ولا شك أن الرحلة السفارية تشكِّل تجربةً وجودية خصوصية، لا سيما إذا كانت الرحلة
الاستكشافية الأولى لصاحبها، كما أنها تشكِّل، من ناحية أخرى، اختبارًا متعدِّدًا للقدرات
الدبلوماسية لصاحبها ولمؤهلاته في رصد خصوصيات الآخر من غير تخلٍّ عن التمحيص، ولقدراته
على بلورة نص يجمع بين الوصف والتحليل والرصد والمتعة الأدبية في الآن نفسه. وبما أن
المتعة الأدبية تكون مزدوجة؛ إذ هي تتصل بالذات الحاكية وممكناتها التعبيرية وبالذات
المتلقية، فإنها تنْبني دلاليًّا وجماليًّا على مجموعة من العناصر المشتركة المتواترة
والواردة في أغلب هذه الرحلات، ونعني بها: هيمنة الوصف والتعجُّب، والمقارنة بين الأنا
والآخر، وغيرها من العناصر التي تشكِّل البنية الدلالية للرحلة، السفارية منها
بالأخص.
الجسد الشخصي وجسد الآخر: المرايا المتقابلة
حين يقتحم الرحَّالة فضاء الآخر يكون الجسد مكوِّنًا محوريًّا من مكونات العلاقة
البصرية، بيد أن الجسد الرائي يكون هو نفسه جسدًا مرئيًّا. والعلاقة الغرابية بين
الجسد الشخصي وجسد الآخر تخضع لمجموعة من المحددات المتعالقة التي يتداخل فيها
الأنطولوجي بالنفسي، بالأنثروبولوجي
٤ من ثم، إذا كان رحالة من قبيل ابن عثمان المكناسي يصمت عن هذا الجانب
ويُغفله؛ فذلك لأن بلاغة الخطاب في «الإكسير في فكاك الأسير» تغدو آسرةً للإحساسات
الذاتية من جهة، وكابتةً لنظرة الآخر من جهة أخرى. وهذا الصمت الذي يتحوَّل أحيانًا إلى
ضرب من الكذب، لا يسرد من الرحلة إلا ما يكون في خدمة مقاصدها المتمثِّلة في تمجيد
السلطان وتعظيم الإسلام، بحيث يلاحظ القارئ أن كل من يصادفهم يبدءون بتبجيل سلطان
ليس بسلطانهم. وهكذا يتحوَّل خطاب الرحلة منذ البدء إلى خطاب أيديولوجي عاقل ينطلق
مسبقًا من كون الرحلة تتم في بلاد كانت بلاد إسلام ولا يمكن إلا أن تصير يومًا بلاد
إسلام؛ لأن ذلك قدرها. إنه خطاب الفقيه الدبلوماسي الذي يعتبر أن بلاد المغرب لها
شرعية تاريخية في أماكن لا توجد إلا بمحض الصدفة التاريخية، وأن المصير التاريخي لا
يمكن إلا أن يكون عودة الإسلام لتلك البلاد. إن هذه النظرة الطوباوية هي التي كانت
حدَّدت سياسيًّا مثلًا علاقة السلطان مولاي إسماعيل بلويس الرابع عشر ملك فرنسا، وهي
من ثم التي تجعل الوصف في الرحلة ديناميًّا لأنه يتغيَّر بتغيُّر المناظر والمواطن
والأماكن؛ فيما يكون السرد ذا طابع سكوني لأنه لا يروي إلا المتواتر والمتكرِّر في
الاستقبالات التي تتم بالشكل التالي عادة: خروج حاكم المدينة وأهلها، استقبال الوفد
المغربي بالرقص والموسيقى، ثم قيادته إلى مكان إقامته.
بيد أن هذه المفارقة التي تتم بين الرغبة الأيديولوجية والمهمة الوصفية الناجمة
عن القوة السياسية التي كان المغرب لا يزال يتمتَّع بها، باعتبار جنابه المهاب وموقعه
في الخريطة الجيوسياسية لتلك الفترة (أواخر القرن الثامن عشر)، سوف تتحلَّل لصالح
النظرة التي تغيِّب السياسي لصالح منطق الرحلة الاستكشافي نفسه، بدءًا من رحلة
الصفَّار في منتصف القرن التاسع عشر وصولًا إلى رحلة الحجوي في بدايات القرن
العشرين. هنا سوف يتوكَّد التقدم التكنولوجي للغرب وغلبته السياسية وهو في عز مرحلته
الإمبريالية، بعد أن استولت فرنسا على الجزائر وصارت القوى الأوروبية تسعى لتقسيم
مناطق نفوذها في شرق المتوسط وغربه وفي قلب أفريقيا جنوب الصحراء.
إن هذا الانتقال من الموقع النِّدِّي، إلى حد ما، إلى موقع لا يمكن فيه قياس
التأخر بالتقدم، هو ما سيُحرِّر نظرة الرحالة ويفجِّر طاقته الاستكشافية ويعزِّز من ناحية
أخرى «رغبته التقدمية» التي يُترجمها الإعجاب والانبهار بالتنظيم الاجتماعي الأوروبي
بالرغم من عوائق الدين والمقارنات الناجمة عنها.
تعتمد مقاربتنا هنا خمس رحلات سفارية مختلفة في الزمان والمكان:
-
الإكسير في فكاك الأسير
٥
لمحمد بن عثمان المكناسي إلى إسبانيا سنة ١٧٧٩م؛
-
الرحلة التطوانية
٦
لمحمد الصفَّار إلى فرنسا سنة ١٨٤٥-١٨٤٦م.
-
تحفة الملك العزيز بمملكة باريس
٧
لإدريس بن محمد بن إدريس العمراوي سنة ١٨٦٠م.
-
الرحلة الأوروبية
٨
لمحمد بن الحسن الحجوي لفرنسا وإنجلترا سنة ١٩١٩م؛
-
أسبوع في باريس
٩
لمحمد بن عبد السلام السايح، ١٩٢٢م.
ولا شك أن اختيار هذه الرحلات من دون غيرها يتمثَّل في كونها تمتد على مُدة تقارب
القرنين من الزمن، وأنها أهم الرحلات السفارية إلى بلاد أوروبا، وتمثِّل من ناحية أخرى
تطوُّر الرؤية الرحلية للآخر، ومسبارًا لتحولات الوعي بالعلاقة بهذا الآخر الغربي
الذي عاش تطوراته الحاسمة في هذه المرحلة بالضبط.
تتشكَّل كل رحلة من هذه الرحلات في نسيجها الإخباري والوصفي والحكائي والفكري
بالعلاقة مع ضربين من المعطيات: المرجعية الذاتية من حيث هي بؤرة استقاء للمعلومات،
واختيارها والتركيز على بعضها، وتقديم عناصرها العاطفية والإدراكية؛ وهي مرجعية
تغدو أحيانًا نافرة وبارزة بمقدار انفلاتها من المرجعية السياسية المتحكِّمة في
الرحلة وفي طبيعتها، ثم المرجعية السياسية والدبلوماسية؛ فالرحلة السفارية رحلة
تخضع لمقاصد وغايات، الهدف منها المفاوضة (كما هو حال رحلة المكناسي المتعلِّقة
بالتفاوض في افتداء الأسرى الجزائريين لدى الملك الإسباني كارلوس الثالث)، أو مهمة
التواصل مع الدول الطامعة في الاستيلاء على المغرب خاصةً بعد هزيمة تطوان سنة ١٨٦٠م
واحتلال الإسبان للمدينة وإضافتها إلى مدينتَي سبتة ومليلية المحتلتين من قبل؛ قصد
الحفاظ على استقلال البلاد (وتلك كانت مهمة الوزير ابن إدريس العمراوي سنة ١٨٦٠م في
بعثته إلى نابليون الثالث لتسليمه رسالةً من السلطان المغربي مولاي عبد الرحمن)، أو
مهمة الصلح والهُدنة مع الفرنسيين الذين كانت مطامعهم تزداد في البلاد مع احتلال
الجزائر سنة ١٨٣٠م (وتلك كانت مهمة الوزير أشعاع الذي رافقه الكاتب محمد الصفَّار
إلى فرنسا في مهمة دبلوماسية سنة ١٨٤٥م). أما رحلة محمد الحجوي فكانت للمشاركة في
الاحتفال بالعيد الوطني الفرنسي سنة ١٩١٩م، وهي تمثيلية فقط. فيما جاءت رحلة السايح
مساهَمةً من المغرب في اللجنة التي ستُشرف على دراسة مسجد باريس وتخطيطه.
