أركيولوجيا التملك١

أن يتنطَّع باحث عربي لتتبُّع المسارات الغامضة والمتشابكة والمتشرنقة لانتقال ذاكرة الشرق إلى الغرب، أمر يتطلَّب من الأناة والصبر ومن فن القفاية الكثير؛ فشربل داغر، وقد استقر في فرنسا لمدة، ووقف على تنوُّع «تراثها» الثقافي، لم يكن له إلا أن يجد ماضيه وقد أُعيدت صياغته من قِبل الآخر، ليُقدِّم إليه في متاحف ومجموعات ومقتنيات تستنبت في فضاءاتها الخاصة وجود الشرق، وتُعيد ابتكاره وفقًا لاستراتيجيات تداولية تمارس عليه تحويلًا transfiguration واعيًا ولا واعيًا يتماشى مع المؤسسة الرمزية التي تمنح القيم المادية واللامادية للأشياء، وتُبلور مقولات جديدةً من قبيل الفن الإسلامي والفن الشرقي وغيرهما. إنها مهمة تاريخية وتأريخية من العسر بحيث لا يمكن أن يقوم بها إلا باحث مغرم بالحكايات والنوادر ويحمل ثقافةً وطاقة موسوعيتين، ويتسلَّح بفكر حَذِر ويَقِظ وبرغبة تفكيكية تُجاوز حدود الذات؛ فالعملية لعبة مرايا مضاعفة يتمرأى فيها الآخر في الأنا، ويتمرأى فيها الباحث في الصورة التي صاغها الآخر عن أناه وفقًا لتاريخ يجب كتابته من جديد تبعًا لمنظور حفرياتي. وبما أن التاريخ كما تقوله اللغة الفرنسية أيضًا حكاية (Histoire/histoire)، فإن النظرة الأركيولوجية لا يمكن أن تسلم من الرغبة السردية حتى وهي تسعى إلى البحث عن النواظم المعرفية والأيديولوجية والقيمية، وشبكات السلطة التي تنصاغ من خلالها. وتتحول الرغبة السردية إلى رغبة تأريخية تاريخية، من حيث إن التاريخ، وهو يسعى إلى الكونية والمطلق مع الاستشراق، يترك لنا في فضائنا التاريخي المتشذِّر اليوم إمكانية ملامسة التواريخ الجهوية (فوكو) باعتبارها سبيلنا الأوحد لتفكيك وحدانية التاريخ الأكبر وأحاديثه المهيمنة.

لذاك يختار شربل داغر أن تكون مداخِله مزدوجة المسعى. من جهة، تقديم المادة الحكائية الوقائعية بحبكاتها المُعلَنة والمضمرة، المتعلِّقة بمقاصد وعمليات ومسارات ابتكار الموضوع الجمالي؛ إذ يتعلق الأمر فعلًا بتحويل لشيء من تراث محلي إلى تحفة نادرة أو شيء نفيس؛ ومن جهة أخرى تحديد مسلَّمات ومكوِّنات السلوك الجمالي (حسب تعبير جان ماري شيفر) المرتبط بمصائر الموضوع الجمالي، وهو اختيار نابع من الضرورة التي يُحسها الباحث في التطرُّق لموضوع ظلَّ مُهمَّشًا في تناول العرب للاستشراق: «ألهذا الكتاب لزوم في البحوث على ضوء ما صدر من كتابات قريبة أو مماثلة له؟ لقد تحقَّقت … أن موضوع البحث ظل مهمَّشًا في مدًى بحثي لم يُعِر الفنَّ عمومًا والإسلاميَّ منه خصوصًا اهتمامًا يُذكر. وهذا يعني أن دارسي أو مُراجعي المتن الاستشراقي حافظوا، وما أخلوا، بأساس المتن الدراسي كما وضعه وثبَّته المستشرقون أنفسهم؛ أي «الكون النصي» كما أسماه إدوار سعيد» (ص٣٥).

لذلك يجهد الباحث منذ البداية في استحضار هذه العلاقة المرآوية مع الذات ومع المنهج ومع تاريخ القضية التي يطرقها، فيُؤسِّس لمشروعية بحثه هذا نصًّا ونظرًا ومفهومًا، وهو الأمر الذي يجعل المقدمة الفكرية الجمالية في نظره ضروريةً لخلق الشبكة أو النسيج الذي يمكِّنه من بناء المقصد والموضوع والغرض والنظر، في الآن نفسه.

