الجسد المُروْحن والروح المُجَسْدنة مقاربات الصورة ومفارقاتها

الفن المعاصر وعودة المعنى

حين تحدَّث كاندانسكي عن الروحي في الفن، كان يعني بالأساس فنًّا طاهرًا حقًّا يكون في خدمة الإلهي؛ فهل صار الفنان، بانتقاد المحاكاة وممارسة التجريد، قريبًا من الإلهي، مُبرزًا ﻟ «الجوهري» الباطن ومُزيحًا «لكل طارئ خارجي؟»١ هذا الطابع هو ما سوف يعبِّر عنه بشكل أوضح وأشد بساطةً بول كلي بقوله: «الفن لا ينسخ الواقع، إنه يجعل ما لا يُرى مرئيًّا.» إننا نتفهَّم جيدًا هذا المنزع الروحي الذي جاء في سياق ثقافي وفكري نابض لم يكن أقله نبضًا اكتشاف اللاوعي وتجذُّر الفكر الظاهرياتي؛ فهو يتصل بتحولات طالت بنية البصر الغربي برمته في اتصاله بالشرق وأفريقيا (بول كلي وبيكاسو)، وفي حمأة تحولاته التصويرية الداخلية الناجمة عن تطورات المجتمع والفكر (كاندنسكي، مالفيتش وغيرهما). بيد أن السؤال الأساس الذي تطرحه موقعة كاندانسكي، في إطار هذه التطورات، يتعلَّق أساسًا بالانحياز جهة التجريد في مقابل تنحية التشبيه أو التصوير (بلغة العرب القدامى)، وهو ما لا يمكن إلا أن يضع خيطًا فاصلًا بين أمرين: الروحي والتشبيهي. ولْنتساءل مع ألان بوزانسون في دراسته الشاملة عن الصورة المحرمة: «لنتفق ونتوافق مع كاندانسكي في صرامته الروحية. ولْنقبل منه ومعه أن الفن يمنحنا مدخلًا للعالم الروحي، وأن هذا العالم يتضمَّن فائضًا من الحقيقة والواقع والجمال، بالنظر إلى السطح الظاهري للأشياء. يبدو أن هذا الأمر قد تمَّ دائمًا إدراكه ورؤيته بهذا الحد أو ذاك من اللبس والغموض، منذ أن كان ثمة فنانون ورجال قادرون على التفكير في الفن والحديث عنه. لكن لمَ ضرورة أن نستنبط من ذلك التخلي عن الأشياء وعن الطبيعة وتمثيلهما؟»٢ يسعى هذا السؤال في العمق إلى تفكيك ثنائية كان مفكِّرون ومتصوفة من قبيل ابن عربي وبوهْم وغيرهما قد تخطياها، ألَا وهي ثنائية التشبيه والتجريد كما سنرى لاحقًا. إنه الأمر الذي سيدعونا إلى أن نعتبر أن التفاعل مع المحسوس والواقعي، والوساطة الفاعلة للخيال المحسوس والحسي، هي التي تجعل اشتغال الفنان التجريدي اشتغالًا له علاقة بالمرئي واللامرئي؛٣ أي عملًا يجعلنا نرى اللامرئي.٤ لكن، ألَا تُحيلنا هذه العداوة للصور المشخِّصة وللتمثيل إلى تاريخ إنكار التصوير كما عشناه بشكل واضح في العالم الإسلامي إلى يومنا هذا، والذي جعل انتقال الفن العربي المعاصر، على سبيل التمثيل، من التشخيص إلى التجريد اندماجًا في الفن الحديث من جهة، وتصالحًا مع تاريخه الفني الخاص؟

بالمقابل، وغير بعيد عن تجريدية كاندانسكي ومطلقية ماليفتش التي ستَسِم الفن الحديث لأكثر من نصف قرن، كان الفن يعيش بشكل مُزامن وموازٍ تحولاتٍ جذريةً مغايرة تُعلن عن نزوع يمنح للفن طابعه الشيئي اليومي، بعد أن سعى كاندانسكي ومن نحا نحوه إلى أن يعزلوه عن الواقع الخارجي. إنني أعني هنا بالأخص ما جاء به منذ ١٩١٣م، مارسيل دو شان من أشياء جاهزة تعبِّر عن نقد مزدوج وساخر لاذع للفن والمجتمع.

