من الجسد إلى العلامة: الصورة ورهانات الآخر

وغالب ما رأيناه في قصور فرْساي (بفرنسا) تصويرات الحروب من أول الزمان إلى الآن، لكن لا يصوِّرون إلا الحروب التي كانت لهم فيها الغلبة، ولا يصوِّرون أنفسهم. ومما يُحكى أن شخصًا مرَّ بالسوق فرأى الناس مجتمعين على صورة رجل وأسد تعاركا فغلب الرجل الأسد، فذهب فلقي أسدًا فأخبره بما رأى فقال له: «لو كان الأسد يعرف التصوير لرأيت ما يفعل، وحيث لا يعرفه فليصور كل واحد ما شاء.»١

أَولى المثقفون والباحثون العرب اهتمامًا خاصًّا للاستشراق الأدبي والفكري، بحيث إن المكتبة العربية تحبل بصنوف المؤلفات عن الفلسفة والأدب في هذا المضمار. بالمقابل، فإن الاستشراق التصويري ظل ضربًا من المسكوت عنه، خاصةً أن الثقافة العربية الحديثة ثقافة الكلمة التي تفكر باللغة والنص، وتتغاضى منذ بدايات القرن العشرين عن طَرْق موضوعات الصورة والتصور. إن صمتًا من قبيل هذا لقمينٌ بأن يطرح على هُويتنا البصرية العديد من الأسئلة التي تبدأ بمرجعيات التصور العربي للآخر، وبالتمركز حول الخطاب واللغة (اللوغوس)، من حيث هما تعبير عن انحياز هذه الثقافة لقواعدها الأصلية واتباعيتها لها حسب تعبير أدونيس، وانتهاءً بالعزوف عن تفكير الصورة في قلب المجتمعات العربية وثقافاتها، خاصةً في وقت صارت فيه الصورة مهيمِنةً في مجالات التواصل والتعبير والتفكير البصري.

والمفارقة الأكيدة هي أن التشكيل والثقافة البصرية العربية عامةً وُلدت ونمت في حضن هذا المد الاستشراقي التصويري متوازيةً معه تارة، ومتقاطعةً مع آثاره ومكوِّناته تارةً أخرى. بل إن العديد من الفنانين العرب الرائدين والماهدين، سواء بمغرب العالم العربي أو بمشرقه، كانوا ثمرةً مباشرة لهذا الحضور التصويري، الذي كشف لهم عن ذاتيتهم وأدخلهم فيما يمكن أن نسميه في هذا الإطار برحلة التعلم. لنذكر فقط بأن العديد من البلدان العربية، التي لم تعرف تأسيس كليات ومعاهد ومدارس الفنون الجميلة إلا بشكل متأخر كالمغرب وتونس على سبيل المثال، قد شهدت ضربًا من التواصل الفردي والجماعي بين الفنانين الأجانب المقيمين بها وبين أوائل الفنانين الذين أرسَوا دعائم الفن التشكيلي الحديث. ذلكم كان هو حال ثلاثة فنانين معروفين بالمغرب، على سبيل المثال: محمد بن علي الرباطي، الذي كان يشتغل طباخًا لدى السير جون لافيري في العقد الأول من القرن الماضي، والذي تعلَّم على يديه مبادئ التصوير التشكيلي، فأنتج لوحات على المسند وعرض بلندن سنة ١٩١٦م، ثم بمرسيليا سنة ١٩١٨م، لينشئ سنة ١٩٣٦م، قبل وفاته بثلاث سنوات، أول رواق مغربي بطنجة كان يعرض به إبداعاته.٢ وكان الفنان محمد راسم بالجزائر، وهو رائد الفن الجزائري، تلميذًا لإتيان ديني الفنان الفرنسي الذي أسلم في أواخر حياته. الأمر نفسه حصل لمولاي أحمد الإدريسي أحد الفنانين العصاميين المغاربة الأوائل الأكثر إبداعًا وأصالة، فقد انتبه زوج من الفنانين السويسريين مقيمان بمراكش إلى موهبته وباعا لوحاته في بداية الخمسينيات لمتحف الفن الخام بسويسرا، وشجَّعاه على الاستمرار ليغدو أحد المعالم البارزة في التشكيل المغربي. ولم يسلَم محمد بن علال من هذه العدوى؛ فقد كان يشتغل لدى جاك أزيما أحد الفنانين الفرنسيين المقيمين بالمغرب، الذي شجَّعه على التصوير التشكيلي.٣
إننا نعتبر أن هذه الولادة هي أيضًا نتاج لنضج التفاعل مع الحضور التصويري بالعالم العربي، منذ حلول أوائل المصورين الاستشراقيين بالعالم العربي، وقبله بتركيا، وللسفارات العربية ببلاد الإفرنج. ونحن نفترض أن الصدمة البصرية التي تمت في الحالين معًا كانت ذات وجهتين: اكتشاف الفنانين المرتحلين لغرابية العالم الشرقي وافتتانهم بكونه، كما ألحَّ على ذلك دولاكروا،٤ صورةً عن الحياة الأصل والبدائية الفعلية من جهة، واكتشاف المشارقة عمومًا لأمر جديد لم يكونوا يرونه أبدًا إلا سماعًا من باب التهجين والتحريم، وهو التصوير. إن هذه الصدمة المزدوجة ليست فقط تُقيم مفارقةً وتنافرًا وتناقضًا فقط بين منظورين: الأول منهما يحول البصري إلى علامة، والثاني يحول العلامات نفسها إلى صورة، وإنما أيضًا بين مفهومين للتصوير نفسه من حيث قدرته أو عجزه عن ترجمة حقيقة المرئي واللامرئي.
يمكن القول بدءًا إن التصوير والصورة الفوتوغرافية قد خلقا ضربًا من الصدمة التي ظلَّت تبدو مشبوهةً في بلدان المغرب الكبير، وبشكل أقل حدةً في العالم العربي. وحتى نتحدث عن أماكن نعرفها أفضل نقول بأن حلول دولاكروا، الفنان الفرنسي المعروف، بالمغرب سنة ١٨٣٠م، ثم حلول السفارة الإيطالية بالمغرب في عهد مولاي الحسن الأول سنة ١٨٧٠م كانا أحد المظاهر الأولى لدخول فن التصوير إلى المغرب، الذي لم يعرف الهيمنة العثمانية وبالتالي لم يمارَس فيه التصوير إلا في أشكال عرضية وهامشية. ولنا أن نفترض ما أثاره آنذاك هذا الحضور من ردود فعل لهذه العملية التي تُعتَبر ضربًا من التجسيم في مجتمع لم يعرف التصوير إلا بشكل عرضي ظل محصورًا في العصرين المرابطي والموحدي، ولم يتجاوز مجال التصانيف العلمية والطبية منها بالأخص.٥ بيد أن طنجة الدولية في بداية القرن الماضي عرفت مرور واستقرار العديد من الفنانين التشكيليين لعل أبرزهم هنري ماتيس سنتَي ١٩١٢-١٩١٣م، والعديد من المصورين الفوتوغرافيين، الذين اعتمدوا فيما وصلَنا من تصاوريهم الفوتوغرافية في الغالب الأعم على نماذج من الأشخاص ذوي الأصول اليهودية المغربية، باعتبار هؤلاء كانوا أكثر قَبولًا لفعل التصوير. ويمكن اعتبار حلول غابرييل فير، المصور السينمائي الذي اشتغل بمعية الأخوين لوميير، أول حضور رسمي مستمر لمصور أجنبي يتم استدعاؤه من قِبَل الجالية المغربية المقيمة بطنجة كي يعلم السلطان مولاي عبد العزيز، سنة ١٩٠١م تقنيات التصوير الفوتوغرافي. فكان أن أصبح هذا الشخص مصوِّرًا ومعلِّمًا للسلطان ووراء كهربة قصور السلطان، وبناء أول مقطع سكة حديدية له، ممَّا جعله يلقَّب بمهندس السلطان.