إن المفارقة الأساس التي تخضع لها الرحلة السفارية هي هذا الصراع المعلن أو
المضمر بين المرجعيتين، السياسية والدبلوماسية، ومن ثم الشروخ التي تظهر هنا وهناك
في مفهوم الهُوية، الذاتية منها والوطنية. وهي شروخ انفتاحية أو انكفائية حسب الموقع
والغائية اللتين ينطلق منهما المؤلف، بل هي شروخ محرِّرة لطبيعة الخطاب، بما أنها
تكشف عن الظاهر والباطن في المرئي واللامرئي والمكبوت والاستيهامي لحدس القارئ
الفطن. وللتوكيد على حركية هذه المفارقة واشتغالها، نُورد مقارنةً أولية سوف نتوسَّع
فيها لاحقًا بين رؤية المكناسي في أواخر القرن الثامن عشر وبين رؤية الصفَّار في
أواسط القرن التاسع عشر؛ فالمكناسي كان مسئولًا كبيرًا في المخزن (الإدارة
السلطانية) المغربي، وهذه أول رحلة له إلى بلاد الإفرنج، وقد أتبعها برحلتين إلى
بلاد تركية وبلاد مالطة في مهمات مماثلة.
١٠ إنه رجل المخزن (الإدارة المغربية) بامتياز، والإداري المحنَّك والفقيه
المثقَّف العارف بالتاريخ، والمتمثِّل للموقف السياسي الذي ينطلق منه والمهام المنوطة
به. ومن ثم، فرحلته رغب فيها أن تتحلَّى بموضوعية تتلاشى فيها ذاته وحواسه لكيلا
تظهر منها إلا شخصيته الخادمة والممثلة تمثيلًا مُطلقًا للمنظور السلطاني في كل
وجهاته. وهذه الرصانة تؤثِّر سلبًا على الحكي الذي يتقلَّص كثيرًا لصالح الوصف، بحيث
نجد أنفسنا أمام حكي محجوز ووصف شبه تقني للمُعطَيَات البصرية التي تلتقطها العين؛
الأمر الذي يجعل من هذه الرحلة ذات استراتيجية خطابية محكمة، وأشبه بالتقرير الذي
يوجَّه مباشرةً لقراءة السلطان. وهو أيضًا الأمر الذي يجعل من اللحظات الذاتية لحظات
للدهشة والعجب بامتياز، تتجاوز قدرات الذات على كتم ذلك الإحساس؛ لأنه خير مُبَلِّغ
لعظمة المرئي أو جانبه المدهش. من ناحية أخرى، فإن الرحلة تبعًا لذلك تتسم بثلاث
سِمات أساسية ناجمة عن هذه الاستراتيجية الخطابية: التكرار في الحكي، وهو التعبير
الأسمى عن طابعه المحجوز، وتكرار الرغبات الأيديولوجية النابعة من صور وقوالب جاهزة
ناجمة عن الموقف الديني أو التاريخي، وكبح جماح التصورات الاجتماعية المعبِّرة عن
الموقف المسبق فيما يخص العوائد الاجتماعية للآخر، بحيث يذكرها المؤلف في الغالب
باعتبارها عوائد غير قابلة للتقويم. ولا غرو في كل هذا؛ فالرحلة جاءت في وقت كان
فيه المغرب لا يزال يتمتَّع بقوة كبرى ويُحسب له ألف حساب في المنطقة؛ ممَّا جعل السفير
يتعامل بالنِّدية المطلوبة في مثل هذه الظروف.
بالمقابل فإن محمد الصفَّار صاحب الرحلة التطوانية مُرافق للسفير الذي كان صديقًا
له وكان مثله في عز الشباب. وهو أديب وفقيه متفتِّح على معطيات العصر، وسبق له أن
اطلع على رحلة الطهطاوي. وهي السمات التي جعلت أسلوبه أقل انغلاقًا، وبلاغته أكثر
شخصية، وأحاسيسه أشد انطلاقًا، بحيث نجد نفسنا، في العديد من مقاطع الرحلة، أمام نص
أدبي له مُتعته الحكائية ونكهته الخاصة، بل هو الأمر الذي جعل الصفَّار يُبين عن
دهشته وإعجابه بما يراه ويُعاينه، ويصف ويحكي بكامل الحرية والانطلاق أحيانًا عن
مشاهداته، بل يتجاوز ذلك إلى الإغراق في الذاتية وكأنه يكتب نصًّا تخييليًّا
حديثًا.
حين يلج المغربي بلد الآخر، لأول مرة، يجد نفسه أمام مظاهر طبيعية وتقنية
واجتماعية ومظهرية تُثير في نفسه العجب، وتمس مناحي إدراكه وقوالبه الجاهزة التي
ورثها من عالمه، والتي يحملها معه في جسده ووعيه وبصره. ولا يخفى أن الرحَّالة مهما
بلغ وعيُه الحضاري والثقافي ومعارفه عن الأمم الأخرى التي اكتسبها من الكتب
والأخبار، لا يمكن إلا أن يعيش الواقعة مباشرةً في حيويتها الآسرة. وبهذا الصدد،
يمكننا أن نذكِّر بأن رحالةً من قبيل ابن عثمان المكناسي، يُبين عن استراتيجية تختلف
بالغ الاختلاف عن استراتيجية الصفَّار مثلًا، بالرغم من أن ما يفصل بين رحلتيهما لا
ينيف على النصف قرن إلا بقليل.
يتخذ المكناسي منذ البدء وضعية الملاحظ الذي يبدو أنه خبر مظهريات الآخر، بحيث إن
حكيه ووصفه، في هذا المضمار، يُفصح عن نظرة تعتبر التبرج واختلاط الرجال والنساء في
الحياة العامة والرقص النسائي أو الثنائي أمرًا يدخل بكل بساطة في عوائدهم. علاوةً
على ذلك، فإن أمورًا من قبيل الرقص مثلًا، تأتي في سياق يعبِّر عن الحفاوة والاهتمام
والتقدير الرسمي لسفير السلطان. ومن هذا المنظور، فإن أي انتقاد لذلك يكون من باب
الخطأ الدبلوماسي والفجاجة التي لا تليق بالسياق الذي تتم فيه الرحلة. وحتى يحافظ
على هذا التوازن بين موقفه الأخلاقي وموقفه الديبلوماسي، نراه يعلن عن استنكاره
للاستعراض الراقص ولتبرج النساء وقَبوله المُكرَه لذلك، وهو الاستنكار الذي لن يكرِّره
خلال فصول الرحلة: «وبعد العشاء، اجتمع بالدار المذكورة نساء أعيان البلد والضامات
(
Dames) بقصد أن يُسلِّمن علينا، فأخبرني الحاكم،
فتلكَّأت عن الخروج إليهن لأنه لحقنا من الركوب في الكدش مشقة من كثرة حركاته لعدم
إيلافنا ذلك، فألحَّ علينا الحاكم، فلم يمكنني إلا إسعافه، فخرجت فإذا بجمع كثير من
النساء قد أظهرن زينتهن وتبرُّجهن تبرُّج الجاهلية الأولى، فأظهرن من الفرح والسرور
والأدب ما قضينا منه العجب، وقابلناهن بما يجب وانصرفن.»
١١
تتكرَّر هذه المشاهد وتتنوَّع تفاصيلها؛ لأن الرحلة الرسمية للسفير المغربي كانت
تقابَل في كل مدينة وبأمر من الملك الإسباني بالحفاوة الرسمية اللازمة. بيد أن هذا
الحكم لا يتكرَّر، إنه أشبه بتبرئة الذمة من شهود المنكر الذي سيُلاحق السفير رغمًا
عنه طيلة سفره. لكنَّ ما لا يُفصح عنه السفير هو أن هذه التجمهرات والحشود كان وراءها
أيضًا الفضول إلى التعرُّف على هؤلاء الأجانب الآتين من بلاد الإسلام، بمظهرهم
وسلوكهم.
من ناحية أخرى، فإن نظرة العربي إلى آخره تتسم بكل مياسم الهُوية الوحشية
١٢ لدى ابن عثمان المكناسي الذي لا يزال يرفض وجود الدولة الإسبانية. وحين
يتحدَّث عن مدينة من المدن التي عاش فيها المسلمون يُردفها بقوله المسكوك: «أعادها
الله دار إسلام.» أما لدى الرحالة الآخرين فإن الظروف الجيوسياسية الجديدة قد
جعلتهم أكثر انفتاحًا بحيث إذا أنكروا مجالًا واستنكروه، فإنهم مع ذلك يقبلون
بمظاهر كثيرة سنأتي على ذكرها.