تشكِّل هاتان اللحظتان إذن ما يُشبه التخلخل الزمني الذي يدعونا إلى إعادة النظر في مقولة الفن المعاصر نفسها؛ ففي الوقت الذي كانت فيه أعمال كاندانسكي وبول كلي وغيرهما تُعلنان ولادة الحداثة الفنية، كان مارسيل دوشان يحطِّم مفهوم الفن والمتحف بعرض أشياء جاهزة كعجلة الدراجة، وعرض مبولة في المتحف، ومنح الفن طابعًا لهوانيًّا لا متحددًا.٥ إن هذا هو ما يحذو بنا إلى اعتبار أن الفن المعاصر لا يتلو الفن الحديث زمنًا، وإنما هو جار مزامن له،٦

وهو ما يدعونا من ثم إلى تبني تصور غير خطي للتاريخ يجعلنا نتبع خطى هايدغر في اعتباره كلمة الفيلسوف الماقبل سقراطي أنكسمانس أقرب إليه من حبل الوريد، ونقول بدورنا ولو في سياق مغاير: إن العبارة عبور، وإن عبارة ابن عربي لَأقرب إلينا من أكثر المفكرين العرب معاصرةً لنا …

وإذن، ما موقع ابن عربي في هذا السياق؟ وكيف يمكننا أن نعرِّج عليه لبناء تصور خصوصي للعلاقة الجمالية التي نريد أن نشيِّدها هنا بين الخيال والإبداع والمتخيَّل؟

لننطلق بدءًا من تبرير هذه الاستعادة. لا يتعلق الأمر بضرورةٍ روحانية تأتي في سياق العودة للمقدس أو عودة المقدس والروحاني، في إطار ما يسمَّى ما بعد الحداثة؛ فأنا شخصيًّا لا أستسيغ هذا المصطلح وإن كنت أتفهَّم مضامينه ودلالاته. الأمر ينطلق من ترابطين فلسفيين ملهِمين: الأول يتمثَّل عمومًا في العلاقة التي يقعِّد لها هايدغر بينه وبين الفلاسفة ما قبل السقراطيين باعتبارها علاقةً تاريخيَّانية historiale. إنه ترابط أو ربط يؤسِّس لتخطي نسيان الوجود لصالح الموجود من جهة، ويؤسِّس لزمن غير كرونولوجي وغير جدلي من جهة ثانية. وإذا كان هذا المبرِّر يدخل في تأسيس السلالة الفلسفية لهايدغر ومن ثَم لفلسفة جديدة، فإن الثاني يؤسِّس في الحقيقة لسلالة السؤال الذي نطرحه هنا. الأمر يتعلق بمقالة هنري كوربان الموسومة ﺑ «من هايدغر إلى السُّهرَوَردي»،٧ والتي يفسِّر فيها كيف أن ما كان يبحث فيه في الفكر الغربي ولدى هايدغر بالأساس (باعتباره مترجمه الأول للفرنسية وأحد مريديه الأوائل)، قد عثر عليه في فلسفة وتصوف شهاب الدين السُّهرَوَردي كما لدى ابن عربي لاحقًا.
بيد أن الحافز إذا كان فلسفيًّا فإن الموضوع، عدا ذلك، يتطلَّب اهتمامًا متعدد المباحث، نظرًا لِمَا تتسم به نصوص ابن عربي، والسُّهرَوَردي قبله، من خصوصية فكرية وفلسفية تُبلور، في السياق المحدَّد الذي يُهمنا هنا، تصوُّرات خصبةً في موضوعات الخيال والصورة ومجاوزة الثنائيات الميتافيزيقية (وبخاصة من خلال مفهوم البرزخ).٨ من ثم، فإننا إن كنا سنقتصر هنا على ابن عربي فذلك لأنه بلور منظورًا أبلغ وأوضح وأكثر «نسقية» للمفاهيم المذكورة أعلاه. بل إنه صاحب نظرية الصورة بامتياز في الفكر العربي الكلاسي، بحيث يغدو التنظير حاليًّا لهذا المفهوم، على الأقل في الحقل الفكري العربي المعاصر، بحاجة إلى استدعاء هذا التصور واستكناه ممكناته الفكرية بالعلاقة مع ما يستجد حاليًّا في الفكر الجمالي والظاهرياتي والفني …

