وأشمل. ولا يخفى أن هذا التصور يتناغم بشكل واضح مع ما ذكرناه من مجاوزة الثنائيات التضادِّية التي قد يتأسس عليها العالم من خير وشر. فالتصوف بهذا المعنى ديانة الحب الأكبر التي تنصهر فيها المتناقضات وتتعايش في شكل تأويلها الجديد؛ لذلك ينتهي ابن عربي ومعه الإنسان الكامل والعارف إلى وجه جديد للتدين والاعتقاد تلخِّصه هذه الأبيات من تُرجمان الأشواق:٣٢
لقد صار قلبي قابلًا كلَّ صورة
فمرعى لغزلان ودير لرهبانِ
وبيت لأوثان وكعبة طائف
وألواح توراة ومصحف قرآنِ
أدين بدين الحب أنَّى توجَّهتْ
ركائبه فالحب ديني وإيماني

إنها نظرة تصلح أكثر لعالم اليوم الممزَّق بين أديان العولمة الجديدة، كإمكان مقاومة للعرقية والعصبية الاعتقادية بجميع أشكالها، والتي لا تزال إلى اليوم تُشعل فتيلَ الحروب في مناطق شتى من العالم.

١  محيي الدين بن عربي، الفتوحات المكية، ج٣، دار صادر، بيروت ب. ت.، ص١٩٩.
٢  محيي الدين بن عربي، فصوص الحكم، تحقيق أبو العلاء عفيفي، ط٢، دار الكتاب العربي، بيروت، ص٧٣.
٣  محيي الدين بن عربي، الفتوحات المكية، ج٤، ص٢٠٨.
٤  المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
٥  محيي الدين بن عربي، الفتوحات المكية، ج١، ص٣٠٤؛ وج٣، ص٥١٨.
٦  محيي الدين بن عربي، فصوص الحكم، ص٧٩.
٧  نفسه، ص٨١.
٨  محيي الدين بن عربي، رسائل ابن عربي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ب. ت.، كتاب القطب، ج٢، ص٢.
٩  الفتوحات المكية، ج٢٢، ص٦٦١.
١٠  عبد الكريم الجيلي، الإنسان الكامل، ج٢، ص٨، والفتوحات المكية، ج٢، ص٢٣١.
١١  محيي الدين بن عربي، الفتوحات المكية، ج٢، ص٢١٢.
١٢  منصف عبد الحق، الكتابة والتجربة الصوفية، منشورات عكاظ، الرباط، ص٢٥٥.
١٣  محيي الدين بن عربي، رسائل ابن عربي، كتاب الألف، مرجع مذكور، ص٩.
١٤  محيي الدين بن عربي، الفتوحات المكية، ج٢، ص١٦٧.
١٥  محيي الدين بن عربي، فصوص الحكم، ج٢، ص٢٢٠.
١٦  Henri Corbin, L’Imagination créatrice dans le soufisme d’Ibn Arabi, Flammarion, Paris, 1977, p. 120.
حصل بعد سنوات من إتمام هذه الدراسة أن قمنا بترجمة هذا الكتاب بعنوان: هنري كوربان، الخيال الخلاق في تصوف ابن عربي، ط١، منشورات مرسم الرباط، ٢٠٠٦م؛ ط٢، منشورات الجمل، بيروت، ٢٠٠٨م.
١٧  Paul Ricoeur, “L’identité narrative”, in Esprit, sp. Ricoeur, n° 7-8, juillet-août 1988, p. 298.
١٨  محيي الدين بن عربي، رسائل ابن عربي، مرجع مذكور، كتاب الياء، ص٥.
١٩  محيي الدين بن عربي، الفتوحات المكية، ج٢، ص٣٢٠ وما يليها.
٢٠  محيي الدين بن عربي، فصوص الحكم، ص٥٥.
٢١  نفسه، ص٦١.
٢٢  نفسه، ص٦٢.
٢٣  نفسه، ص٦٩.
٢٤  نفسه، ص٧٠.
٢٥  نفسه، ص٧٨.
٢٦  نفسه، ص١٠١.
٢٧  نفسه، ص١٠٤.
٢٨  محيي الدين بن عربي، الفتوحات المكية ج٣، ص١٣٢.
٢٩  محيي الدين بن عربي، فصوص الحكم، ص١٩٥.
٣٠  محيي الدين بن عربي، الفتوحات المكية، ج١، ص٢٦٦.
٣١  المرجع نفسه، ج٢، ص١٢١.
٣٢  محيي الدين بن عربي، ترجمان الأشواق، دار صادر، بيروت، ١٩٦٦م، ص٤٣، ٢٠٠١.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