مرحلة التملك «الهمجي»: من التحفة إلى الفن

في الجزء الأول المخصَّص للنادر والعتيق يؤرِّخ المؤلف لولادة هذا المنزع المتمثل في المغايرة، من خلال اكتشاف الغير وثرواته، من مؤلفات وطرائف ونوادر تماشت مع ولادة البُعد الثقافي للمغايرة، ثم نشوء المكتبات والجامعات وأكاديميات التصوير. فمن الساعات، باعتبارها تزمينًا للعلاقات، إلى الأذونات التجارية التي فازت بها الدول الأوروبية مع العالم الإسلامي منذ القرن ١٦، مرورًا بالسفارات، عرف الاهتمامُ بالمنتجات الشرقية بداياتِه الفعلية؛ فالمومياءات رحلت لأول مرة إلى الغرب على يد تُجار فرنسيين مقيمين بالإسكندرية والقاهرة في هذه الفترة بالذات (ج١، ص٢١٨). والأكيد، حسب الباحث، أن تطوُّر هذه العلاقات قبل حملة نابليون على مصر قد خضع لضرورات داخلية في فرنسا، نمت معها هذه المهام الجديدة التي أنتجت صياديها وجمَّاعيها المتعطشين لغرابة الشرق ومنتجاته التي تجمع بين بيض النعام، والمومياءات والحيَّات والتماسيح، والفواكه وغيرها (ص٢٣٦)، ممَّا ينبئنا بالهُجْنة التي كانت تعرفها آنذاك نظرة الشرق، التي تخلط بين المنتجات الطبيعية والحضارية؛ أي بين التقنية والفطرة، وهو ما كان يميِّز النظرة الغرابية exotisme آنذاك.

فمن رحلة بول لوقا بتكليف من لويس الرابع عشر في ١٧٠٨م إلى المشرق، مرورًا ببعثات غالان وغيره، وصولًا إلى إنشاء المتحف الجامع والعمومي، تكشف سيرورة البحث عن ولع الفئات المثقَّفة بعد الثورة بالفن المشرقي؛ فقد غدا المشرق متحفًا للعقلية الفرنسية الممأسسة بعد أن كان متحفًا خياليًّا (حسب تعبير أندري مالرو)، متشعِّبًا في الصالونات والبيوتات. وفي سياق حملة نابليون على مصر وجدت حملات التنقيب عن الآثار مرتعها، مع بعثتَي شمبوليون ورينان. فَتَحْت حماية الجند، بدأ الاستشراق الآثاري يعلن عن وجهه الحقيقي باعتباره عملية نهب ممنهجةً حوَّلت الجنود أنفسهم إلى عَشَقَة للمأثورات؛ ذلك أن الحداثة الفرنسية غدت شغوفةً بالماضي وعلم التاريخ وبإعادة صياغة معناه: «لهذا فإن تتبُّع ودرس مسار الآثار يقتضي الوقوف عند التنقيب، عند مجهودات العلماء الذين جعلوا من البحث عن الماضي من توفير مجموع مادي وتفسيري له شاغلهم الأول؛ لهذا كان العثور على الأثر ودرسه سابقًا في الأولوية على الجمع المادي نفسه، وهو ما يرسم انقلابًا لافتًا بين المعنى والملكية في هذه الدورة …» (ص٣٧٤). إن نشوء المتحف يتزامن في هذا الإطار وخروج الفن عمومًا من الفضاءات المالكة إلى فضاءات التملك العمومي وتقاسم المتعة الجمالية. وهذا التزامن يؤكد مرةً أخرى تلك الرغبة في صياغة الحاضر وفقًا للحفاظ على الماضي وجعله صفحةً مشرعة قابلة للتدوين، ومن ثمَّ تنتهي الدورة الأولى من هذا البحث الذي ينقِّب بدوره عن اللحظات الأكثر عراقةً وعتاقة في نظرة وسلوك فرنسا تجاه الممتلكات الرمزية والمادية للشرق؛ فالفن حسب شربل داغر يبدأ من العريق (ص٤٩٢)، وهو لم يأخذ صفة اللوحة إلا مع ولادة الفنان باعتباره ذاتًا بذاتها وفي ذاتها؛ أي مع ولادته الفينومينولوجية كذات لا كرعية مُستَلَبة الوجهة.