الصورة بين الاستحالة والامتناع

من الناحية الفلسفية والجمالية يمكن اعتبار نظرية الخيال لدى ابن عربي محاولةً لحل معضلة ما هو ممتنع عن التمثيل l’irreprésetable. صحيح أن الإله الإسلامي، مقارنةً مع الإله العبراني، يتسم بالعديد من الخصائص التي تجعله قريبًا من المحسوس، حتى وهو يتعالى تعاليًا مطلقًا ويمتنع عن التشبيه والتصوير. بيد أن القطيعة أو الفاصل الذي يوضع بين المحسوس والمتعالي في التصور الإسلامي للوجود ليس قارًّا ولا مطلقًا. ومن تلك الفتحات التواصلية، التي يعثر عليها ابن عربي هنا وهناك في النص القرآني أو الحديثي، يُقيم تصورًا جديدًا للخلق وللألوهية مبنيًّا على مفهومَي الخيال والتجلي (الصورة).
لننطلق مع ابن عربي من كون الإلهي عبارةً عن صورة أصلية كانت فيما قبل الخلق موجودةً في العماء، والعماء عند العرب السحاب. من ثم يعتبر ابن عربي أن هذا العماء «هو الخيال المحقَّق. ألَا تراه يقبل صور الكائنات كلها ويصوِّر ما ليس بكائن … وفيه ظهرت جميع الموجودات.»٩ هكذا ترتبط الصور كما الخيال بالخلق باعتباره الطريقة التي سوف تلتحم فيها المعاني بالأجسام، وهكذا أيضًا تغدو الصور هي شكل تجلي الإلهي، لا فيما قبل الوجود الإنساني، ولكن أيضًا بعده، باعتبار «تحول الحق في الصور، وهو سبحانه لا غيره، فأُنكر في صورة وأُقِر به في صورة، والعين واحدة والصور مختلفة … فالصور بما هي صور هي المتخيَّلات، والعماء الظاهرة فيه هو الخيال.»١٠ وهو ما يعني أن الحق لا يبقى على صورة؛ فهو يتبدَّل من صورة إلى أخرى. وهذا هو الخيال؛ لأن الحق «عين معقولية الخيال».١١ حينها، نفهم كيف أن هنري كوربان قد تحدَّث عن الخيال لدى ابن عربي باعتباره خيالًا فعالًا وخلاقًا، انطلاقًا من اعتبار هذا الأخير كِيانًا فاعلًا. ألَا يسمي ابن عربي سلطة الخيال هذه «قوة الخيال»؟١٢ الخيال الفعال هو ما يعمل على استحالة الأرواح أجسامًا والأجسام أرواحًا؛ ذلك أن عالم الخيال أو حضرة الخيال هي في آخر المطاف ما يسميه ابن عربي بالبرزخ؛ أي عالم الصور أو عالم المثال. «ولما كان البرزخ أمرًا فاصلًا بين معلوم وغير معلوم، وبين معدوم وموجود، وبين منفي ومثبت، وبين معقول وغير معقول، سُمي برزخًا اصطلاحًا.»١٣

يتصل الخيال إذن بالخلق، وهذا الأخير بالصور أو التمثُّلات؛ ليرسم ابن عربي بذلك دائرة الوجود؛ فهي حق وخلق ومعقول ومحسوس، يستحيل فيها الروحاني جسديًّا والجسدي روحانيًّا، تبعًا لذلك الانفتاح التفاعلي الذي يتحكَّم في علاقة الخالق بالمخلوق. يُعتبر الخيال إذن آلية الوجود ومفتاحه الجوهري؛ لأنه هو الخلفية التي تشكِّل العملية الأساس الرابطة بين المرئي واللامرئي؛ ألَا وهي التجلي.