يشكِّل الجسدي والمظهري إذن مجال السجال مع الآخر، ومرتع الهُوية العمياء والاختلاف
الوحشي، ومعايير القبح والجمال لا تخرج عن هذا الإطار؛ فابن إدريس العمراوي يتطرق
لهذا المضمار مُدخلًا إياه في باب النادرة: «(نادرة) لمَّا وصلنا هذه المدينة [ليون]،
رأينا شخصًا جميل الصورة، كامل الأوصاف الظاهرة، خفيف الشمائل، كحيل الشعر والطرف،
عليه سيما اللطافة والظرف كأنه من أبناء العرب. وكُنا لم نرَ وجهًا جميلًا منذ دخلنا
برَّ النصارى، فأخذ بأبصار جميع رفقائنا، وأشاروا بأن أنظم لهم فيه غزلًا يتخذونه
دعابةً وهزلًا، فأنشدت بديهةً وإن كنت لست من فرسان تلك الجهة:
رأيت غزالًا بباب أسير
يصيد القلوب بلحظ كسير
رماني بسهم مِنَ اجفانه
فغادر قلبي لديه أسير
فيا أيها الركب قولوا له
إذا ضاع قلبي بماذا أسير؟»
١٣
الجسدي إذن مضمار إطلاق العِنان للذاتية التي تُخرج الرحلة من طابعها الجاف
وتختلسها من استراتيجيتها الخطابية ومعانيها الموجَّهة. بيد أن هذه الذاتية ليست
لتنزاح عن معايير الأنموذج الجمالي العربي في صيغته الثقافية المقنَّنة، وفي نماذجه
التي بلورها من خلال الشعر والأخبار.
١٤ من جهة أخرى فإن الحديث هنا لا يتم عن الأنثى وإنما عن كِيان قد يكون
بالأحرى ذكوريًّا (الغلام) أو في أحسن الأحوال عن كِيان جمالي بلاغي تخييلي ينصاع من
خلال الذاكرة الثقافية. وقد أبان العمراوي منذ بداية الرحلة عن هذا الطابع الذي
يحوِّل الرحلة إلى مجال أدبي وإلى متعة مزدوجة تلتقط الجدي والهازل، الذاتي
والموضوعي؛ فهو ينصاع للتغني بالغلام متخذًا في ذلك الترجمان المرافق له ذريعة،
مبينًا هنا وهناك عن طاقة شعرية تبتغي المتعة البصرية والتخييلية، كما نلاحظ ذلك
هنا: «وقد كان يُنشدنا أشعارًا أدبية ونوادر مستظرفة. أنشدنا يومًا بيتين نسبهما
للشيخ البكري وقد ناولنا خادم ذو لحية كأسًا من القهوة:
قهوة بنٍّ لا بأس بها
لكن ساقيها
ملتحٍ
قولوا لذاك الظبي يأتي بها
لأن هذا الشخص لا
يستحي
وكان معنا مرةً في الطريق فرأى امرأةً حسناء وأطال النظر إليها فظن أننا فطنَّا له،
فأنشد معتذرًا:
أميل إلى الشكل الظريف إذا بدا
أمتِّع طرفي فيه ثم أردِّده
وما مقصدي فعل القبيح وإنما
أُشاهد صنع الله ثم أوحِّده
وطلب مني تخميس هذين البيتين وألحَّ في ذلك فقلت مساعَدةً له:
غرامي صحيح في الجمال فمن غدا
يلوم أهالي الذوق كان مفنِّدًا
وعنديَ حب لا يزال مجدَّدًا
أميل إلى الشكل الظريف إذا بدا
أمتِّع فيه الطرف ثم أردِّده
ومن يستطيع الصبر في الحب عِندما
يقابله خد يماثل عَندمَا
بلى مذهبي أني أرى ذاك مغنمَا
وما مقصدي فعل القبيح وإنما
أشاهد صنع الله ثم أوحِّده»
١٥
لا شك في أن هذه الذاكرة الشعرية واللعبة النظمية، الغرض منها، من جهة، بث
المستملحات في الرحلة، وتكسير طابعها الكرونولوجي بتبيان ثقافة المؤلف وقدراته
الشعرية والبلاغية، ومن ناحية أخرى الصراع الثقافي مع الآخر حتى لو كان مستعربًا.
١٦ مثل هذا الترجمان، وفي حقل يُفترض في العربي أن يتقنه ويبرع فيه لأن
ذلك مصدر لفخره ونخوته. ولا يخرج الصفَّار عن هذا الإطار؛ إذ يؤكد أفضلية هذا
الأنموذج الجمالي على الأنموذج الأوروبي؛ فبعد أن وصف جمال نساء باريس، يستفيض في
إطار المَلاحة العربية والخمار الأسود في سرد نادرة متداوَلة في كتب الأخبار، وينتهي
إلى التعريف بطبيعة العشق والعلاقات بين الرجال والنساء لديهم من غير أي استنكار.
بل إننا نستشف لديه ضربًا من الإعجاب الخفي بذلك: «ولنسائها نصيب من الجمال والبياض
وخصب البدن. وسواد العين والحاجبين معدوم عندهم، والنادر لا حكم له؛ فلذلك يزين
نساءهم لبسُ السواد ويواتيهن أكثر من غيره من الألوان، ويحسن أن يُنشَد هنا في
ذلك:
رأيتكِ في السواد فقلتُ بدر
بدا في ظلمة الليل
البهيم
وألقيتِ السواد فقلتُ شمس
محت بشعاعها ضوء
النجوم
(…) وليس عندهم الغزل والتشبيب والتعشُّق إلا بالنساء، ولا يميلون إلى الغلمان
والأحداث، وذلك عندهم عيب كبير، وفيه العقوبة ولو كان برضاهما، بخلاف عشق النساء
والخلوة بهن فإن ذلك إذا كان عن رضًى منها لا يتعرَّض لهما متعرِّض، ولا يلزم فيه شيء
عندهم …»
١٧ إن معايير الحسن والجمال كما يتمثَّلها الرحَّالة ليست مطلقة؛ فهنا وهناك
يتخلَّى العربي عن مخزونه الجمالي ليرى بالعين المجردة. والحقيقة أن هذا الانفتاح قد
يكون نتيجةً للمسافة التاريخية بين رحلة الحجوي مثلًا ورحلة الصفَّار، مع ما استجد
من حماية للمغرب، واختلاط بالغربيين في مُجمل البلاد. ولعل ما يُعلِن عنه الحجوي من
ثناء مطلق على جمال باريس وأهلها ما يؤكِّد قولنا: «فسبحان من جمع الجمال وتجلَّى عليها
بالجمال الدنيوي الظاهر، في كل شيء يراه الناظر؛ فأهلها ذوو ذوق لطيف مصيب، لا
يميلون في أزيائهم ولباسهم ومنازلهم داخلها وخارجها إلا للجميل، فلا يقع طرفك ولا
يلمح ناظرك إلا الجمال في وجوه السكان وأخلاقهم ولباسهم ودُورهم وحوانيتهم …»
١٨ لكنَّ هذا الإطراء الزائد ما يلبث أن يترك المكان لبعض التحفُّظ؛ فارتياد
الباريسيين للملاهي والمسارح والأوبرات، يحمل في نظر المؤلف خلق شروط الفحش، وهو ما
يتنافى مع «الذوق العربي». وتلك نتيجة «الرفه الزائد والحرية المطلقة، وعدم التمسك
بأهداب الدين، ولا سيما النساء، فقد خلعن رِبقة الحياء وتبرَّجن تبرجًا لا يُتصور فوقه
إلا سِفاد الحيوانات في الطرق جهارًا … فهذا شيء أفسد الأخلاق، ولا تستحسنه الأذواق،
ولا يقول به طبع ولا عقل ولا شرع.»
١٩
تنبني هذه المفارقة على عدم إدراك أن الحضارة الغربية كلية في تطوراتها، وأن
الحرية، على الأقل الاجتماعية منها، التي تعيشها النساء الغربيات، مرتبطة ارتباطًا
وثيقًا بتطور العقليات ومن ثم بتطور العلائق الاجتماعية. وهي المفارقة نفسها التي
نهل منها سابقًا محمد بن إدريس العمراوي ستين سنةً قبل ذلك. وكأننا هنا أمام ثوابت
أخلاقية لم يؤثِّر عليها تطور العلاقة بالآخر والقدرة على تفهُّم ارتباط المظهريات
بالسلوكيات الاجتماعية عمومًا: «ويكفي في تقبيح سيرتهم وخبث سريرتهم غلبة النساء
عليهم وجريهن مطلقات الأعنة في ميادين الفجور والفواحش من غير أن يقدر أحد على
منعهن ممَّا يُرِدنه من ذلك، ولا تعنيفهن. وطاعة النصارى [لاحظ التعميم الديني!]