يمكن القول بأن شيوع التصوير التشكيلي منه والفوتوغرافي بالمغرب، بالرغم من اختلاف السجلين، قد لقي تجاوبًا متفاوتًا؛ فقد كان السلاطين أمثال المولى عبد العزيز ثم عبد الحفيظ والمثقفون الرسميون أمثال محمد بوجندار ومؤرخ المملكة عبد الرحمن بن زيدان الأكثر احتفاءً بالتصوير باعتباره يخلِّد «رسمهم». ونحن ندين لماجوريل في أولى رحلاته إلى المغرب ببورتريه رائع للباشا التهامي الكلاوي سنة ١٩١٨م. هذه المعطيات تؤكِّد أن المغرب، أحد البلدان الأكثر تشبُّعًا بإنكار التصوير ومعاداته في العالم العربي، قد كان على رأسه سلطان تعلَّم التصوير ومارسه؛ ممَّا يعبِّر عن الافتتان الذي مارسه هذا الفن، وأن الجوانب التشخيصية التي لم تكن بأي حال تُعارِض مبدأ تحريم التجسيم الذي ساد بالبلاد لقرون طويلة.

جنيالوجيا اللوحة الاستشراقية أو وساطات الغيرية

تنبني الرؤية الاستشراقية على مجموعة من الوسائط المادية والمتخيَّلة التي تسعى إلى حل مفارقات الذات الرومنسية ومأساوية وضعيتها. هذه الوسائط تمكِّن دائمًا من التجاوز المتخيَّل للمفارقات تلك، عبر تمكين الذات من إسقاط projection كامل أوهامها على الآخر. من ثم، فإن الرحلة سواء منها المتخيلة أو الواقعية، هي أساس وقوام ما يمكن أن نسميه المختبر الاستشراقي الذي فيه يتمكن الفنان من اختزال عالمه بكامله في مشرق متخيل، من جهة، وتركيز موضوعات الفن المتعددة في موضوعتين أو ثلاثة: المرأة، الأسطورة الدينية، الحروب، على سبيل المثال لا الحصر. تتمثَّل الوساطة الثانية في الأثاث والزخرفة؛ فهذه العناصر التمييزية للشرق تحوِّل هذا الأخير إلى موضع كنائي métoymique؛ أي إلى مجازٍ métaphore كبير لن يقترب الفنان الاستشراقي من حقيقته إلا بعد عشرات السنين بعد ذلك، حين سعى بعض الفنانين، الذين عاينوا الشرق وخبروه واستقروا به سنوات، إلى تكسير هذا الطابع المجازي، بل الأسطوري، وتحويل العمل الفني إلى عمل إثنوغرافي همه الأساس إعادة تمثُّل الآخر من خلال تمكينه من الاستعلان في اللوحة.
إن كيفية تكوُّن genèse اللوحة الاستشراقية أمر يندرج في أسطورتها، أو بالأحرى في أسطورة وجودها حتمًا. وتكون اللوحة وكيفية صناعتها والطريقة التي بها تعاملت مع المكان الذي تصوِّره، كلها عناصر تُفصح عن طبيعة النظرة الاستشراقية وتدخل في مكوِّناتها، وخاصةً في القرن التاسع عشر. فإذا كان بعض الفنانين الاستشراقيين قد تجشَّموا عناء السفر والوقوف على بعض أو مجمل الموضوعات والموتيفات والوضعيات التي عملوا على تشكيلها، فإن الباقي منهم قد ارتكز على عناصر غير عيانية شكَّلت محيط المنظور الاستشراقي الكلاسيكي منه والرومنسي:
  • الترجمات المتوالية لكتاب ألف ليلة وليلة والأصداء الاستيهامية التي تركها في المتخيَّل الغربي عمومًا.

  • الأخبار واليوميات التي كُتبت عن الرحلات إلى المشرق.

  • المصادر الأدبية المتداولة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وبالأخص منها كتابات لامارتين وفكتور هوغو، واللورد بايرون.

  • فيما اعتمد العديد من الفنانين على معطيات لباسية وأدوات وقطع أثاثية مستقاة من الشرق ليصوغوا من خلالها، وبشكل مضطرب أحيانًا، شخصيات تنم عن جهلهم بالخصوصيات الأنثروبولوجية والسلوكية والفنية لكل بلد من البلدان المشرقية.