ابتكار الفن الإسلامي

ربما لهذا السبب يطرح شربل داغر السؤال المضاعف التالي في الجزء الثاني من كتابه: متى بدأ الاهتمام بجمع مواد الفن الإسلامي؟ وهل كانت هذه المواد «فنًّا» أم انتهت إلى هذه الحال؟ (ص١٢-١٣). وهو سؤال يُبيح له أن يتابع نظريًّا وهيكليًّا البنية التكوينية لابتكار invention مفهوم الفن الإسلامي، المتوافق مع مفهوم المتحف المتخيَّل، بشكل أو بآخر بالرغم من اختلاف المنظورَين؛ ذلك أن اقتلاع المنمنمة أو الإفريزة أو غيرهما من سياقهما بما يطول ذلك أحيانًا من تشوُّهات، ثمَّ إعادة مسرحة أو مشهدة وجودها في غير سياقها الأصل، وما يتم بين اللحظتين من تملُّكات وانتقالات من يدٍ ليد ومن قيمة لأخرى؛ كي يتم الوصول إلى التجميع الممنهج لها، هي كلها عمليات تُساهم في مطابقة الموضوع مع الذوق الجمالي الناظر له، والذي يمنحه وجودًا قيميًّا جديدًا ومفهوميًّا ليس بأقل جدة. ذلك فعلًا ما يسميه شربل إعادة إنتاج، ولو أن المفهوم يسِم في فحواه العمليات الذهنية والرمزية أكثر ما يسِم الحركات الواقعية والمادية والتداولية التجارية التي يركِّز عليها الباحث منذ البداية. إن عملية الابتكار التي نتحدث عنها هنا تمكِّن من الحفاظ على مادية الشيء باختراع صورته من جديد، وفقًا لمعطيات مادية ورمزية جديدة، بحيث يحافظ الشيء الرمزي على بعضٍ من هُويته، فيما يتم ترجمة وجوده إلى وجود آخر كان كامنًا فيه من غير أن يكون بذاته قادرًا على بلوغه؛ فبلوغ مرتبة الفن هو ضرب من التأويل، كما يقول الباحث مرارًا. بيد أنه تأويل يُقصَد من ورائه التحويل بالحفظ على المصدر والمآل في آنٍ واحد، مع افتراض غَلَبة قوة المآل على المصدر. إنه ما يسميه المؤلف أيضًا بالإنزال الرمزي المسبق؛ أي إن الشُّراة أو المصادرين أو المُنقِّبين لم يعمدوا «مثلما يفعل سائح اليوم، إلى جلب قطعة تذكارية أو «فولكلورية» أثناء الرحلة السياحية، وإنما كانوا أقرب إلى الباحثين عن الكنوز أو عن المواد الفريدة، وإن قاموا بشرائها أحيانًا في محل أو عند مالك خصوصي؛ وهذا ما يرسم الدوافع إلى الاقتناء وإلى مقاصده التحويلية سلفًا. فما كان محفوظًا في خزانة، أو ماثلًا في جدار، أو موضوعًا على طاولة قصر، سيخضع لتبديل وضع في المقام الأول، قبل حلوله في مجموعة أو في متحف …» (ص١٩). والدليل على ذلك أن بعض الجمَّاعين كانوا يشترون، عَرَضًا واعتباطًا، الكثير من المواد قبل أن يعرفوا موقعها وقيمتها الفعلية ونوعية نُدرتها، وحاجة المتحف إليها؛ ممَّا يمنحنا الحق في القول بأن النظرة الأولى التي تقع على القطعة هي التي تمنحها صفة الفنية بالكمون، قبل أن يتم تتويج ذلك بموقع في اللوفر يمنحها بشكل لا رجعة فيه مفهوم الفنية.
إن هذه العمليات، من وقوعٍ على القطعة واقتناء لها وبيعها أو منحها للمتحف، تتعاضد فيها عمليات التقويم ومنح القيمة، وتحوِّل الشيء الموضوع إلى ذات لها كِيان فني. وما قام به الغرب، هو أنه منح الفن الإسلامي طابعًا ذاتيًّا محايثًا بعد أن كان متعاليًا. فما كان يُعتبَر لدى العرب، كما لدى الإغريق، صنعةً (technè) سيتحوَّل بفعل هذه الرحلة أو الهجرة إلى فن art، بكل ما يدل عليه ذلك مفهوم الفن، على الأقل في الحداثة الغربية، من وجود محايث ومعنًى ليس بأقل محايثة. وهو الأمر الذي تزامن في مجمل البلاد العربية مع دخول الفن إلى العوائد المحلية وبداية التصوير، سواء في لبنان أو مصر أو المغرب وغيرهم. «إن تحويل الوجود المادي إلى مواد فنية يقوم واقعًا على إخضاع هذا الوجود لعمليتين منفصلتين ومتكاملتين: تحويل المادة بعد اقتطاعها من سياقها المخصوص إلى مادة فنية لها مواصفات تُعيِّنها وحدها، وتحويلها بالتالي إلى مادة مفردة في سلسلة تتعداها وفق طُرق وصل متعددة» (ج٢، ص٢٣). هذا بالضبط هو ما يمكن تسميته بالسلسلة الدلالية التي تُولِّد المعنى، بل الوجود الجديد الفني هذه المرة للمادة أو الشيء؛ إذ المعنى خلاصةٌ لتلك السلسلة وتحولاتها، بل المعنى لا يتم هنا إلا من خلال ذلك التوافق الفضائي الذي تستقر فيه المادة، وفقًا لترتيب معين يمنح للمشاهدة والمشهدة ويولِّد المعنى التداولي المتمثِّل في العرض exposition، الذي يشكِّل مرادفه الإنجليزي exhibition على الأقل في منطوق اللغة الفرنسية دلالةً أقرب إلى الإشهار في معناها العربي الأصلي؛ أي الاستعراض العلني. فمن الوجود بالكمون إلى الوجود بالفعل، تعيش القطعة استعلانًا لوجودها الفني الذي يمنحه لها الآخر. إنها تعيش توضيبًا أو تركيبًا بصريًّا جديدًا يمنحها وجودها الذاتي من حيث هي كذلك. وهذا الوجود هو ما يتم تخليده؛ أي ما يتم وصفه بالإبداع والخلق، باعتبارهما سِمتين للفن يمنع مفهوم المضاهاة الإسلامي من نعتها به في محيطها الأصل.