لنسائهم ومبالغتهم في اتباع مُرادهن أشهر من أن تُذكَر … حتى إنهم يقولون في أمثالهم:
باريس جنة النساء … والمرأة هي رئيسة البيت والرجل تابع لها …»
٢٠ وهنا يمتزج وصف العوائد مع الاستنكار بحيث يقدِّم الرحالة ملخصًا لِمَا
عرفه عن وضعية النساء الاجتماعية، من غير أن يُسعِفه الوقت للتطرق لحقوقهن الاجتماعية
التي كانت آنذاك لا تزال في مرحلة بدائية.
الجسد الذاتي في مرآة الآخر
إذا كان المكناسي يقدِّم لنا تجمهر الناس حول موكبه السفاري في شكل احتفاء، كما
ذكرنا ذلك، فهو لم يميِّز، أو لم يُرِد لنا أن نميِّز، بين الجانب الاحتفائي والجانب
الفضولي الفرجوي في هذا التجمهر الذي كان يحوم حوله عند دخوله أي مدينة إسبانية.
هذا الأمر هو ما سينتبه إليه ويشير إليه بكل وضوح ابن إدريس العمراوي حين خرج الجمع
للنزهة: «وقد داروا بنا في ذلك الجنان على كبره ونحن نمشي على أرجلنا على أكثر من
ثلاثين محلًّا من هذه المياه، كل محل في نوع، وما أكملناها حتى تعبنا تعبًا لم نرَ
مثله في هذه السفرة. وانضم إلى ذلك ما غشينا هناك من الآدمي ينظرون إلينا ويتعجَّبون
من هيئاتنا؛ فقد كان يتبعنا هناك من المتفرجين أكثر من ثلاثة آلاف بين رجال ونساء،
والنساء أكثر زيادةً على من لم يتبعنا منهم، حتى كُنا نرى الجنان (الحديقة) يموج بهم
موجًا. وأينما ذهبنا تبعونا. وقد كان معنا نحو العشرين من العسكر، يفتحون لنا
الطريق في وسط الناس ويُدافعون هنا، ولولاهم لهلكنا من شدة الازدحام.»
٢١ وإذن، فإن هذه اللعبة المرآوية تمكِّن من الوقوف على خاصية مزدوجة، تتعلَّق
بأن كل جسد راءٍ هو جسد مرئي،
٢٢ ومن ثم فإن الرحالة الذي يسجِّل كل ما تقع عليه عينه هو أيضًا موضوع
للتفحُّص من قِبَل الآخر. إنه الجسد الشخصي الذي يتحوَّل إلى حكاية تحت نظرة الآخر؛
٢٣ ففي هذه الفترة بالضبط، كانت الكازيطات (المجلات والجرائد) تُتابع بفضول
كبير هذه الرحلات الرسمية، وكانت تنشر استطلاعات مصورةً بتقنية الحفر
(
gravure) عن تفاصيلها، وتقدِّم كذلك بورتريهات عن
شخصياتها الرئيسة، كما تنشر كل ما يتعلق بتنقلاتها؛ فالعلاقة بالآخر لا تكون أبدًا
أحادية الجانب، خاصةً أن الرحلات الرسمية تتم بمظهرية تقليدية يحافظ فيها كل واحد
على طابعه كشخصية تلعب في مسرح هو مسرح العلاقات الدبلوماسية.
بهذا المعنى يغدو جسد الغريب ومظهره جسدًا بلاغيًّا؛ لأنه يخضع لعمليات مجازية
تبتغي تجميل الصورة ومنحها طابعًا مؤكدًا. وهو في عين الآخر يغدو جسدًا خياليًّا أو
على الأقل غرابيًّا (
exotique) لا يتم التآلف معه
إلا بالمُبادلات والأسفار والكتابات والتواصل الحضاري الشامل. لنلاحظ كيف تتبدَّى هذه
الغرابية، لتنتهي بأنْ تُحوَّل العلاقة السياسية إلى علاقة شبه فنطاسية: «وقد أخبرنا
ترجمان كان معنا أنه سمع امرأتين منهم تتحدثان في شأننا، فسألتاه عما يأكل هؤلاء
الناس، وهل أكلهم مثل أكلنا، فأجابهما رجل كان يسمعهما، بأنهم يأكلون الآدمي، وأن
سلطاننا يُهدي لهم في كل يوم امرأةً يأكلونها، فتعجَّبنا من ذلك. وسبب اجتماع هذا العدد
هناك كون ذلك يوم الأحد وهو يوم عطلة …»
٢٤ وهكذا فإن الغريب يتحوَّل إلى موطن للغرابة، ويغدو التمركز حول الذات
الغربية من شأنه أن يرمي ما هو غير ذلك في حضن الوحشية والبدائية.
يتحول الغريب إذن إلى فرجة حية تغذِّي، من جهة، ذلك التمركز لدى الآخر، وتفتح في
الآن نفسه عيونه على وجوده في اختلافه غير القابل للاختزال. من ثم، فإن المتخيَّل
الغرابي، الذي يتغذَّى من سلم التحضر، يجعل من الآخر آخر مطلقًا، وهو ما سماه عبد
الكبير الخطيبي اختلافًا متوحشًا. إنه متوحش لأنه يجعل الهُوة بين الذات والآخر غير
قابلة للتفاوض. ومن غريب الأمور أن هذه الدهشة الغرابية استمرت عقودًا بعد ذلك ولم
تهدأ حِدتها، بحيث إن محمد بن الحسن الحجوي، سوف يُبدي امتعاضه من هذه الظاهرة ويبدي
سخريته اللاذعة من هذه النظرة، وذلك بعد عَقدين من بداية القرن العشرين: «ولما كنا في
باريز لم يكن الناس يجتمعون علينا، أما هؤلاء (أهل ألزاسيا) فجعلونا عجبًا، وكانوا
يجتمعون لرؤيتنا رجالًا ونساءً وصبيانًا، وأكثروا في ذلك ممَّا يدل على خفة أذهانهم،
كأن الله ما خلق بني آدم إلا ليلبسوا لباسهم، وكأن آدم خرج من الجنة بلباس أوروبا،
مع أنهم أقل حذقًا في اللباس من الفرنساويين [يعني الباريسيين]؛ فالفرنساويون
يتجمَّلون أكثر منهم ولا سيما النساء. وقد جاءت امرأة تسألنا متعجبةً من لباسنا: هل
أنتم يهود؟ وأخرى تقول: هل أنتم تلعبون في الطِّياطر [المسرح]؟ يعني الملاهي، حتى
حصل لبعض الأعضاء نوع ضجر من ثقل سؤالهم وكثرة تفرجهم.»
٢٥ هكذا إذن يتحول الجسد الشخصي بمظهريته المخالفة إلى جسد فرجوي منذور
لفضول الآخر ومتعته البصرية، ومن ثم إلى جسد تخييلي كلية،
٢٦ الأمر الذي يُنتج تصورات متنافرةً على مستوى الاستراتيجيات المظهرية،
ومسافةً تولِّد الهازل من جهة، والساخر من جهة ثانية، في حرب تكون هي حرب المظهريات
الجسدية.
ويميل ابن عبد السلام السايح إلى الحرية الخطابية نفسها ويدفع بها إلى حد الغزل
الفصيح حين يتحدث عن هذا الأمر بمدينة بوردو: «وترى أهلها يعجبون بزي الغريب (بخلاف
الباريزيين؛ فقد أنسوا زي المغاربة فلا يلتفتون إليه إلا قليلًا)؛ فكنا إذا مشينا،
كانوا خلفنا، وإذا وقفنا، أحدقوا بنا وتحلَّقوا حولنا وخصوصًا السيدات والخرائد
والممسودات؛ فإنهن يعجَبن بشكلي ويغالبهن الضحك بينما أنا أعجب من رقتهن
وتثنيهن:
كلانا ناظر عجبًا ولكن «عجبت بحسنها وتفتْ بشكلي (غالَبها الضحك)».»
٢٧ إنها مقابلة يستطيع من خلالها الرحَّالة امتصاص غضبه (ذلك الذي عبَّر عنه
بشكل ساخر الحجوي)؛ ليحوِّله إلى لعبة مغازلة تقلب الوضع وتحوِّل الرائي الذي أصبح
مرئيًّا رائيًا بدوره. وهذا التثليث البصري يُغني النص ويُخرجه عن ثنائيته البصرية
والقيمية المعهودة؛ ليحوِّله إلى مجالٍ لصراع الرغبات: الرغبة الغرابية من جهة،
والرغبة الشهوانية من جهة ثانية؛ لينتقل بذلك الصراع إلى مجال توكيد الفحولة
العربية بما تختزنه من مفردات لا نجدها إلا لدى فطاحل الشعراء العرب.