ولئن كان بعض الفنانين الاستشراقيين كدولاكروا قد عاشوا الشرق عيانيًّا من خلال السفر، فإن آخرين كجان أوغست دومينيك إنغر قد صنعوه صناعةً ونظموه نظمًا؛ فقد ساهم النجاح الذي لاقته لوحة دولاكروا «نساء الجزائر» في صالون ١٨٣٤م في دفعه إلى أن ينحو منحًى أكثر شرقية. وتعد «الغانية ذات العبد»، التي بدأها سنة ١٨٣٨م وأتبعها بصيغة أخرى سنة ١٨٤٢م، ذات أهمية خاصة بالنظر إلى ما بثَّه فيها من ديكور وتلاوين وجوٍّ مفعم بالشبقية. صحيح أن إنغر كان قد منح لوحاتِه طابعًا شرقيًّا منذ ١٨٠٨م في لوحة المستحمة فالبانسون Valpiçon باقتراحه بعض التفاصيل الشرقية، ثم الحمام التركي، والأوداليسكا الكبرى سنة ١٨١٤م. الشرق الإنغري شرق أنثوي بالأساس، تجسِّده نساء عاريات مسترخيات ولامباليات. إنه شرق السلاطين والمرسم، ذلك الذي يكتفي به الفنان مقاوِمًا رغبة السفر، ساعيًا إلى اختلاق شرقه الخاص الذي يكون في عمقه شرقًا فقط، غير محيل على منطقة عينية بذاتها. هذا الشرق التخيلي يتم إنتاجه بشكل لا نتعرَّف فيه على هُويته الخاصة؛ فهو هندي وفي الآن نفسه عربي أو تركي أو فارسي، بل هو شرق يبنيه الفنان قطعةً قطعة، على هوى العناصر ومكوناتها ومؤثراتها؛ فترى هنا نرجيلةً تركية أمام بساط فارسي مجاورَين للباس عربي، وهكذا دواليك.
تحتل المصادر البصرية في هذه اللوحات مكانةً خاصة، سواء تعلَّق الأمر بالمنمنمات الفارسية أو المحفورات gravures. وتشكِّل اللوحات المطبوعة estampes المائة الممثِّلة لبلدان المشرق المختلفة، المنشورة سنة ١٧١٤م، مصدرًا أكيدًا لإنغر، وهي المصادر التي استوحاها أيضًا دولاكروا قبل سفره إلى المغرب. بل إن إنغر استقى صورة الخَصي المرافق للغانية في لوحته «الأوداليسكا ذات العبد» من إحدى المنمنمات الشرقية، كما يدل على ذلك رسم محفوظ في متحف مونتوبان بفرنسا.
من ناحية أخرى، تُعتبر كتابات الأسفار والرحلات مصدرًا آخر ملهمًا للاستشراقيين في صياغة شرقهم المتخيَّل، وتعتَبر رسائل اللايدي مونتاغي، سفيرة إنجلترا لدى السُّدَّة العثمانية، التي نُشرت بلندن سنة ١٧٦٤م، والتي كان إنغر قد اقتنى ترجمتها الفرنسية الصادرة عام ١٨٠٥م، ذات مكانة خاصة هنا؛ فقد استنسخ إنغر العديد من مقاطع الكتاب ووظَّفها في لوحاته الأودالسكية وفي لوحة «الحمام التركي»، بل إن الفنان حين حوَّل اللوحة إلى الشكل المربَّع مع تدويرها tondo، قام بتغيير معالم الباب ليغدو أكثر شرقية، مستوحيًا ذلك من لوحة عازفة الناي La Joueuse de flûte التي قدَّمتها هنرييت براون في صالون ١٨٦١م، والتي كان يملك نسخةً مطبوعة منها.٦

لم يكن إنغر الوحيد الذي بنى مشرقه الخاص في مرسمه؛ فنرسيس دياز دي لابينيا نفسه لم يتمكَّن من تجاوز باربيزون؛ نظرًا لأنه تعرض لحادثة بُترت على إثرها رجله، ففضَّل الإطلال من بعيد على مشرق أحلامه. يحكي أحد أصدقائه «زييم»: «كنت أرى دياز يصوِّر في الغابة الآثار السحرية للمشرق وسرابات غير منتظرة، حقيقيةً ومشمسة. كان الغجر هم تلك الوجوه التي تذكِّره بالمشرق أو تأخذ مكان الوجوه الشرقية، خاصةً وأن هؤلاء كانوا يُعتَبَرون مشارقة.»

يمكن القول بأن الفنان الاستشراقي كان يرتدي قناعه كما يقول الخطيبي٧ ليبتكر شرقًا خاصًّا به من غير أن يكون لعينه أي علاقة مباشرة به، أو في أحسن الأحوال من خلال وساطة ما خلَّفه بعض الفنانين الذين عاينوا تلك البلدان. وفي هذه العلاقة يبدو أن هذا الفضاء الغامض وشِبه الأسطوري كان يُحيل إلى مجال بدائي طالما تاق له الفنانون الرومنسيون. إنه فضاء يمكِّنهم من استكشاف هذه البدائية الخالصة التي يمثِّلها الماضي الذي فات؛ لهذا تزاوجَت لدى هؤلاء استعادة العديد من المشاهد الإنجيلية في فضاء الصَّحْراء مع ابتكار الجسد الشرقي في حُلَّته الاستيهامية.

صناعة الشرق وجسد الآخر

ينصاع جسد الآخر، الجسد الغريب étranger إلى كل الاستيهامات التي تستدعي الانجذاب أو القرف. وفي هذه العملية المزدوجة يتحوَّل جسد الآخر إلى جسد حيواني، كما صوَّرته مجازًا العديد من الكتابات الغربية، أو جسد فاتن؛ أي جسد يشكِّل تضعيفًا للذات الرائية. فالعلاقة الجمالية مع جسد الآخر لا يمكنها بأي شكل من الأشكال أن تخرج من النظرة الغرابية exotique الناجمة عن الصور النمطية stéréotypes التي تخص الآخر عمومًا في غيريته النائية. من هذا المنظور، لا يمكن اعتبار الاستشراق تشويهًا أخلاقيًّا لجسد الآخر، وإنما بالأساس نظرةً اختلافية مبنية على الاستيهام الإيروسي. إنها نظرة اختلافية ترد جسد الآخر إلى الذات ومكوِّناتها الجمالية، بحيث يغدو هذا الجسد الاختلافي في آخر المطاف جسدًا مملوكًا للرائي يُمارِس عليه هيمنته، وهو الأمر الذي يحوِّله إلى جسد مبتكَر inventé وفقًا لنظرة تقودها مفارقاتها إلى حدِّ هدم الاختلاف.
ربما كانت الغانية odalisque أبرز أنموذج تصويري لهذه المفارقة، فسواء تعلَّق الأمر بغانية أوغست رونوار أو دولاكروا، أو دومنيك إنغر أو ماتيس أو غيرهم من الأسماء الأخرى، فإن الأمر يتعلَّق بوضعة جسدية نمطية تنبني على الاسترخاء والخمول. وقد كتب ثيوفيل غوتييه في صالون ١٨٤٧م مصوِّرًا هذا النموذج الجسدي الأنوثي قائلًا: «الغانية تركيب من التلوينات، وجسد مجدول ومطاط، ينغمس من الرأس إلى القدمين في عتمة غرفة مغلقة. ليس ثمة من خيط نور ولا من انعكاس للظل؛ ومع ذلك ففي هذا اللون الأصيلي، تمتلك كل الأشياء قيمتها؛ فالأحمر ليس بأسمر والأزرق ليس بأسود؛ ووضعة اليد الممدودة على الخصر وهي تُمسك بغطاء علبة مجوهرات تُفصح عن عِقد من اللؤلؤ، مليئة بالرشاقة والخمول […] كل شيء هنا مصهور وهلامي وغافٍ! والألوان تصنع قيلولة الغانية.»٨ هذا الأنموذج الجمالي للمرأة الشرقية يجد أصوله في المتخيَّل الغربي في الأنموذج الجمالي للمرأة البضة الممتلئة، ويترجمه إلى وضعية جسدية تنم عن خمول الإنسان الشرقي عمومًا.
الغانية كما يقدِّمها الفن الاستشراقي في العادة الغالبة امرأة ذات جسد مجدول أبيض، يذكِّر بتقليد تليدٍ يعود إلى عصر النهضة الأوروبي، ويُحيل بالأساس إلى لوحة جيورجيوني Giorgione «فينوس الغافية أو النائمة». وقد سار على النمط نفسه العديد من الفنانين، بحيث إن فينوس تظهر في هذه الأعمال مستلقيةً متكئة على عضدها الأيسر وجسدها مستدير نحو المتفرج. وفي العديد من هذه المشاهد يوجد معجب جالس عند قدميها يعزف الموسيقى، وهو الموضوع الذي سوف يستعيده الاستشراقيون بكثرة. وفي هذه التصاوير التي غدت نوعًا من التقليد لم يُخفِ الفنانون مقاصدهم الغوائية، بل إن غويا في لوحته La Maja desuda (١٧٩٨–١٨٠٠م)، سوف يقدِّم لنا امرأةً أندلسية عارية، ويطعِّمها بمعطًى جديد يجعل الغانية تقدِّم جسدها بطريقة ماجنة؛ فنهداها يرتفعان وهي واضعة يديها خلف رأسها وتطبع على عينها غمزةً إباحية باتجاه المشاهد وكأنها تدخل في غوايته.
من ثم فإن الغواني والمستحمَّات اللواتي سوف يرسمهن إنغر، سوف يجمعن بين الحسن الجسماني والغواية الشبقية. وفي الغانية الكبرى (١٨١٤م، متحف اللوفر)، يقوم إنغر بتحويل موضوع كلاسيكي إلى موضوع استشراقي فقط بإضافة عَمرة turban بيضاء ومروحة يدوية مصنوعة من ريش الطاووس ونرجيلة ومبخرة.