ومن المجموعات التي يصوغها الجمَّاعون إلى سوق الفن والابتياع وانتقال الملكية وتأرجح القيمة التداولية، تعيش القطعة مصيرًا يكون هو مسار ولادتها المتجدِّدة كتحفة فنية أو كقطعة فنية، لتئول في النهاية إلى المتحف باعتباره ثمرةً للرغبة الفرنسية في جعل الدولة حافظةً للفنون ومن ضمنها فنون الآخر. وليس ذلك طبعًا بغريب عن ثالوث الجمهورية الفرنسية، التي تعتبر نفسها ولو بالاستعمار والعنف، وصيةً على الآخرين. وربما كان للخطاب الذي صيغ منذ القرن التاسع عشر عن الفن الإسلامي دور كبير في صياغة هذه الاستراتيجية القيمية والبصرية والتداولية، بل والخطابية، عن الآخر أو الشرق. إنه يشكِّل الطليعة الباصرة التي تمنح الشرعية النظرية لمعرفة الآخر، والمقدرة الإنجازية على تقويم تاريخه وصنائعه. إنه، كما يصفه المؤلف، نَص إقناعي، أو بلغة التداوليين، بلاغة حجاجية تصف وتُؤوِّل لتُنجز فعلًا تواصليًّا جديدًا مع غائب الغرب وماثل القطعة الفنية. ولا شك أن تحاليل الكاتب لهذا الخطاب وتتبُّعه لأعلامه، إن كشف عن طابعه المتمركز عرقيًّا، فهو أيضًا قد كشف لنا عن المعنى الذي يبنيه ويعرضه في التراتبية التي يخلقها بين الفنون الكونية.