وكما ذكرت ذلك سابقًا، فإن اهتمام المغربي الرحالة بأحوال البلاد التي يرتحل
إليها لا يمر فيها من غير اهتمام مقابل من جانب الآخر. فإضافةً إلى الاهتمام الشعبي
بالبعثات المغربية من باب الفضول والرغبة في التعرف على الآخر، وما يخالط ذلك من
نظرة استشراقية أو غرابية، فقد كانت الصحافة والإشهار، وغيرها من وسائل الدعاية
والاتصال، تهتم أيما اهتمام بالمغاربة قدر اهتمامهم هم بها. فإذا كانت نظرة المغربي
الرحالة تتجه إلى القدرات الطباعية والإذاعية للخبر التي تُنتجها تلك الجرائد (أو
الكازيطات gazettes) ولأنماط التواصل التي تخلقها،
فإن هذه الجرائد صارت تقدِّم الاستطلاعات لقُرائها، وهي استطلاعات تنضاف إلى التقارير
التي يصوغها المرافقون الرسميون لهم؛ لتُشكِّل سَبْرًا لحضور الآخر ولبناء معرفة، ولو
صحفيةً به. من ناحية أخرى، يسهر الصحفيون على تقديم صور حفرية مرسومة للرحالة والوفد
عمومًا، وللشخصيات المهمة فيها. وبعد انتشار التصوير الشمسي، صارت مجلات عديدة تنشر
استطلاعات مصورةً عن هذه الرحلات وتسجِّل أطوارها. ونحن لا نعلم إن كان هؤلاء الرحالة
قد اطلعوا على تلك الاستطلاعات وعلى صُورهم في الكازيطات، بل لا نعرف من ثم نوعية
تلقيهم لتلك الصور والآراء المبثوثة في المقالات لأنها وصلتنا عن طريق آخر.
إن الرغبة المعرفية التي يُفصح عنها المغاربة في رحلاتهم، تُقابلها من الجهة الأخرى
رغبة معرفية ليست بأقل حصافةً ولا دقة؛ ففي الوقت الذي كانت فيه الرحلات المغربية
تتوالى لهذا الهدف الدبلوماسي أو ذاك، كان الغربيون يقومون برحلات مماثلة وبعثات
لاستكشاف المغرب، ذلك البلد المستغلق، الذي لم يعرف الهيمنة التركية، والذي أجَّج
فضول ومطامع الغرب. وسواء تعلَّق الأمر بدو أميسيس أو إدمون دوطي، أو أندريه شوفريون
أو بيير لوتي أو غيرهم، فإن محدِّدات النظرة الرحلية الاستكشافية إن هي اختلفت فإن
محدِّدات البنية الأدبية لا تختلف كثيرًا حكيًا ووصفًا وتقويمًا. وقد يكون من المفيد
بهذا الصدد أن تتم المقابلة بين نظرة هؤلاء وأولئك للوقوف على نقط الاستدلال في
النظرة للآخر وفي آلياتها الداخلية ومحدِّداتها الأيديولوجية العامة، وهو ما لا
نستطيع القيام به هنا لضيق المجال.
الجسد باعتباره صورة
من الغريب أن ترتبط الصورة بالجسد بشكل قدري منذ أصلهما اللغوي حتى التمثلات
الثقافية والترابطات القدسية التي يفترضانها معًا في حقل المعتقدات والسلوك العبادي
للناس، سواء بالتحريم أم بالتعبد؛ لهذا فإن هذين الموضوعين يشكِّلان مسيرين متوازيين
في الحقل البصري للرحلات السفارية، لا من حيث كونهما يُثيران بشكل خاص مسألة
المعتقدات والتشريعات، ولكن لأنهما يثيران تقابلات تغدو أحيانًا من قبيل الاستبدال
الرمزي، بحيث يصبح الجسد صورة؛ أي كِيانًا متخيَّلًا، وتأخذ الصورة صفة الجسم الواقعي.
ولعل ما صادفه الرحالة في بلاد الغرب، من ألعاب بهلوانية ومسرحٍ وأوبرا يدخل في هذا
المضمار، ويثير الدهشة والعجب مقدار ما تُثيره الصورة المنحوتة أو المرسومة بشكل
تجسيمي تشخيصي.
في هذا السياق، لنبدأ بما عاينه صاحب الإكسير في فكاك الأسير: «ومن أغرب ما رأيت
هنالك (بقرطاجنة) أن رجلًا له ابنتان إحداهما من أربع عشرة سنة والأخرى من سبع
سنين، وردا من بلاد لطالية (إيطاليا) يلعبان على الأحبال. وقد رأيت من يلعب ذلك
اللعب، ولا رأيت مثل ذلك العجب؛ فقد رأيت إحدى الصبيتين تمشي على حبل رقيق بنعلها
أمامًا وخلفًا، وتنام على ظهرها فوق الحبل، وتقوم وحدها على رجل واحدة وترفع
الأخرى، وتجعل على وجهها ثوبًا خشينًا، وتمشي على الحبل ولا تنظر، ثم تضرب الطبل
بيدها والبوق بفيها، وتُخرج البارود بمكحلة (بندقية). وأغرب من هذا كله أن تجمع
يديها ورجليها من ورائها وبطنها يوالي الأرض، وغير ذلك من الغرائب ما لا يقبله أحد
إلا شاهِدُه.»
٢٨
إن العجب الذي يأخذ بناظر الرحالة هنا، وهو الذي جال بلادًا كثيرة ورأى من قبلُ
من العجائب ما رأى، يتصل أساسًا بانتقال الجسد من وظائفه الاستعمالية والعبادية
المألوفة إلى جسد لهواني (ludique) لا حدود له،
يكاد يتحدَّى قوانين الجاذبية ويتحوَّل إلى صورة مطواعة لصاحبها. والحقيقة أن الألعاب
البهلوانية التي يتحدَّث عنها ابن عثمان المكناسي معروفة أيضًا في بلاد المغرب، لدى
طائفة تسمى «أولاد سيدي أحمد وموسى»، كانت ولا تزال تمارس ألعابها في الأسواق
والمهرجانات. لكن محدودية ألعابها تغدو هنا أمام هذا «السرك»، بمعناه الحديث،
مثارًا للدهشة؛ لأنها تحوِّل الجسد إلى كِيان مطاط يتجاوز المتوقَّع في المهارة والخفة
واللياقة.
يشكِّل المسرح والأوبرا أيضًا مجالًا لرفد العلاقة الأصلية والأصيلة بين الجسد
والصورة؛ فالجسد اللهواني ينفصل عن الجسد الشخصي والجسد الموضوعي، بل ينفصل عن
مفهوم الجسد عمومًا، ليتحوَّل إلى صورة تشتغل ضمن مجموع الصور الأخرى التي يرتبط بها،
ويتغذَّى منها ويغذِّيها. وذلكم حال المسرح الذي يتشكَّل فيه الجسد (أي يأخذ أشكالًا
وصورًا
عديدة)، مثله في ذلك مثل الكائنات غير الجسمانية أو الكائنات الروحانية من جن وملائكة.
٢٩
ولقد كان الصفَّار كثير الحساسية لهذه الممارسات اللهوانية؛ فهو قد اطلع على ما
جاء في رحلة الطهطاوي قبله بعقود، وأدرك جيدًا الطابع التربوي للمسرح، فلم يُبدِ
تجاهه كثيرًا من الامتعاض والاستنكار. بل إن المُرافق الفرنسي للوفد المغربي قد كتب
في تقريره أن البعثة قد ارتادت المسرح (ما يسمُّونه الملهى) مرات متوالية: «وقد أُعجِب
أعضاء البعثة المغربية بالمسارح الباريزية، فتردَّدوا على قاعة العروض مرات عديدة،
وشاهدوا في مدة، لا تُجاوز أسبوعًا واحدًا، عروضًا لثلاث فرجات مختلفة؛ عرضًا
للأوبرا، ومسرحية، ثم حفلةً غنائية أحيتها الآنسة راشيل التي اشتهرت في قاعات العروض
الباريزية.»
٣٠ ممَّا يفسِّر تخصيص الصفَّار لصفحات كثيرة للتياترو (المسرح) وإعجابه به
واعتباره «جِدًّا في صورة هزل؛ لأنه قد يكون في ذلك اللعب اعتبار أو تأديب أو
أعجوبة أو قضية مخصوصة، ويكتسبون من ذلك علومًا جمة.»
٣١ ومن الغريب أيضًا أن يركز الصفَّار على الطابع التصويري للمسرح فيصف ما
يعرض فيه بما يقرب من الخيال الإعجازي: «وقد رأيناهم مرةً صوروا الجنة بقصور وأشجار
وأنهار ومنظر حسن، وصوروا ملائكةً يطيرون في الهواء بأجنحة بيض؛ وذلك بأن عمدوا إلى
جَوارٍ صغار وجعلوا لهن أجنحة، وربطوا كل واحدة بخيط رقيق لا يُبصَر إلا بعد التأمل،
يمسكها من أعلاها، وشخص يُجريه من فوق بحيث لا يظهر، وإنما تُرى كأنها تطير بجناحيها
في الهواء. وصوَّروا أمواتًا خرجوا من تحت الأرض، وشخصًا آخر ابتلعته الأرض حتى رئي
بعض ذلك في الجنة. ويصوِّرون أيضًا الطوفان وسفينة نوح.»