تُعتبر المباينة اللونية، ومن ثم القيمية التصورية بين النور والعتمة، إحدى دعائم التصوير الاستشراقي للجسد الشرقي؛ فنحن نُعاين هذه اللازمة سواء لدى ماني في لوحته الأولمبيا كما لدى فريديريك بازيل في لوحته «الزينة» (١٨٧٠م) وجان جيل أنطوان كونت النويي في لوحته «الأمة البيضاء» (صالون ١٨٨٨م). وتبدو الغانية ذات العبد (١٨٣٩م) أكثر إيغالًا في هذه الخصائص؛ فاسترخاؤها وتمتُّعها بموسيقى العبد وشَعرها المنطلق ويداها المرفوعتان، كل هذا يعبِّر عن شَبَق لا يمكن أن تُخطئه العين. أما حضور الخَصِي الأسود في خلفية الصورة فإنه يطرح أكثر من سؤال عن طبيعة هذه المباينة الملتبسة.

إن بياض جسد الغانية يُحيل على مصدرين بصريين وأنثروبولوجيين: الفينوس البيضاء البضة التي يمكن اعتبارها المركز المتخيَّل المولَّد للنظرة للمرأة الشرقية، من ناحية، واختيار الفنان حصرًا للأنموذج الشركسي الذي كان معروفًا في السرايا الشرقية حتى حدود المغرب (إذ إن التهامي الكلاوي كانت لديه بالمغرب غانية شرقية تزوَّجها في نهاية حياته، كما أن تجارة الشركسيات كانت معروفةً بالمغرب حتى حدود نهاية القرن التاسع عشر). بيد أن هذا البياض الذي كان سمة القرن التاسع عشر لن يلبث أن يتغيَّر، بحيث إن نساء ماجوريل سوداوات من ضواحي مراكش، ذوات لون برونزي وذوات جمال أخَّاذ ورشاقة لا تُحيل مطلقًا إلى الأنموذج السابق ولا إلى الفضاءات المغلقة التي تؤطِّرها.٩

تعبِّر مشاهد الحمام والغواني عن نظرة بصاصة متطفلة ترفع الحُجب عن مجال مغلق في المجتمعات العربية والمشرقية. إنها تمكِّن الفنان الاستشراقي من وساطة يعبِّر من خلالها عن الطابع الإيروسي بشكل لافت، قد لا يكون مقبولًا إذا تعلق الأمر بموضوع غربي. إنها تخترق الحُجب بشكل مضاعف، من حيث إنها تهدم الحواجز التي لم يكن يصل إليها إلا النساء والخصيان والأطفال إلى سن معينة، وتخترق حجب الجسد نفسه سواء في ما يسمَّى الحريم، أو في الحمام. والمعروف عن النساء، العربيات على الأقل، أن زينتهن اللباسية كانت تتكوَّن من طبقات من الملابس استطاعت أن تعكسها العديد من تصاوير الفنانين الاستشراقيين، كما يتبدَّى ذلك مثلًا في لوحة «امرأة من الجزائر» لأوغست رونوار، والتي رسمها إحدى عشرة سنةً قبل زيارته للجزائر، متأثِّرًا فيها بتقنيات دولاكروا، ولوحات إتيين ديني أو ماجوريل وإيدي لوغران وغيرهم.

هذا الطابع التلصُّصي هو ما نجده أيضًا في إحدى الموضوعات الأكثر تواترًا في الفن الاستشراقي. يتعلَّق الأمر بلوحات السطوح، والسطح كما لاحظ ذلك سفير إيطاليا إلى المغرب، الذي أرَّخ لرحلة السفارة الإيطالية للمغرب١٠ مجال النساء بامتياز، ومكان مليء بالأسرار والحكايا. وهكذا فإن مخيلة الاستشراقي قد نحت إلى الامتلاك الشبقي لهذا الفضاء محوِّلةً إياه إلى مجال لمرايا رغبته الاستيهامية.

إن المُدهش في هذه السلسلة من اللوحات عن الغانيات، كونها في الغالب الأعم تخلو من وجود الرجل الغاوي. إنها مشاهد وحدة وعزلة تنضح بهذا الغياب. بيد أن الطابع الغوائي موجود، ونحن نُدركه بحيث نُحس الغانية وكأنها تُغازِل شخصًا موجودًا أمام ناظرَيها. أين يوجد هذا الرجل؟ إنه الرسام نفسه ويُعيد إنتاج ذلك أو بالموازاة معه المُشاهد المعاصر طبعًا وكل مُشاهد أتى بعد ذلك.

من صورة الآخر إلى الشرق الآخر

حين اضطُر الفرنسيون في الجزائر، وبالمغرب وغيره فيما بعد، إلى تحديد هُوية الجزائريين وجرَّدهم تبعًا لصورتهم الشخصية، لم يدركوا قط أن مفهوم الهُوية identité في العربية ينبني على الهُوَ، الغائب الحاضر، المتعالي المطلق. ولم ينتبهوا إلى أن الصورة تعني في اللغة العربية من ضمن ما تعنيه الوجه، وأن الوجه مجاز الجسد بامتياز،١١ بل إنهم تجاهلوا كون أخذ صورة للوجه أو الجسم يعني ضربًا من التملُّك السحري الذي يفصل بين الجسد (الصورة) والروح، وأن ذلك عمل شيطاني؛ لذلك فإن اغتصاب الصورة هذا كان يشكِّل ضربًا من العنف أعتى من العنف المادي الذي كان يمثِّله الاحتلال الفرنسي؛ فالجسد في عوالم الإسلام كِيان مقدس وصورة لا تنتمي إلا لخالقها، ولا حق لأحد في صُنع أشباح أو ظلال لها. والبورتريه سواء كان فنيًّا، كما مارسه الاستشراقيون، أو كان فوتوغرافيًّا كما مارسته بشكل عسفي السلطات الكولونيالية، ضرب من التضعيف الذي يمس هُوية الجسد وهُوية الشخص من حيث إنها هُوية تنبني على الحضور والغياب في آنٍ واحد.