من الدلالة إلى المعنى

يجد المؤلف في الجزء الثاني المرتع الحقيقي لبناء معنى المعنى؛ أي للولوج إلى عمق البنية الذهنية للخطاب والممارسة في علاقة الغرب بموضوعات الشرق، باعتبارها كناياته المخصوصة ومجازاته المرسلة؛ أي لمواجهة الحكاية بنسج حكاية مغايرة تنبني على أشلاء الأولى. بيد أن أمرين في المقدمات والمسالك النظرية لهذا المصنَّف يثيراننا ومنذ العنوان ألَا وهما: مفهوم الملكية، ثم مفهوم المعنى، باعتبار أن السيرورة التي يتحدث عنها الكاتب تنطلق من الملكية لا من التملك appropriation، وهو المفهوم الذي نراه أوجَهَ وأقرب إلى كل العمليات التي سوف يبنيها شربل، من خلال هجرة الشيء من مكان إلى مكان، ومن قيمة إلى أخرى، ومما قبل المفهوم إلى المفهوم. إنه مفهوم حاضر في الكتاب لكن في ظلال مفهوم الملكية. فما الذي يتم فعلًا، تبعًا لصيروة لها سيرورة؟ التملك مقصدية لها ذواتها وموضوعاتها وتنطلق من مرجعية ثقافية وأيديولوجية وجمالية، أنتجتها ما قبل الحداثة ومنحتها الحداثةُ موقعًا جديدًا، كما يُبين عن ذلك الكتاب بالشواهد والحوادث. وهو بذلك مُنتِج لملكية مهاجرة تبدأ بالمنقِّب عن النادرة أو المأثرة أو الكتاب النفيس أو التحفة انطلاقًا من حكم مسبق، حسب تعبير غادامير، يمنحها قيمةً معينة، يساهم هو أيضًا من خلال امتلاكها إلى أن ينزع عنها أيضًا صفة الملكية. الدليل على ذلك أن المعنى الذي يحدِّد هذه العلاقة بين الشيء وقيمته وصاحبه (المؤقت)، معنًى خاضع لتحوُّل الدلالات المحايثة للموضوع. وحين تنتهي المأثرة أو التحفة أو النفيسة بمتحف اللوفر أو بالمكتبة الوطنية فإنها تُسامي sublime كل العناصر العتيقة التملكية، وكافة المسارات والأشواط التي قطعتها لتعيش دلالتها المكتملة، بما هي كِيان منشطر بين موقعه الأصلي الذي يُحيل عليه في معناه، وبين وجوده المحايث. بهذا المعنى يغدو الفن مفهومًا وخطابًا ملتبسَين.

بعد استعراض مجموعة الالتباسات التي تجمع وتُميِّز بين الفن والآثار يخلص المؤلف إلى ما يلي: «وراء تسمية» فن يكمن، واقعًا، كمٌّ هائل من المواد والأساليب والإنتاجات التي تفتقر في أحيان كثيرة إلى ما يُعيِّنها كمواد وإنتاجات وأساليب في حد ذاتها. وهي تسمية جامعة تُخفي كذلك هذا التردُّد في تسمية الأنواع المختلفة في الفن الإسلامي. يُعيِّن لفظ «الفن» إذن، اسمًا جامعًا، من جهة، واسمًا تصنيفيًّا ﻟ «كمٍّ مبهم من المصنوعات، من جهة ثانية. وهو ما يمكن التعرُّف عليه في صورة أبين عند مقارنة الصفات التي لحقت بهذا الاسم» (ج١، ص١٩٧). وهذه الصفات تعدَّدت في القرن ١٩ من فن محمدي، أو شرقي أو عربي أو مسلم، لتستقر أخيرًا في صفة الإسلامي حصرًا. بيد أن العمل التحليلي الذي يسترعي الانتباه، هو ذلك الذي يتابع عن كثب وبشكل بنائي تحولات الخطاب وثوابته التاريخية، ثم اقتصاد المعنى الذي يخضع له. فالحاصل من هذه المقاربة هو أن المعنى إنتاج للنص الذي يكوِّن بدوره شبكةً من التصورات التي تستقيم في مقاصدها وتداوليتها؛ أي في علاقتها بالنص الاجتماعي الذي يكون من ورائها ومن خلفها؛ ذلك أن بناء هذا المعنى كان في أصل «فوائد» تجاوزت التاريخ والفن والجمالية ليُقدِّم هذا الفن من حيث هو ذو بُعدٍ زخرفي. وكأن هذه المنفعة قد فتحت عيون الفرنسيين والغرب عمومًا على ما تقدِّمه العمارة الإسلامية من منفتحات للتصورات العمرانية الغربية.