إن التجليات هي السبيل الخيالي؛ أي الواقعي، لتحويل الغائب إلى حاضر وشاهد، والباطن إلى عيني وظاهر. يمكِّن التجلي إذن من حل خصوصي لثنائية الغياب والحضور، بل من تجاوز ثنائية التشبيه والتجريد. وليس يخفى أن تجذير هذه الثنائية يقف وراء ما يُعرف تجاوزًا بتحريم التصوير في الإسلام، الناجم في هذا السياق على تجنُّب التمثيل (التصوير)، باعتباره فنًّا، وتبني التصوير باعتباره صورةً غير متحدِّدة. يوضِّح جاك رانسيير هذا الانزلاق من التمثيل/التصوير بوصفه نظامًا للفن إلى نظام للتحريم كالتالي: «هكذا نجد أنفسنا إزاء منطقين متداخلين؛ الأول يتعلق بالتمييز بين الأنظمة المختلفة لفكر الفن؛ أي مختلِف أشكال العلاقة بين الحضور والغياب، والمحسوس والمعقول، والإشارة والدلالة؛ والثاني لا يعرف الفن من حيث هو كذلك. إنه لا يعرف سوى أنماط مختلفة من المحاكاة وأنماط مختلفة من الصور والتشابك بين هذين المنطقين المتنافرين له أثر بالغ التحديد، إنه يحوِّل مشكلات ضبط المسافة التمثيلية/التصويرية إلى مشكلات استحالة التمثيل. وهكذا يأتي التحريم لينزلق داخل هذه الاستحالة …»١٤ يمكِّن مفهوما البرزخ والتجلي من مداورة التحريم وحل مسألة حضور الخالق إلى خلقه، والمفارقات التي تطرحها العلاقة بين الإلهي والإنساني في الفكر والوجود، من خلال تأويل صوفي لحديث قدسي أساس يقول: «كنت كنزًا مخفيًّا فأردت أن أعرف …»
هكذا يغدو الوجود الإلهي لدى ابن عربي وجودًا بالتجلي للكائن الإنساني الذي يرى ربه رؤية العين في العالم الوسيط الذي هو عالم الخيال؛ لذلك كان موقف ابن عربي حاسمًا: «من لا يعرف مرتبة الخيال، فلا معرفة له.»١٥ الخيال بهذا المعنى هو القوة الفعالة التي تمكِّن من الربط بين اللامرئي والمرئي. وهي التي تمكِّن من إظهار اللامرئي ليغدو واقعًا. وإذا كان العالم لا يظهر إلا في الخيال، حسب المتصوف، فإن ظهوره العيني يجعل منه «متخيَّلًا لنفسه». وهو الأمر الذي يحوِّل الخيال إلى عملية فاعلة منتجة للواقع وعملية أصلية من صلب كل ما هو واقعي. وكأننا بابن عربي يقول إن حضور الواقع إلى أفهامنا لا يتم إلا بمقتضى أصله المتخيَّل؛ لأن العالم صورة أو مركَّب من الصور ضمن الصور التي تشكِّل وجوده القبلي. وذلك ما يفسِّر استشهاد ابن عربي بالحديث القائل: «الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا.» فإذا كانت عملية الخلق إذن تجليًا، فذلك لأن الخيال هو الذي يقيم علاقةً تفاعلية ممكنة بين اللامرئي والمرئي وبين الروحاني والجسماني.

الأكيد أن الصورة لدى ابن عربي ذات طابع ملتبس؛ فهي صورة اللامرئي؛ مما يجعلها صورةً ذهنية أساسًا وقابلة للتجسيد، وهي كذلك صورة المرئي؛ مما يجعلها صورةً مجسدة تتطلب التعالي وتنحو إلى الارتباط باللامرئي. وإن كان ذلك يحل معضلة الصنمية والتشبيه (فلا تقييد ولا تجريد)، إلا أنه من ناحية أخرى يمنحنا الفرصة لتحويل الإسلام من ديانة منكِرة للتصوير إلى ديانة للصورة بامتياز؛ أو بالأحرى من حضارة للعلامة إلى حضارة للرمز والصورة أيضًا. وفي هذا السياق يغدو الرمزي أساس الطابع المتخيَّل للوجود وللدور الذي تلعبه فيه الصورة.