من ثم، ليس بالغريب أن أغلب البورتريهات الكارتبوسطالية قد كانت في البداية وفي الغالب الأعم لمومسات أو ليهوديات كنَّ على الأقل بالمغرب، تحت الحماية الأجنبية. بل إن جُل التصاوير العارية للشخصيات النسائية في العالم العربي وفي المغرب قد تم تبعًا لنماذج مقتناة صورتها بالكد الأكيد لعواهر يبدو عليهن الضجر خاصةً في الصورة الفوتوغرافية التي لا تحتمل التجميل.

ربما كان ما ظل يفتن الفنان الاستشراقي في كل هذا هو هذه الألبسة الفضفاضة المغايرة للكورسيه، الذي يشكِّل قفصًا لجسم المرأة الغربية؛ لذلك فإن البورتريهات، النسوية منها بالأخص، التي ندين بها للمستشرقين في هذا المضمار، ظلَّت في أغلبها بورتريهات متخيلة؛ لأن النساء اللواتي رُسمت صورتهن كنَّ يرفضن الاستعراض الذي يتطلَّبه التصوير.

مع ظهور التأثير الياباني، وتوالي الرحلات الفنية إلى مجمل بلدان العالم العربي في أواخر القرن التاسع عشر، بدأ الفنانون الاستشراقيون يتخلَّون تدريجيًّا عن استيهاماتهم، ومعها عن مصادرهم البنيوية الثابتة؛ فبدءوا يقتربون حثيثًا من هذه البلدان التي أصبحت تبدو لهم بعيدةً كل البعد عن فضاءات ألف ليلة وليلة الشبقية. وهكذا تحوَّل موضوع الجسد من التعرية إلى الاستكشاف الإثنوغرافي، والمعايشة العيانية. وهو الأمر الذي جعل غابرييل غير الذي استقرَّ بطنجة ينتقد صراحةً هذا التصور وذلك التصوير: «ذهب البعض إلى تصوير المغاربة في صورة كائنات بهيمية، كل همها إشباع رغبات هي في عمومها، حارة عنيفة، فيما يعجزون عن بذل المشاعر الرقيقة. وأعظِمْ به من خطأ! فقد ذُكر لي من المغاربة من يأتون في مجامعتهم للمرأة من الرقة واللطف ما يحسدهم عليهما كثير من الأوروبيين …»١٢

من ثَم، يمكن القول إن واقعية التصوير الاستشراقي غدت حميمية، تلتقط الوضعات في سياقها وتُركِّز على الموضوع في غياب جماليته النمطية الموروثة، بل إن بعض الفنانين استقروا نهائيًّا في بلاد المشرق، ومنهم من بدأ يأخذ دروسًا بالأزهر، ومنهم من اعتنق الإسلام. هذه المعطيات الجديدة سوف تُنتج مقاربةً جمالية جديدة للجسد والفضاء تُتابع أيضًا التطورات الفنية والتقنية التي عرفها التشكيل مع الانطباعية ثم مع السوريالية والدادائية والتكعيبية.

لقد غدا الجسد من هذا المنظور تعلةً prétexte للبحث الشكلي، والشرق نفسه مكانًا من ضمن الأمكنة الأخرى ومصدرًا لهذا البحث لا موضوعًا للاستيهام. هكذا نزع الفنان الاستشراقي قناعه، وعِوضَ مسرحَةِ mise en scène الجسد وصناعة غرابته صار يجعل منه موضوعًا لاستكشاف المعنى. ربما هذا بالضبط ما جعل ماتيس الذي يُفضِّل مفردة «الانتقال» على لفظة «السفر» يقول بنوع من المفارقة: «أنا مُعادٍ عداءً كبيرًا للبيتوريسك؛ كي تؤثِّر الأسفار فيَّ كثيرًا.»١٣ إن هذا الزعم يخلق قطيعةً كبرى على مستوى الوعي مع السفر الفعلي والخيالي، ويحوِّل الآخر إلى صدفة داخلية خاضعة لضرورات التشكيل الفني. هكذا نرى ماتيس يتخلَّى عن تقنيتي الباستيل والأكواريل ليتخلى معهما عن الرسوم التمهيدية esquisses اللاهثة وراء التقاط عينيات اللحظة والحركة. وعِوض الطابع التلويني، الذي يُضفي على اللوحة صبغةً قريبة من الواقع أو الاستيهام، ينزع هو إلى اختيار اللون الواحد في رسومه بالريشة وإلى تخليص الرسم من الإشباع. من ثم فإن هذا المنحى سوف يخلق لديه كما لدى معاصره بول كلي، وقبلهما تدريجيًّا لدى العديد من الفنانين، نوعًا من بساطة اللوحة التي يتم فيها العزوف عن التقاط التفاصيل الغريبة والعجيبة والاشتغال على المساحات اللونية، بل إن الوجه إذا لم تَغِب ملامحه، فهي على الأقل تغدو مؤسلبةً ومختزلة في عناصرها الأساس. إن هذا الابتعاد عن المحاكاة المتخيَّلة والواقعية هو ما سيُحوِّل الشرق إلى لعبة جديدة تُعتَبَر بشكل ما تعلة prétexte أكثر منها نصًّا بصريًّا texte، إذا ما نحن أبحْنا هنا لأنفسنا اللعب على المرادفات الفرنسية وجناسها. كما أن الاهتمام بالعلامات والرموز لدى ماتيس جعله يحوِّل الجسد نفسه إلى علامة لا إلى مرجع استيهامي.١٤

الأمر نفسه سوف نعيشه مع أوغست ماك وبول كلي ولوي مولي الذين أقاموا بتونس بين ٧ و٢٢ أبريل ١٩١٤م؛ فقد رفض بول كلي الانصياع للنمطي والغرابة النافرة، مقتنعًا أن بحثه الفني يسير أبعد من ذلك. وبالرغم من أن لاماتيس (كما نلاحظ ذلك في «غانيَتِه») ولاكلي أو ماك كان بإمكانهم الانسلاخ التام عن الصور النمطية التي أشاعها الاستشراق؛ فقد استطاعوا منح الأولوية للبحث التشكيلي على المسبق البصري؛ فبول كلي أيضًا عثر على آثار ألف ليلة وليلة في تونس، وكما يذكر ذلك في يومياته، فقد جاءه أيضًا الانطباع في لحظة معينة بالإحساس الإنجيلي. مع كلي وماك غاب «الموتيف» الزخرفي الذي كان يشكِّل لُحمة التصوير الاستشراقي، الذي ظل حاضرًا رغم ذلك في أعمال ماتيس؛ فجاءت أعمالهما عبارةً عن نظرات عامة لا تشخِّص بالضبط أي شيء. إنه تصوير تركيبي يؤلف بين معمارية المكان ومعمارية اللوحة. ثمة إيقاع في اللمسات يحيل إلى الإيقاع الموسيقي. إنها موسيقى الألوان التي اتحد بها بول كلي، ليتخلى عن الوصف التشخيصي مؤْثرًا عليه الإنصات لنظرة حساسة تركيبية ابتكرت شرقًا آخر غير عاطفي، بل ذهنيًّا هذه المرة.