٣٢ وحين يتطرق الصفَّار للأوبرا فإنه يُحس أن الأمر يتعلَّق لا بأجساد بل
بكِيانات متخيَّلة، «وتارةً يكون لعبهم المذكور برقص الجواري، فيمسكن بأيدي بعضهن
ويأخذن في رقص عجيب وتليين أعضائهن وتثنية معاطفهن، حتى يكاد أن يلتقي فمها بعقبها،
ويقفزن على رجل واحدة ويدخلن في بعضهن البعض حتى كأنهن لسْن آدميات.»
٣٣
بيد أن الصفَّار، إذا كان قد أفرد لهذه المظاهر الجسدية اللهوانية ما أفرده لها،
مبيِّنًا تارةً عن إعجاب كتوم وأخرى عن إعجاب وانشداهٍ صريحين، فإن ابن إدريس
العمراوي، لا يوليها الكثير من الاهتمام ويعتبر الكوميديات من باب «الهزليات، لكنهم
مُغرَمون بها كل الغرام ومُولَعون بها كل الولوع.»
٣٤ ويُضيف بصدد «الكُوميدية السلطانية»: «وكنت أضحك من ذلك وأعدُّه من جملة
المزاح الذي لا يُعبأ به ولا يوبَه له، وأنه ليس من الجد في شيء، حتى وقفت على كلام
الشيخ رفاعة الطهطاوي في رحلته، حاصلُه أنها أمور جدية في صفة الهزل.»
٣٥ ويُتبع في تبرير ذلك، على غرار الصفَّار، خطابًا حول أهمية الهزل والضحك
وفوائد الغناء والطرب، وإن كان خطاب الصفَّار معتمِدًا لا على آراء علمية وإنما على
أخبار وأحاديث نبوية تؤكِّد فيه صفة الفقيه العالم. وعلى عكس الصفَّار ومَن معه في
بعثته، فإن العمراوي سوف يتفادى حضور هذه الفرجات خاصةً منها الرقص؛ أي الأوبرا:
«وقد عرضوا علينا الذهاب لبعض الكُمديات، فاعتذرنا في واحدة فيها الغناء والرقص بأن
الغناء لا نفهمه، وما لا نفهمه يثقل علينا سماعه، وبأنه يحرم علينا في ديننا النظر
إلى النساء اللاتي يرقصن، وفي أخرى فيها المحاجات والأسئلة والأجوبة [يعني المسرح
بحواراته] بأنها بغير لغتنا فلا فائدة في حضورنا فيها.»
٣٦ وعِوضَ ذلك، وعلى عكس الصفَّار، الذي لم يترك شيئًا يفوته من الفرجات،
اختار العمراوي على المسرح لعبة الخيل التي خصَّص لها وصفًا مفصَّلًا، والسرك الذي
تلقَّاه بدهشة ابن عثمان المكناسي كما تطرَّقنا إليه سابقًا. وبعد الوقوف عليهما يصرِّح
«ولم أرَ في تلك اللعبات أعجب من هذا وهو من المخاطرة بالنفس.»
٣٧ وبعد أن يتطرَّق لوصف فرجة سحرية يقول عنها بأنها مثل النوع الذي نسميه
بالخنقطرة، يُجمل رأيه في هذه الجوانب الفرجوية وكأنه يتخلَّص من الاعتراف بموقعها
وأهميتها في الحياة الغربية قائلًا: «وقد طال بنا القول في وصف هذا الهول، مع أن ما
سكتنا عنه من أمورهم أكثر، وما أوتوا من زينة الحياة والتوسُّع فيها أشهر من أن يُذكَر.
ولو أطلقنا عِنان القلم في تفاصيل جمال هذه المدينة [باريس] وما احتوت عليه من
الزينة، لم يقف عند حد، ولأفضينا إلى الطول الممل، والإكثار من مدح العاجل المضل،
وما ثم إلا زخارف الحياة الدنيا وبهرجتها، وسرابها الزائل وتُرَّهتها. ولكن في الاطلاع
على هذه الأمور ومعرفتها معرفة قدر نعمة الله على المؤمنين بتخليصهم من فتن
الافتتان بزينتها والاغترار بعرَضها الفاني الموجب للإعراض عن الله تعالى.»
٣٨ ناعتًا الآخر بالكفر والفسق، وهو ما يفسِّر غلبة النساء عليهم … من ثم
فإن الموقف الديني يغدو ذريعةً لعدم التواصل مع الآخر بشكل منفتح. فإذا كانت اللغة
عائقًا، كما يكرِّر ذلك رحَّالتنا، في فهم مضامين الفرجات الغربية واستيعابها، فإن
الألعاب لا تحتاج إلى وسيط لغوي، لكن الإحساس بالذنب يغدو منتجًا لمفارقة أساسية
ألحَحْنا عليها منذ البداية بين الرغبة البصرية والوازع الديني، الذي يدعو إلى غض
البصر، من جهة، وإلى التركيز على ما هو منتج وإنتاجي عملًا وعبادة، من جهة ثانية.
إنه الأمر الذي جعل الصفَّار مثلًا يستفيض في الحديث عن الهزل في الإسلام من وجهة
نظر فقهية، وكأنه بذلك يقلِّل من حدة هذه المفارقة ومن ذلك الإحساس بالذنب الذي يحوِّل
الرحلة إلى الغرب إلى اختبار عسير لحواس الرحالة ولوعيهم الديني ولقدراتهم
الاجتهادية أيضًا. من ثم فإن تحديد الاختلاف، من خلال الإنكار، يكون بهذا المعنى
عمليةً يتم من خلالها صيانة الذات وصيانة تميُّزها، ومخرجًا من الاختبار يكون للأسف
مخرجًا سلبيًّا لا جدليًّا، كما كان حال رحلة الطهطاوي على سبيل التمثيل لا
الحصر.
ومن الغريب أن الحجوي حين استُدعي لمسرح الأوبرا بباريس لمشاهدة مسرحية سيُعبِّر
تقريبًا عن الرأي نفسه الذي عبَّر عنه العمراوي وإن بالكثير من السخرية: «… أما
الرواية التي مُثِّلت وما فيها من الفوائد، فذلك شيء ليس هو ذوقنا، بل لا نستفيد منه
شيئًا لعدم معرفتنا بلغتهم، وعدم ملاءمته لمألوفاتنا وحركاتنا، حتى إن الجنرال
موريال [مدير الأمور الأهلية في الإقامة العامة الفرنسية بالمغرب]، حاكم الرباط،
الذي كان مرافقًا لوفدنا ومكلَّفًا بشئونه قال لي: إن الناس يصفِّقون عند تمام الرواية،
فمن المناسب أن تصفِّقوا، فامتثلنا، وكنت أصفِّق من غير أن أفهم لأي شيء صفقت، ولا أدري
ما استحسنت؛ لأن التصفيق دليل الاستحسان عندهم، فكنت كنائحة مأجورة تتفعَّل البكاء
وليست باكية …»
٣٩ بيد أن الحجوي يستدرك الأمر ليتحدَّث مباشرة، بعد ذلك، عن فوائد المسرح
ومقاصده التهذيبية والأخلاقية. ولا يخفى أن هذا الموقف المتواتر لدى رحالتنا يعبِّر
عن مقاومة للتحديث الثقافي، وهو الأعسر، مقارنةً مع القَبول الطوعي بالتحديث التقني
والاجتماعي. والغريب في هذا الموقف أنه يقف مرةً أخرى على مفارقة كبرى بين الذاتي
والخبري، هذا في الوقت الذي كانت فيه إرهاصات المسرح بالمغرب وبذورها الجنينية
تتأهب للانبثاق.
٤٠ فكيف لم يفطن هذا الرجل لتلك التحولات الثقافية، هو الذي يعتبر نفسه
رجل حداثة وإصلاح إلى الحد الذي آمن فيه بالحماية الفرنسية واستراتيجيتها
التحديثية؟
الصورة المنكرة
بالعلاقة مع ما سبق، وكأن الأمر يتبع نظامًا منطقيًّا معيَّنًا، وتوازيًا صارمًا،
تُعتبر الصورة مثلها مثل الجسد موضوعًا لما يسمح القَبول ولما يقبل الرفض والإنكار
والاستنكار. وكان الفقه المالكي المغربي قد ظل، إلى وقت ليس بالبعيد؛ أي حتى أواسط
القرن العشرين، مجالًا لسِجال خفي بين القابلين بالصورة وبين الرافضين المنكرين لها.