يحضرني هنا السجال الذي دار بين بودريار وبول فيريليو سنة ١٩٩٢م عن طبيعة الصورة؛ ففيما يرى بودريار أنها غدت سيمولاكرا، يعتبر بول فيريليو أنها غدت الواقع نفسه. والحقيقة أن هذا السجال يستعيد هنا الأسئلة نفسها المطروحة في كتاب الفتوحات المكية، وبشكل مسترسل في كتاب فصوص الحكم لابن عربي. إن الصورة وهي تمنح للعالم طابعًا رمزيًّا تمكِّنه بوساطتها الدائمة والحركية من أن يغدو عالمًا محسوسًا لا يتنكَّر لمحسوسيته، وعالمًا ممكن التعالي يسعى باستمرار إلى تغيير طابعه الأنطلوجي. الصورة بهذا المعنى تعمل عمل الرمز بمعناه الإغريقي (شطرا الشيء المتماثلان) وتعمل عمل الإشارة في معناها العربي (الباطن والظاهر)؛ لأن ثمة الرمز فثمة التأويل، و«لأن ثمة الخيال فثمة التأويل؛ ولأن ثمة التأويل، فثَمَّةَ الرمز؛ ولأن ثمة الرمز فثَمَّةَ بُعدان للموجودات.»١٦ إن التأويل هو الدينامية الفاعلة التي تمنح الخيال قوته وحقيقته من حيث هو مصدر الخلق وماهيته في الآن نفسه.

من الشيئية إلى المتعالي

في كتاب الوجود والزمن، يتحدث هايدجر عن كل شيء إلا عن الفن، بيد أنه سوف يخصِّص لهذا الأمر مقالةً غدت مرجعيةً في هذا المضمار بعنوان: أصل العمل الفني١٧ وهنا بالضبط نقف على ذلك الارتباط العميق لدى الفيلسوف بين سؤال الفن والسعي إلى إعادة التفكير في سؤال الوجود، باعتبار أن الأثر الفني يغدو لديه أحد صيغ الكشف عن حقيقة ذاك الوجود. بيد أن هايدجر يقوم هنا بعملية تأويل مزدوجة يمارس فيها نقدًا ضمنيًّا للجماليات؛ إذ هو يُبعد إلى حد ما الفن عن متلقيه ومُنتجه، وفي الآن نفسه يركِّز على جوانب لم تُولِها الفينومينولوجيا حقها من التحليل؛ أعني الطابع الواقعي الشيئي للعمل الفني من حيث هو كِيان في ذاته. وبذلك لا يهتم هايدجر بالعمل الفني من حيث هو أثر فني ناجم عن تحولات المادة، ودلالة تنتجها التفاعلات بين مكونات عديدة، وإنما من حيث هو قبليًّا شيء … يطرح هايدجر سؤالًا فلسفيًّا مقابلًا للسؤال الذي طرحه سنواتٍ من قبلُ وبشكل مغاير مارسيل دوشان. وإذا كان مقصد الأخير الانتقاد والسخرية من ماهية الأثر الفني، فإن سؤال هايدجر بجديته المفروضة يبتغي تأسيس مفهوم للفن انطلاقًا من سؤال الماهية.
ليس المبتغى من سؤال شيئية العمل الفني العودة إلى مادية اللوحة أو المنحوتة أو العمارة؛ فلا يخفى أن استعادة ثنائية المادة والصورة التليدة تؤدِّي إلى استعادة ميتافيزيقا لا يفتأ هايدجر يسعى إلى تخطِّي مؤدياتها. إن هايدجر حين يطرح سؤال شيئية العمل الفني من حيث هو منبعه أو مصدره، فهو بذلك يسعى إلى إرساء تأويل للشيء لا باعتباره شيئًا مجردًا وإنما باعتباره شيئًا يوجد في صلة بالإنسان. وتلك هي الأداة (الحذاء مثلًا، في لوحة فان جوخ). هكذا تغدو الاستراتيجية السؤالية لدى هايدغر استراتيجية إنتاج المفهوم والمعنى. يقول في مدخل المقالة: «إن السؤال عن منبع الأثر الفني يصبح سؤالًا عن ماهية الفن. لكن حيث إن السؤال عمَّا إذا كان الفن موجودًا وعن كيفية وجوده يجب أن يبقى مفتوحًا، فسنحاول أن نجد ماهية الفن هناك حيث يسود الفن واقعيًّا على نحو لا يمكن الشك فيه ويُحْدِث الفن في الأثر الفني.»١٨ من المصدر إلى المآل ألسنا هنا أمام السيرورة الهرمينوسية نفسها التي يتبعها ابن عربي بشكل مغاير وفي إطار مغاير أيضًا؟
هنا بالضبط نسعى بالتأويل الهايدجري إلى التقاطع مع مفهوم البرزخ أو الوسط لدى ابن عربي، وبالأخص مع مفهوم كشف المحجوب لدى المتصوفة بعامة، والذي يشكل المقابل لما تسعى الظاهريات إلى إرسائه. ومهما كان الطابع العسفي لهذا اللقاء محتملًا، إلا أنه لا يخلو من طرافة وجدة على أكثر من مستوًى. وقد كان هنري كوربان قد عاشه في البداية بحس فلسفي وهرمينوسي واضح. إن انكشاف فنية العمل الفني من خلال شيئيته، وبوساطة الأداة، هو ما يقود هايدجر إلى التوكيد على انفتاح العمل الفني. إنه انفتاح يجعل الأداة تنسلخ عن استعماليتها لتصبح «وجودًا في العالم»؛ أي لتندرج في العلاقات الغيرية. هكذا «ستكون حقيقة الفن هي وضع حقيقة الكائن لذاتها في الأثر الفني.»١٩ لذا فإن تجربة الشيء الأصيلة تتم بهذا المعنى في العمل الفني وأمامه، من حيث هو منفتح يجعل العالم يظهر في الأشياء.