الاستشراق الداخلي: المرايا المنعكسة

يتخلى الاستشراق الداخلي عن رؤيته العلامية للصورة وللمرجع؛ ليتبنى فكرة الصورة مُنطلَقًا. إن هذه العلاقة ترمي بالعلامة خارج المرئي وترمي بالصورة خارج اللامرئي، وتخلط من ثم بين السجلين بشكل تنعكس معه الوظيفة البصرية نفسها للذات. كيف ذلك؟ حين يتجه الفنان العربي على سبيل المثال إلى استعادة الوضعات الاستشراقية والموضوعات التي تداولها والتقنيات التي نظر لها وبناها من خلال تلك النظرة، وحين يستوحي النظرة الغرابية exotique عن الذات، فهو يمارس ضربًا من الانفصام الزمني التاريخي والفضائي. إنه يستبطن نظرة الآخر بشكل مركب؛ فهو لا ينساق معها انسياقًا، وإنما يمارس عليها ضربًا من التحويل الداخلي الذي يجعل منها نظرةً مشروعة في كل الأحوال.

يتخذ هذا التحويل أشكالًا عدة؛ فهو يبدأ بتجريد نظرة الآخر من كل طابع إيروسي مقنَّن، سواءً من خلال التخلي عن العراء أو من خلال التخلي عن الوضعيات النمطية للجسد؛ فالجسد الاستشراقي الداخلي جسد متحرك، والموضوعات التي يختارها غالبًا ما تتخذ طابعًا فضائيًّا، بحيث إن الاهتمام بالجسد نفسه لا يكون إلا بالعلاقة مع المعطيات الإثنوغرافية المحلية التي تُشكِّل تميزًا معينًا كالاهتمام باللباس، والحلي والفنون التقليدية والبنايات العتيقة كالقصور في الواحات الصحراوية والمآثر التاريخية؛ أي كل تلك العناصر التي كانت منطلَقًا بصريًّا للنظرة الاستشراقية سواء كانت أدبيةً أو تصويرية، بل إن اختيار التشخيص نفسه يدخل هنا باعتباره منطلَقًا مشتركًا للنظرتين المتمرئيتين معًا.

يمكن اعتبار محمد راسم في الجزائر ومريم مزيان بالمغرب ممثلين لهذا المنزع بالرغم من الاختلافات التي تطول منظورهما وممارستهما الفنية. فإذا كان الأول قد ظل معتمدًا، وبالكثير من المفارقات، كما يبيِّن ذلك محمد خدة في كتابه عنه،١٥ على تقنيات المنمنمة مازجًا إياها هنا وهناك بمعطيات اللوحة التشكيلية؛ فإن الثانية قد درست الفن في إسبانيا لتُكرِّس حياتها لتصوير مقاطع من فضاءات المغرب العتيق ونسائه وطبيعته. ولنأخذ من الأول نموذجين أساسيين: الأول هو «نساء في شلال» والثاني هو «الحديقة الداخلية». يمكن اعتبار لوحة نساء في الشلال إحدى أكثر التصاوير العربية الحديثة تأثرًا بالنموذج الاستشراقي كما تبلور لدى الفنانين الذين تعرَّضنا لهم بالتحليل، لا فقط من خلال اختيار الفضاء ولكن أصلًا من حيث المعالجة البصرية؛ فالتقنية الرسمية وإن كانت لا تزال خاضعةً لتخطيطية المنمنمة، إلا أنها تخلق نوعًا من الحركة التشخيصية التي تُقرِّبها كثيرًا من التصوير التشكيلي الحديث. يعمد الفنان هنا إلى تصوير الجسد في انكشافه الطبيعي؛ أي في ضرب من الالتباس الذي يُعبِّر عنه بشكل واضح اكتشافنا لصيغتين من هذه اللوحة: الأولى يثبتها محمد خدة١٦ من غير إشارة إلى مصدرها ولا إلى معطياتها التقنية، والثانية تذكرها ماريون فيدال بيبي.١٧ ففي الصيغة الأولى تبدو امرأة تستحم عارية من الجانب، تظهر مفاتنها كلية، فيما لا يُبدي النساء المجاورات لها إلا بعضًا من أجسادهن. وفي الثانية تحافظ النساء على ستر الخصر والأرداف، تاركات نصفهن العلوي باديًا للعيان بالرغم من حركة إخفاء النهدين بالأيدي. إن اختيار الفضاء المفتوح، فضاء الشلال هنا، إن كان يغني الفنان عن وظيفة البصاص التي نجدها حاضرةً بقوة في الفن الاستشراقي، فإنه مع ذلك يجعله يُلطِّف من حِدة الكشف الجسدي، ويجعل منه شيئًا أقرب إلى الضرورة، وخاصةً منه إلى الاستباحة. مع ذلك، فإن حركات الإخفاء التي نشهدها، تجعل المتلقي يُحس بوجود عين رائية، تبدو وكأنها تفاجئ المستحمات من غير أن تُشكِّل عنفًا مباغتًا يدفعهن إلى الاستتار. في وضعية الأجساد الأنثوية هنا، ثمة حركة انسيابية تمنح المصوِّر الرغبة في إدماج الجسد في سياقه الطبيعي، خالقًا بذلك جماليةً لا تهتم بالجسد في حد ذاته بقدر ما تسعى إلى مراوغة حضوره الغوائي.
أمَّا مريم مزيان، فإن تكوينها الكلاسيكي في الأربعينيات بإسبانيا جعل منها فنانةً مشدودة إلى المواضيع النسوية والفضاءات المختلفة للمغرب. ونساؤها يتسربلن بأبهى الحلل ويتخذن وضعات قريبةً من التصوير الفوتوغرافي، بل إن إحدى لوحاتها تُحيل بشكل شبه تناظري إلى لوحة دولاكروا المشهورة «نساء الجزائر».١٨
ثمة أيضًا حالات تُثير إشكالًا في تساؤلاتنا: هل نعتبرها حالات وسيطةً ملتبسة؟ هل ننظر إليها باعتبارها توافقًا صُدفويًّا؟ أو ما يشبه المفاصل؟ ذلك هو حال فنان تشكيلي معروف بالمغرب بولعه بالفَرَس والفرسان حسن الكلاوي (وُلد سنة ١٩٢٣م)، الابن الأصغر لباشا مراكش المشهور التهامي الكلاوي. هذا الشاب الذي عاش مع أبيه علاقته بأهم الفنانين الاستشراقيين والكولونياليين الذين مروا بالمغرب أو استقروا به كجاك أزيما، وماجوريل (الذي ندين له ببورتريه رائع للباشا)، وإيدي لوغران وغيرهم. وإذا كان من المعروف أن هؤلاء الفنانين قد بلوروا نظرةً إثنوغرافية تحتفي بالمرئي أكثر من احتفائها بالمُتخيَّل، فإن لوحات الكلاوي بشخصياتها الحركية وأفراسها المتماوجة تدخل في علاقة تأويلية بالمرئي. صحيح أن اعتماد الفنان على التشكيل البصري للشخصية يتجاوز بكثير الرؤية الكلاسيكية، غير أن الاستشراق المتأخر، سواء لدى ماتيس أو غيره، كان قد تحرَّر من الدقة ومنح الشكل طابعًا تركيبيًّا لا يعتمد على التفاصيل بقدر ما يتوخَّى تشكيل الملامح العامة للمرئي. من ناحية أخرى، فقد تعلَّم حسن الكلاوي الرسم بباريس على يد جان سوفربي، الذي ندين له ببعض اللوحات ذات الطابع الاستشراقي، مما يبرِّر بشكل أو بآخر سؤالنا هنا.١٩