لعلَّ هذا الفصل الأكثر الْتباسًا في هذا الكتاب، لا لأنه يطرح الأسئلة ويستدعيها أكثر ممَّا يسعى للإجابة عنها، ولا لأنه يُتابع المفهوم في محطاته الأساس، ولكن لأنه يجعلنا نخرج منه تائهين في مفهوم المعنى نفسه. قد يعود ذلك ربما لكون الباحث يعتمد على مفهوم المعنى من غير أن يربطه تحليليًّا وجذريًّا بمفهوم الدلالة باعتباره مفهومًا وسيطًا يساهم في توضيح المائز والفارق الواصل بين المحايث الداخلي والمجاوز الخارجي أو المتعالي. وقد يعود ذلك أيضًا إلى أنه من الصعب صياغة صيرورة المعنى وسيروراته، في هذا المضمار، من غير المزاوجة بين المرمى الخطابي والمرمى التحليلي التركيبي. على كل حال، تحوَّل مفهوم المعنى هنا إلى مفتاح شامل، والحال أنه نِتاج العلاقة بين الدلالات الخطابية والتداول، سواء كان مقصديًّا يرجع للذات في وضعها الثقافي العام، أم تداوليًّا يرجع للفضاء المتلقي، سواء كان قارئًا أم مجتمَعًا.

أما الخاتمة فهي أشبه بالسيرة الذاتية لهذه المسالك الوعرة التي لا يمكن إلا أن تُجهِد الباحث وتُحوِّل بصره أحيانًا إلى حَوَل لحظي، وتُغلِّف بصيرته بما ينتظرها من مهام وأسئلة عالقة. إنها سيرة الذات في لحظة اكتمال مشروعها، وهي اللحظة التي تكف فيها عن التماهي مع نفسها أو الدخول في نرجسية المفاخر، وتترك المولود حتى ولو كان متوازنًا خلفها؛ لتواجه الأسئلة المربكة التي يضعها عليها. ففي الخاتمة، نُحس مرارة من يرى نفسه في مرايا الاشتغال يشتغل على ذاته، وقد سلبها الغير ومنحها العيانية التي جعلها تنتمي إلى تاريخه الثقافي. كما نُحس شقاء الأسئلة الناجمة عن الوعي الشقي الذي نعيشه كباحثين عرب في علاقتنا بالثقافة الغربية ومفاهيمها وأطاريحها ونظراتها، ومعها نستشعر خفوت الأسئلة التي اختارها المؤلف كي تكون علامات استفهام على مآل موضوعه؛ ففي مرحلة ما بعد الاستعمار وما بعد الاستشراق الذي أحاط الموضوع المادي كمعرفةٍ وسلوك جمالي وثقافي، لا يزال هذا الأخير يُتابع طريق القيمة الزائدة والمضافة التي تجعل منه شعبةً كاملة في تجارة الفنون العالمية. وبين السطور أشبه بكآبة تُعرِّي نفسها وتُفصح عن لا جدوى إضافتنا في هذا السياق الذي يمتزج فيه العنف بالجمالي والغلبة بالحق.

ويبقى السؤال عالقًا من الجهة الأخرى: ما كان مآل هذه الموروثات الفنية لو لم توجد تلك النظرة؟ ألم تساهم فعلًا في عيانيةٍ جعلتنا نحن أيضًا نفتح أعيننا على ذاتنا؟ ثم، ألَا ندين في تاريخنا الفني والبصري لهذه النظرة، مهما كان عنفها، بما يجعلنا اليوم نُفكِّك ثوابتها ونقف على مفاهيمها ونقرأ من خلالها مسيرنا الذاتي في الآخر؟ ألم تُخرَّب منحوتات في أفغانستان وقُطعت رءوس الكثير من التماثيل في العالم العربي والإسلامي لتصوُّرٍ ضيقٍ لعلاقة الإسلام بالتصوير والتجسيم؟ أسئلة متناسلة كثيرة تُنبِّئنا بها ميزانيات وزارات الثقافة والآثار بالعالم العربي! والمآثر التي تتهالك بلا ترميم، وحالات المتاحف التي تعيش فيها المواد التراثية احتضارها البطيء، والمكتبات التي تلتهم فيها الأرَضة أنفس الوثائق. فلعبة المرايا التي دخل فيها هذا البحث منذ البداية قمينة بأن يُستجلى فيها غور ما تبقَّى من الأسئلة.

١  شربل داغر، الفن والشرق: الملكية والمعنى في التداول، المركز الثقافي العربي، بيروت، الدار البيضاء، ٢٠٠٤م، جزءان. إن أهمية الأسئلة التي يطرحها الكتاب تظهر أكثر مع الافتتاح في متحف اللوفر في شتنبر ٢٠١٣م، لجناح الفن الإسلامي ٢٠٠٥م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