ولعل ما لاقته ممارسة السلطان عبد العزيز للتصوير والتقاطه صورًا لزيجاته، وتمكينهن
من مشاهدة الأشرطة السينمائية، من هجوم من لدن الفقهاء أدَّت إلى عزله، أكبر دليل على
أن تحريم التصوير يمكن أن يتخذ طابعًا سياسيًّا مباشرًا، خاصةً وأنه يتصل تقنيًّا
وتاريخيًّا بالآخر، وما يرتبط بذلك من استراتيجيات الهيمنة والصراع على المصالح
الاقتصادية والجيواستراتيجية.
٤١ وإذا كان بعض الفقهاء في بدايات ذلك القرن كابن زيدان قد تبنَّوا
التصوير، فإن فقهاء مغاربة آخرين ظلوا متشبثين بأصولية تحريم التصوير إلى حد أن عبد
الله بن المؤقت في الرحلة المراكشية قد حرَّم حتى الحلوى المصورة الموجهة للأطفال
ناهيك عن التصوير الفوتوغرافي والفونوغراف ولبس السروال وغيرها من المظاهر الغربية
التي تعني له اتباع الفسق الغربي.
٤٢ أما ابن الصِّديق فإنه سار أبعد من ذلك، متراجعًا عما جاء لدى رحالتنا
موضوع هذه الدراسة، فكتب سنة ١٩٤٩م كراسةً بعنوان: إقامة الدليل في تحريم التمثيل،
يحرِّم فيها الأداء المسرحي (والسينمائي) تحريمًا قاطعًا، وليس من الغريب أن هذه
الرسالة صارت اليوم مرجعًا أساسيًّا في بلدان محافِظة كالعربية السعودية تمنع فيها
صناعة السينما مثلًا.
إن التوازي والتناسب المنطقي الذي ذكرنا هو الذي يجعل الجسد، وخاصةً القدسي منه،
مجالًا للصراع حول الصورة. ومن البديهي أن تكون صورة النبي عيسى على الصليب أحد
مواطن الصراع العقيدي لا على الصورة فقط وإنما على موضوعها المقدس. فإذا كان ابن
عثمان المكناسي يتحدَّث عما رآه من عجائب إشبيلية وخاصةً الحديقة المجاورة للقصر،
وبالأخص التصاوير (التماثيل) التي يتدفَّق منها الماء، ويصف ذلك التمثال ذا المزمار
«كأنه ينفخ فيه»، بحيث ما إن يُطلِق الماء حتى يندفع من المزمار؛
٤٣ فإن حديثه ذاك لا يشوبه أي نقد أو استهجان أو استنكار، بل نستشف منه،
تحت صرامة المسئول الدبلوماسي، ضربًا من العجب والدهشة والمتعة البصرية البادية في
الرغبة الوصفية. بالمقابل، ما إن يزور أحدَ المساجد التي حوَّلها الإسبان إلى كنيسة،
وتقع عيناه على المسيح مصلوبًا حتى تثور ثائرته ويدخل في سِجال مع الراهب المكلَّف
بمرافقته. لنقرأ ما جاء في الرحلة: «وقد أدخلني الفرائلي قيِّم المسجد المذكور إلى
جميع كنائسه وموضع كفرياته، وأرانا جميع ما عنده من الصلبان والصور والتماثيل التي
هم لها عاكفون، قبَّحهم الله وطهَّر منهم ذاك المسجد وعمَّره بذكره، فالتفتُّ في إحدى
الكنائس فنظرت الصليب عليه صورة نبي الله عيسى عليه السلام في زعمهم الفاسد دمَّرهم
الله، فلم أملك نفسي أن قلت له هذا محض كذب وافتراء … فأخذ في الجدال والتصميم على
الباطل، فخشيت إن أجاريه في الكلام لا يطلعني على أحوال المسجد المذكور فأعرضت عنه …»
٤٤ بيد أن حكاية الصفَّار مع الصليب تُنبئ عن طابع فكاهي يعبِّر عن سذاجة
الفقيه وعدم معرفته بالبلدان التي يزورها: «ورأينا لهم بها صليبًا عظيمًا في ميدان
بطرفها، وصورته خشبة قائمة معترضة في رأسها قطعة خشب صغيرة، وعليها صورة رجل مصلوب
مجرد من ثيابه، ما عدا ثوبًا سُترت به عورته؛ فهالنا منظره وأفزعتنا رؤيته، وظننا
أنه صاحب جناية علَّقوه؛
إذ لا يشك من رآه أنه آدمي
مصلوب. فسألت عن ذلك، فأخبروني أنه معبودهم وصليبهم الذي يعبدونه، وهم
يزعمون أنه عيسى؛ أي صورته، مصلوبًا. ولا شك أنهم يعتقدون إلهيته كما أخبر عنهم
القرآن العزيز، ولا شك في كذب زعمهم وبطلان معتقدهم.»
٤٥ ويتدارك الصفَّار الأمر فيُبدي عن حافظته القرآنية والفقهية فيسرد ما
جاء به القسطلاني في شرحه في الأمر، ليستفيض في الصور والأشكال التي يتخذها المسيح
صبيًّا في صدر أمه مريم ويختم قائلًا: «وإذا سألت أحدًا منهم عن تلك الصورة ما هي
فيصرِّح بالألوهية أو البنوة أو الأمومة حاشاهما من ذلك، وتعالى الله عما يقول
الظالمون علوًّا كبيرًا …»
٤٦ لكن إذا كان الأمر لا يزال يُثير في نفوس الرحالة في القرن الثامن عشر
والقرن التاسع عشر حفيظتهم المذهبية، فإننا لا نعثر في ما بعدُ رجوعًا لهذه
المسألة. وخالص ما عثرنا عليه، وهو أقرب إلى تجسيم المسيح مصلوبًا، هو تجسيم
الملائكة، والمعروف أن هذه الكائنات ذات موقع أساس ورمزي في العقيدة الإسلامية،
بحيث يُعتبر المَلَكُ جبريل، وهو أحد أعمدتها، روحَ القدس وحامل الوحي النبوي. وها نحن
نقرأ ما جاء به العمراوي لنلاحظ أن الأمر لا يُثير في نفسه أدنى عصبية دينية: «…
ومنها [آثارهم] عمود من نحاس طويل كأعلى ما يوجد من الصوامع وفوقه صورة آدمي من
النحاس الأصفر مذهَّب وله جناحان، وتلك صورة الملائكة عندهم في اعتقادهم؛ فكل حيوان
من الآدميين وذوات الأربع رأيتهم صوَّروه وجعلوا له أجنحة، فمقصودهم به صورة مَلَك، وهي
كثيرة عندهم يجعلونها على أبواب الديار والكنائس وأبواب المدينة، كأنها حفيظة لها …»
٤٧ وبالرغم من أن ما جاء به العمراوي ليس كامل الصحة، وأن الشخصيات
المجنَّحة هي من صنف الملائكة الكروبيين
les
chérubins، وعادةً ما تكون عبارةً عن صبيان، ولها وظائف خصوصية في
التصوير الغربي، فإن اهتمامه بالوظيفة الاجتماعية والسحرية لهذه الصور ينم عن دقة
ملاحظته من جهة، وعن إحجامه عن الدخول في سِجالات عقيمة من النوع الذي مرَّ بنا مع
المكناسي والصفَّار من جهة أخرى …
بل إن ابن عثمان المكناسي الذي دخل، كما رأينا سابقًا، في سِجال مع الراهب، لا يبدي
أي موقف مستهجَن من تشخيص الأنبياء الآخرين، ويتحدَّث عن ذلك حديثًا يسري على مجمل
الصور التي رآها، وإن كان لا يُبدي إعجابًا بهذه التي تجسِّم الأنبياء، بل يكاد يشكِّك
فيها: «… و[صورة] الثالث زعموا أنها صورة نبي الله داود على نبينا وعليه الصلاة
والسلام وبيده آلة يسمونها الأربة (
harpe) لها
أوتار كثيرة زعموا أنه كان يقرأ بها الزبور، والرابع صورة سليمان على نبينا وعليه
الصلاة والسلام، ولم يحضرني من الصور الست إلا هذان الاسمان.»
٤٨ وحديثه عن الزعم يُحيل هنا إلى افتراضين: أن هذه الصور من باب الخرافات
والتخريف، وهو من باب التشكيك في الصحة الواقعية؛ والثاني يحوِّل الصورة، وكل صورة
من قبيل هاته تتطرَّق لتاريخ الأنبياء المقدس، إلى شيء متخيَّل. إن ابن عثمان المكناسي،
لا يشذ هنا عن القاعدة التي تحكم التصوير باعتباره تشخيصًا تخييليًّا أو متخيَّلًا
لصور واقعية، حتى ولو كانت مرسومةً بطريقة مباشرة ومشابهة و«مطابقة» تمام الشبه
والمطابقة.