أمر آخر يقودنا أيضًا إلى أن نسير بهذا اللقاء المقترح شيئًا ما إلى مآله المفترض. إن الشيء هذا سوف يكون عبارةً عن جسم من ضمن الأجسام، يكتسب روحًا أو يتروحن فيكتسب معنًى ويُظهر باطنه. وتلك سيرورة سيقول عنها ابن عربي بأنها سيرورة روحانية، فيما سنقف فيها لدى هايدغر على سيرورة ستسير بالشيء من شيئيته المجردة وماديته الصِّرفة إلى وسائطيته من حيث هو معبر نحو الشيء عامةً في جوهره؛ أي كينونته فنًّا، وفي الفن. هذه الوساطة هي ما يجعل الشيء ملتبسًا بحسب انتمائه للإنساني والفني وبحسب انتمائه للطبيعي. وكأننا بهايدجر يسعى إلى تخطي الموقف الجمالي الكانطي الذي يكون فيه الذوق محدِّدًا للوجود الجمالي للشيء. ومع ذلك فإن هايدجر لا ينفي دور الذات المبدعة والمتلقية.

تتمثل حقيقة العمل الفني في فعله الإظهاري (التجلي)؛ أي في ذلك النزاع بين الأرض (الشيئي) والعالم، وبين الانفراج/الانفتاح والخفاء. «تبرز الأرض في العمل الفني؛ لأن هذا العمل يحدث بصفته ما تجري فيه الحقيقة»٢٠ من ثم فإن واقعية العمل الفني لا تتبدَّى لنا إلا من خلال تبلور ماهيته؛ أي حقيقته. وبلغة ابن عربي، فالواقعي يتبدى في اشتغال الخيال الذي يجسدن الأرواح ويروحن الأجساد، وبالتالي في اشتغال تلك السيرورة التأويلية التي بمقتضاها يكون أصل العمل الفني هو مآله في دائرية شبيهة مجملًا بدائرية الوجود لدى ابن عربي كما أشرنا إليها سابقًا. ففي ذلك النزاع والصراع بين العالم والأرض (أو بين مكونيْ كل جماليات ممكنة: المادة والصورة) تغدو حقيقة العمل الفني، جوهرُه وطابعُه الإبداعي، حقيقتَه. ينطلق هايدغر من السؤال عن الشيء لينتهي إلى فتح العمل الفني على طابعه الروحي من خلال انتصاب المعبد، «ففي انتصاب المعبد تحدث الحقيقة»؛٢١ لأن المعبد يمنح للأشياء مظهرها وللناس النظرة المستقبلية إلى ذاتهم، ولأنه يمنح الحضور للإلهي؛ أي للمقدس. لكن هذا الانتصاب يتم على القاعدة الصخرية؛ أي على الأرض وهكذا يوضع العالم على الأرض والمتعالي على الشيئي، أو إذا شئنا أن نعرِّج مرةً أخرى على كوربان، فإن الأرض تغدو «أرضًا سماوية».٢٢