إن هذا الضرب من التجارب لا يدخل في الرؤية الاستشراقية بقدر ما يظل تحت تأثيرها، ولا يتحرَّر منها بقدر ما يبقى في عتبتها. من ثَم، يمكن القول بأن امتدادات الرؤية الاستشراقية قد جاوزت الفنانين الأجانب لتجد لها مرتعًا في نظرة الفنانين المحليين أنفسهم. ولا أدلَّ على ذلك من الفيلم المطوَّل الأول للحسن زينون، الذي عُرض بالمهرجان الوطني المغربي الثامن للفيلم بطنجة (عود الورد)، الذي يستعيد فيه المخرج وضعات المرأة المتكئة الخاملة التي تُذكِّرنا بشكل دامغ بالغانية كما صوَّرها الفن الاستشراقي في القرن التاسع عشر. وهو ما يجعلنا نتأكد من أن الاستشراق قد أنتج صورةً للعربي تمثَّلها هذا الأخير وظل يُعيد إنتاجها وكأنها صورته هو.

فيما وراء المرآة أو المرايا المُقَعَّرة

حين سُئل فريد بلكاهية في أواسط الستينيات في سلسلة حوارات أجرتها مجلة أنفاس مع الفنانين المغاربة عن علاقتهم بالتراث التشكيلي المغربي، كان جوابه بالشكل التالي: «لقد كنت حساسًا حيال العلامة من بداياتي التشكيلية؛ فحوالي سنة ١٩٥٦م، قلب اكتشافي لبول كلي وعيي رأسًا على عقب. أحسست بأني قريب من العلامة في أعماله، وفقط فيما بعدُ علمت أنه عاش لفترة في أفريقيا الشمالية وأن أعماله عرفت آنذاك منعطفًا حاسمًا.»٢٠

إن هذه العلاقة مع العلامة وهي تمر من خلال فناني ما بعد الاستشراق؛ أي أولئك الفنانين الذين جعلوا من الفن لافضاءً للمثاقفة البصرية وإنما فضاءً لتجاوز الجمالية الغرابية تؤدِّي وظيفتين متكاملتين: وظيفة التوافق مع التراث العلامي المحلي من غير السقوط في الهُوية العمياء، ووظيفة تكسير المرآة النرجسية التي خلقها الفن الاستشراقي باختزاله للشرق في النظرة الأنوية. قد يقول قائل بأن المغرب قد عُرف بنزوعه المعادي للتصوير طيلة تاريخه، مقارنةً مع التأثير التصويري الفارسي والعثماني الذي عرفته بلدان المشرق حتى تونس والجزائر خلال الهيمنة العثمانية. يكفينا هنا أن نذكر أن ذلك لم يكن حائلًا، بل كان مؤشرًا خصبًا، للدخول في الحداثة التصويرية من أوسع أبوابها؛ ففي الوقت الذي كان فيه محمد راسم يتأرجح بين التصوير المنمنمي والتشكيل (كما يذكر ذلك محمد خدة)، دخل محمد بن علي الرباطي مباشرةً في التصوير الحديث. بل إن فترة الصمت التي عرفها التشكيل المغربي بين الثلاثينيات والخمسينيات قد مكَّنت الفن المعاصر من الولوج إلى التشكيل التجريدي ولوجًا مباشرًا مع أحمد اليعقوبي والجيلالي الغرباوي.

الأمر نفسه ينطبق على مجمل العالم العربي بهذه الدرجة أو تلك من الحدة والسبق الزمني. فإذا كان الفن العربي قد ظلَّ محافظًا على أصوله الغربية، يستعيد نظام الأيقونة وتقنيات البورتريه مع داود قرم في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، فإنه لن يلبث أن يُفيق لصورته الثابتة فيه ويستقبل ذاته في مرآة نفسه ويعمد إلى التآلف أخيرًا مع نظم العلامة السارية في ثنايا جسده؛ لهذا ليس من الغريب أن يسعى الجيلالي الغرباوي إلى تحويل عنفه الذاتي إلى سلسلة من التأليف التي يمكن اعتبارها تصورًا جذريًّا للذات يسير بها إلى أقصى درجات التجريد، التي تنمحي معها الحدود بين الوجود واللاوجود وبين التشبيه والتنزيه والتجسيم والتجريد.

وربما كانت أعمال أحمد الشرقاوي هنا تحويلًا لهذه الهُوية المضلِّلة التائهة والجذرية إلى اختيار مرآوي جديد يجعل من العلامة بدلًا للجسد، ومن الخطوط بديلًا للمنظر، بل إلى تحويل العلامة إلى جسد ومنظر في الآن نفسه؛ فقد كانت تجرِبته الفنية تمتَح من الجسد علاماته ورموزه الموشومة عليه، ومن فضاء الزَّربية ما نسجته عليه أيدي الناسجات من علامات ورموز. بالمقابل فإن تجرِبة فريد بلكاهية انطلقت بشكل أولي من الجسد (الوجه) لتحوِّل هذا الأخير إلى مجموعة من العلامات الشذرية التي لا تتجاوز مناطقه المميَّزة. هذا المنحى هو الذي سارت فيه في الفترة نفسها من ولادة وتنامي الفن العربي المعاصر تجارب محمد خدة مع العلامة المجسدة ونجا المهداوي مع العلامة الحرفية، وغيرهما كضياء العزاوي وشاكر حسن بالعراق.

ونحن نُتابع هذه التحولات نستشف منها أن ثمة حركتين تقفان وراء هذه اللعبة المرآوية مع الآخر:

  • حركة راديكالية يتم فيها ضرب من المواجهة البصرية، محكومة بحركة نفي يقود بالضرورة إلى توكيد صورة الذات، وعَوْد من ثم إلى قراءة خصوصية للجسد تستثمر وجوده بشكل مجازي تارة، وكنائي في الغالب؛ فالوشم والعلامة الرمزية كنايات ترميزية للجسد في حضوره وغيابه في آنٍ واحد.