من ناحية أخرى، فإن الاهتمام، كما يبدو ذلك واضحًا، سينصَب على الصورة باعتبارها
صورةً تاريخية وتجسيمية وتزيينية وذات طابع حضاري أكثر منه ديني، الأمر الذي ترجمه
العمراوي والحجوي بالتركيز على التقنيات الجديدة كالتلغراف والتلفون والطباعة
والكهرباء وغيرها من المستجدات التي كانت تُبين عن التفوق الكاسر للغرب.
فتنة الصورة
ليس من قبيل الصدفة أن رحالةً كُتابًا كثيرين من قبيل إدمون دوطي وأندري شوفريون،
وهما المثقفان المحنَّكان، حين وصولهما إلى المغرب، صارا يصفان العديد من الممارسات
السلوكية لدى المغاربة بالبدائية، بالنظر إلى أن هذا المفهوم صار آنذاك، بالرغم من
طابعه المركزي الأوروبي، يُستعمل في مقاصد إثنوغرافية ونظرية تأخذ أصولها في كتابات
فرايزر ومارسيل موس. وقد عثرنا على حالة تجسِّد ذلك تجسيدًا واضحًا؛ فقد وجد الرحالة
المغاربة أنفسهم في غرف محفوفة بالمرايا، فأبدَوا فتنتهم وعجبهم بشكل واضح، والمعروف
أن المرآة سليلة الصورة، وأنها حين تعكس الجسد الشخصي، يصبح هذا الجسد أشبه بجسد
آخر منفصل عن الذات الرائية التي هو مظهرها البدني: «فدخلنا تلك الصالات فألفيناها
قد أُوقد فيها الشموع في ثريات عظيمة من البلور يخطف شعاعها البصر. وفي جوانب
الصالات وصدرها مرايا كبيرة عظيمة أكثر من قامة الإنسان، تنطبع فيها تلك الثريات
بشموعها وسائر ما في البيت، فيُخيَّل للناظر أنها صالات أُخَر فيها مثل ذلك، وذلك لشدة
صفاء المراءات …»
٤٩ هذا الإحساس، الذي يمكن اعتباره مقدمةً لفتنة الصورة، هو الذي يعيشه
أيضًا، بالشكل نفسه تقريبًا، ابن إدريس العمراوي سنوات قليلةً بعد ذلك، وكأن تاريخ
الرحلة يكرِّر نفسه؛ لأن الكلمات والأوصاف تكاد تتشابه إلى الحد الذي نفكِّر معه أنهما
زارا البيت نفسه، وعاشا من ثم الإحساس البدائي ذاته: «… ويجعلون في أرباع البيت
مرايات كبيرةً منها ما هو على قدر الإنسان مرتين ومنها ما هو دون ذلك بحسب كبر
البيت. فإذا قابلها الإنسان وانطبع فيها مثالُ المقابلة لها، رأى البيت كمَدِّ البصر
…
وقد كنا ندخل بعض المحالِّ فيها الرجلان والثلاثة فيقومون لقدومنا فتنطبع أشكالهم في
الحيطان فنرى العدد الكثير من الرجال والآلات ونرى منزلًا فسيحًا مد البصر فنحسب
بديهةً أن ذلك حقيقة حتى يرجع إلينا حِسُّنا …»
٥٠
أما الصور غير المرآوية فإن الرحالة المغاربة يقفون عندها وقوف الواصف المتعجب،
ولا يكاد يقع عليها نظرهم إلا وانتبهوا إليها بالوصف العادي تارةً وبالوصف المعجب
أخرى، أو بالوصف الشارح حين يتعلَّق الأمر بلوحات تاريخية تتعلق بالوقائع والشخصيات
التاريخية وغيرها، بل إن انتباههم انجذب بالأساس للصور المنحوتة الموجودة في
الشوارع والنافورات والتماثيل التي تُزيِّن الأعمدة وأبواب البيوت، وللمتاحف، وخاصةً
منه متحف اللوفر بما يحويه من تاريخ التصوير الإنساني.
وقد وصف المكناسي الساعات التي تُطلِق الموسيقى، وبها صور بحيث كاد أن ينطلي عليه
كون أن الصور هي العازفة لولا أنه انتبه لجمودها.
٥١ كما انتبه انتباه المعجَب للزرابي الحائطية التي تُنسج فيها الصور في
جميع أحوالها وانفعالاتها معلِّقًا «وهذا في غاية الغرابة.»
٥٢ وحين أُهديت له مزهرية فيها التصاوير من النور علَّق على ذلك قائلًا: «لا
يُشَك في أنه نور ولا تُدرَك حقيقة ذلك إلا باللمس.»
٥٣ كما رأى طبلات بها صور فكان تعليقه: «وذلك من إحدى العجائب التي لا
تُدرَك إلا بالمعاينة.»
٥٤ وفي إحدى الحدائق، وقع بصره على تمثال هائل لفرس واقف على قائميه
الخلفيين فكان ما كتب: «والفرس واقف على رجليه الأخريين رافعًا يديه الأوليين.
فقضيت العجب من وقوف الفرس على رجليه الأخريين مع ثقله لأنه أخبرني القيِّم على ذلك
أن زِنة الفرس بسرجه والصورة الراكبة عليه مائة وخمسون قنطارًا. فأمعنت النظر فإذا
في وسط سبيب الفرس عمود من النحاس من أصل الفرس داخل في السارية …»
٥٥ وهكذا فإن المكناسي يبدو أنه منذ البداية دخل عوالم الوهم الذي تخلقه
الصورة؛ إذ لا يخفى أن متخيَّل الصورة يكمن أساسًا في تقديم الوهم على أنه واقع، وأن
العلاقة التناظرية التي تسعى الصورة إلى خلقها، وخاصةً الصورة الفوتوغرافية والنحت،
تهدف إلى نقل المرئي من مجال المعيش إلى مجال المتخيَّل.
إن فتنة الصورة كانت بداية هنا لحظة اختبار للحواس؛ أعني حواس أشخاص ليست لهم
تقاليد إيكونوغرافية، ولم يسبق لهم أن عاشوا التصوير إلا في كتب الأخبار والتاريخ
وفي ألف ليلة وليلة. فخلافًا لباقي البلدان العربية ظل التصوير بالمغرب نادرًا، ولم
تتم ممارسته إلا بشكل هامشي في الكتب العلمية ككتب الخيل والطب وغيرها، وبشكل مختزل.
٥٦ من ثم فإن الغرابة التي عاشها الرحالة في علاقتهم بالصورة لن تندثر ولن
تقل، حتى ما جاء في الرحلات اللاحقة عن «الدياراما» ثم السينما والصورة الفوتوغرافية
…
•••
إن تحليلنا لجدلية الممانعة والفتنة قد مكَّنتنا من الوقوف على أربعة أنماط من
العلائق مع الآخر:
-
العلاقة السجالية التي تسعى إلى تبيان تفوُّق العقل الإسلامي، وتقيم الحواجز
الفكرية مع الآخر، وتقدم الأنا باعتبارها وجودًا معصومًا عن ممارسات
الآخر.
-
العلاقة الحوارية التي تسعى إلى التوكيد على التفوق العلمي والتقني
والتنظيمي للآخر، وتدعو بالتالي إلى استلهام تقدمه في هذا المضمار.
-
العلاقة الجمالية التي تؤكد موقع الذات باعتبارها وسيطًا تواصليًّا
وتفاعليًّا مع الآخر، وباعتبارها من ثَم متلقيًا جماليًّا يؤسلب الرغبة
والنظرة لبعض تلك المظاهر.
-
العلاقة الغرابية التي تجعل من الجسد والمظاهر موطنًا للاختلاف والغرابة،
ومسرحًا للدهشة المولدة للسخرية أو العنف اللغوي والبصري.
إن دراسة الرحلة من منظور التواصل والتفاعل جعلنا نلامس الطريقة التي يبني بها
الرحالة وجوده وصورته من خلال علاقة مواجهة واقعية، وكيف يُعيد بناء هذه الذات وذلك
الوجود عبر استراتيجية نقدية متفحِّصة للأنا والآخر في الآن. هذا «النقد المزدوج»،
حين يتم تناوله من خلال مقولتَي الجسد والصورة، يصب مباشرةً في مجالَي المقدس
والمتخيَّل، وهو ما يجعل المقارَبة التاريخية الأنثروبولوجية والخطابية أداةً خصبة
لبلورة العلاقة المركَّبة بين الممانعة والتواصل.