مفارقات الصورة والتصور

ليس من قبيل الصدفة، ولنكرِّر ذلك مرةً أخرى، أن يكون الفن عند تجاوز التشخيص بشكل راديكالي قد اكتشف الطابع الروحاني للمعنى التصويري. وليس غرضنا هنا استعادة مفارقة التشبيه/التجسيم والتجريد، وإنما متابعة هذه التحولات كي نصل إلى تفكيك هذه الثنائية من قِبَل الفن المعاصر نفسه. ولا يخفى هنا أن التجريدية في الفن، تلك التي سادت بشكل أو بآخر في الفن المعاصر، قد أصبحت في أحد تطبيقاتها المبدعة، مع التعبيرية التجريدية تلامس إنكار الصورة (مع بولوك مثلًا).٢٣ إنه الأمر الذي يجعلنا نتساءل مرةً أخرى عن تلك العلاقة الملتبسة بين المرئي واللامرئي، وبين المادة والمعنى في الممارسة الفنية. من ناحية أخرى فإن استخدام الجسد في المنجزة الفنية، والمادة الفضائية، قد فتح المجال واضحًا أمام تجريبية فنية سوف يغدو فيها كل شيء سياقيًّا؛ أي داخلًا في لعبة مَسْرَحة يغدو فيها الجسد مكونًا أساسًا، والزمن ابتكارًا دائمًا، والفضاء خدعةً ليس إلا. «إن موقف الفن السياقي هو باختصار: إبعاد التمثيلات إبعادًا (الفن الكلاسي)، والمداورة (الفن الدوشاني)، والمنظور النقدي الذاتي حيث يتأمل الفن ذاته ويتشرَّح بنفسه بتحصيل الحاصل (الفن التصوري). أما رهانه فيتمثل في إبراز الممكنات النقدية والجمالية للممارسات التشكيلية المقترحة في صيغة تدخلات هنا والآن.»٢٤ هكذا فإن السمة التي تطبع مسير الفن المعاصر لا تخضع فقط لتملُّك الواقع من خلال عرض المرئي من حيث هو كذلك، وإنما بشكل مماثل في جذريته وتبعًا للتخوم التي حاذاها التعبيريون: إنكار الصورة نفسها.
إن «عودة إنكار التصوير»٢٥ تتمثل في نزوع تجارب معينة في الفن المعاصر إلى الرغبة في مقاومة فتنة الصورة والانصياع لإنكارها. ويتمثَّل ذلك في عدد من المعارض التي تتطرَّق للتجلي الإلهي، أو تلك التي تُقام في الكنائس بفرنسا وغيرها. وكأننا هنا أمام منزع جديد يسعى إلى تفادي الحدود القصوى التي تقود إليها الصورة للحد من واقعية اللامرئي والعودة إلى إلهٍ لا يحدَّد بما هو وإنما بما ليس هو؛ أي إلى نزعة تنزيهية يبدو أنها في المجال الغربي تستعيد التنزيه المسيحي الأولي وتقترن بالمنظور الإسلامي واليهودي في هذا المضمار.