  • حركة تحويلية تستحضر الجسد من حيث هو علامة بصرية ودائمًا من خلال لعبة مجازية ترميزية مؤسلبة.

إن الفرضية الأساس التي نسعى إلى التفكير فيها والبرهنة هنا عليها تتمثَّل فيما يلي: إذا كان الاستشراق، سواءً منه الرومنسي أو ما بعد الرومنسي والانطباعي، قد ابتكر لنفسه شرقًا معينًا ينبني على مجموعة من الثوابت التي تم تكوينها وتطرَّقنا إليها مجملًا، فإن الأزمة التي تعرض لها تمثَّلت في تعدُّد المشارق التي وجد نفسه في مواجهتها (الشرق الأدنى والأوسط والأقصى)، وبخاصة التأثير الخاص التصويري الذي مارسه هذا الأخير، ومن ثم في انزلاق الاهتمام الاستيهامي بالعالم العربي من جهة، وفي التحولات التي عرفتها النظرة العربية بالأخص بالموازاة مع التطورات السياسية والتواصلية بهذه البلدان، وبالتحولات التي عرفتها الفنون أيضًا ونظرتها للمرئي وللجسد وللآخر. إن مجمل هذه التحولات هي التي جعلت الفن الغربي يكتشف العالم العربي لا باعتباره شرقًا وإنما باعتباره موطنًا لعوالم فنية جديدة ولعوالم بصرية مغايرة. وفي هذا التقاطع التأثري حدث الانتقال من مركزية الموضوع وآثاره الجمالية إلى مركزية الآثار الجمالية وثانوية الموضوع. بمعنًى ما، تم الانتقال من الجسد إلى العلامة باعتباره ضربًا من التحول الداخلي للرؤية الفنية التي تستقبل الشرق باعتباره موضوعًا فنيًّا. هذا الانتقال هو ما يجعل الحركة الفنية المعاصرة في الوطن العربي تسير في منحًى معكوس، بانيةً هُويتها الفنية على الانتقال من العلامة إلى الجسد.

وهذا الانعكاس ملائم أيما ملاءمة لطبيعة التصوير في العالم العربي، الذي يجعل من الفنان التشكيلي يجد هُويته الثقافية في العلامة الرمز، وانطلاقًا منها فقط يحرِّر بصره وبصيرته كي تتعامل مع الجسد باعتباره كِيانًا ينطلق من اللامرئي باتجاه المرئي. إن هذه الرؤية الترانسدنتالية إن صح القول تشبه إلى حد بعيد التصور الصوفي للجسد كما هو لدى ابن عربي على سبيل المثال، الذي يجعل من تصور اللامرئي (الحق) في الأنثوي تصورًا تعدُّديًّا بحيث إن المرأة الواقعية ليست سوى إشارة/رمز للذات الإلهية؛ أي إنها معبِّر مشذَّر وتجزيئي وعارض للامرئي في تعاليه وتنزُّهه. يتعلَّق الأمر لدى المتصوف كما لدى الفنان العربي بتنزيه وتشبيه في الآن نفسه. وفي هذه المراوحة يمكن القول بأن الفن العربي، بالرغم من اندراجه في سياق ومسير الفن العالمي لا يحتاج لهذا الفن ليبرِّر تعاطيه للتجريد وللعلامة؛ فالعكس هو الحاصل لأن حضارات العلامة كما بيَّن ذلك رولان بارت وعبد الكبير الخطيبي تعتبر الزخرفي أمرًا لا علاقة له بالحذلقة التزيينية، وإنما تعبير مجرد عن الوجود.
١  الصفَّار، صدفة اللقاء مع الجديد، رحلة الصفَّار إلى فرنسا، ١٨٤٥-١٨٤٦م، دراسة وتحقيق سوزان ميلار، تعريب خالد بن الصغير منشورات كلية الآداب، بالرباط، ١٩٩٥م، ص٢١٢.
٢  انظر بهذا الصدد: Daniel Rondeau, A. Slaoui, N. de Pontchara, Un peintre à Tanger en 1900: Mohammed Ben Ali R’bati, éd. Malika, 2000.
٣  F. Zahi, D’un regard l’autre: l’art et ses médiations au Maroc, éd. Marsam, 2006, p. 17 et supra.
٤  Alain Daguerre de Hureaux, Stéphane Guérin, l’ABCdaire de Delacroix et l’Orient, Flammarion, 2001, p. 65.
٥  عن المغاربة والتصوير انظر: فريد الزاهي، العين والمرآة: الصورة والحداثة البصرية، منشورات وزارة الثقافة بالرباط، ٢٠٠٥م، وخاصةً «المغاربة والصورة»؛ وعن تاريخ التصوير في العصور القديمة بالمغرب انظر المقالة الفريدة لمحمد المنوني، دعوة الحق، ع١-٢، يناير ١٩٧١م، ص٨٣. ويمكن فيها أن نقف على الهامشية القصوى للتصوير بالمغرب في ما قبل الاستعمار وارتباط التصوير بالقرن العشرين.
٦  Abdelkébir Khatibi, Le Corps oriental, Hazan, Paris, 2002, p. 121.
٧  أبجدية دولاكروا والشرق، مرجع مذكور، ص٦٩.
٨  Félix Marcilhac, Jacques Majorelle, ACR, Paris, p. 158 et supra.
٩  Edmond de Amicis, Le Maroc, librairie Hachette, Paris, 1882, p. 265.
١٠  انظر فريد الزاهي، الجسد والمقدس والصورة في الإسلام، منشورات إفريقيا الشرق، الدار البيضاء، ١٩٩٩م.
١١  غابرييل فير، في صحبة السلطان، مرجع مذكور، ص١٠٦.
١٢  Christine Peltre, Les Orientalistes, Hazan, Paris, 1997, 2000, p. 262.
١٣  هذا ما نلاحظه بشكل جذري في لوحته المغربية «المقهى المغربي» (١٩١٢-١٩١٣م) و«المغاربة» (١٩١٥-١٩١٦م)، و«الستار المورسكي» (١٩١٢م). انظر بهذا الخصوص: Matisse au Maroc, ed. Adam Biro, 1990.
١٤  Mohammed Khadda, Mohammed Racim, Miniaturiste algérien, ENAL, Alger, 1990.
١٥  المرجع نفسه، ص٤٨.
١٦  Marion Vidal-Bué, Alger des peintres, 1830–1960, Paris-Méditerranée, 2000, p. 54.
١٧  Meriem Mezian, Pinturas, Madrid, 1994.
١٨  Nicole de Pontchara et al., Hassan El Glaoui, l’homme et l’artiste, éd. Matisse art Gallery, Marrakech, 2005, pp. 35-36.
١٩  Ibidem.
٢٠  Souffles, N 7-8, 1967, 2007.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