ونحن نسوق هذه المفارقات نسعى إلى تبيان أن رهان الممارسة الفنية يراوح بين الشيء المعبد (هايدجر)؛ أي بين الجسماني والروحاني. وهنا نستعيد قول ابن عربي في ضرورة تخطي ثنائية التجريد والتشبيه، والروح والجسد والشيء والمعبد؛ لأن كل طرف إنما هو الذات والآخر، هُوية واختلاف ووحدانية وتعدُّد …

فإن قلتَ بالتنزيه كنت مقيِّدًا
وإن قلتَ بالتشبيه كنت محدِّدًا
وإن قلتَ بالأمرين كنتَ مسدِّدًا
وكنتَ إمامًا في المعارف سيدًا
… فما أنت هو بل أنت هو، وتراه في عين الأمور مسرَّحًا ومقيَّدًا.٢٦
١  W. Kadinski, Du spirituel dans l’art, et dans la peinture en particulier, Folio/Essais, 1989, p. 53.
٢  Alain Besançon, L’Image interdite, Folio/Essais, 1994, p. 46.
٣  المرجع نفسه، ص٦٤٧.
٤  Michel Henry, Voir l’invisible, Sur Kandinsky, Paris, François Bourin, 1988.
٥  Marc Le Bot, “Marcel Duchamp et ses célibataires, même”, in Esprit, février, 1992, p. 7.
٦  Christine Surgins, Les Mirages de l’art contemporain, Paris, La table ronde, 2005, p. 11.
٧  يوجد هذا الحوار مع فليب نيمو في الموقع الذي خصَّصته جمعية أصدقاء هنري كوربان له والذي سهرنا على ترجمته بالكامل إلى اللغة العربية: www.amiscorbin.com.
٨  بالرغم من الخصوبة التي تتسم بها مؤلفات السُّهرَوَردي وقصصه التعليمية في هذا المضمار، فإن تصوره للبرزخ بعيد عن أن يتسم بالبناء المتكامل الذي نجده لدى ابن عربي. من ناحية أخرى فإن هذا المفهوم يتخذ لديه طابعًا متحركًا ومتعددًا يجعله يذوب في آخر المطاف في التعالي الصوفي أو الرحلة الروحانية. انظر بهذا الصدد مثلًا كتاب حكمة الإشراق، ضمن المؤلفات الفلسفية، م١، تحقيق ونشر هنري كوربان، طهران، ١٩٤٥م.
٩  ابن عربي، الفتوحات المكية، منشورات صادر، بيروت، ج٢، ص٣١٠.
١٠  المرجع نفسه، ص٣١١.
١١  نفسه، ص٣١٣.
١٢  نفسه، ص٣١١.
١٣  محيي الدين بن عربي، الفتوحات المكية، ج١، ص٣٠٤ وج٣، ص٥١٨.
بهذا الصدد كتب كوربان: «إن وظيفة عالم المثال والصور البرزخية imaginales محدَّدة بوضعيتها الوسطية والتوسطية بين العالم المعقول والعالم المحسوس؛ فهي من جهة تنزع عن الصور والأشكال المحسوسة طابعها المادي immatérialise، وهي من جهة أخرى تُضفي الطابع الخيالي imaginalise الأشكال المعقولة وتمنحها الصورة والأبعاد.»
H. Corbin, Corps spirituel et terre celeste, Paris, Buchet/Chastel, p. 10.
١٤  Jacques Rancière, Le Destin des images, Paris La fabrique, 2003, pp. 127-128.
١٥  ابن عربي، الفتوحات المكية، الجزء الثالث م. م ص٣١٣.
١٦  هنري كوربان، الخيال الخلاق في تصوف ابن عربي، ترجمة فريد الزاهي، مرسم، الرباط، ص١٤٤.
١٧  نعتمد هنا الترجمة التي أنجزها إسماعيل المصدق من الألمانية إلى العربية مع الشروح اللازمة: مارتن هايدجر، كتابات أساسية، الجزء الأول، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، ٢٠٠٣م.
١٨  المرجع نفسه، ص٦٧.
١٩  نفسه، ص٨٤.
٢٠  نفسه، ص١١٦.
٢١  نفسه، ص١٠٤.
٢٢  Corbin, Corps spirituel, Op. Cit., p. 13.
٢٣  Catherie Millet, L’Art contemporain, Histoire et géographie, p. 166.
٢٤  Paul Ardenne, Un art contextuel, Flammarion/Champs, 2004, p. 13.
٢٥  Christine Sourgins, Les Mirages de l’art contemporain, Op. Cit., p. 212.
٢٦  محيي الدين بن عربي، فصوص الحكم، تحقيق أبو العلاء عفيفي، ط٢، دار الكتاب العربي، بيروت، ص٧٣.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