في مسير أبحاثنا عن الصورة في العصر الكولونيالي، عثرنا على اسم رسامة فرنسية عاشت
بتونس والمغرب في بدايات القرن العشرين، وتركت عددًا لا يُستهان به من اللوحات عن المغرب
وتونس. بيد أن التاريخ أدخلها في باب النسيان؛ إذ إن الأبحاث في هذا المضمار لم تُسفِر
سوى عن العثور على بعض اللوحات القليلة التي لا تتجاوز أصابع اليد، والتي حافظ عليها
ورَثتها. يتعلَّق الأمر بألين دو لينس المتحدِّرة من عائلة بورجوازية بمدينة فيرساي،
والتي
تم قَبولها سنة ١٩٠٤م بالمدرسة الوطنية المتخصصة في الفنون الجميلة، وكانت حينئذٍ من
بين
الفتيات القلائل الأوائل اللواتي يتابعن التعليم في هذا المجال. وقد عرضت ألين دو لينس
في العديد من الصالونات الفرنسية، كصالون المستقلين سنة ١٩٠٨م، وصالون الخريف سنة ١٩١٣م،
ومعرض الفنانين الاستشراقيين في السنة نفسها، وفي ١٩١٤م في معرض الفنانين الاستشراقيين
الفرنسيين. ومع ذلك لا يذكر لها تاريخ الاستشراق الفني أي شيء، وضاعت لوحاتها ضياعًا
شبه كامل.
تعرَّفت ألين على أندري ريفيو الذي يصغرها بسنوات سنة ١٩٠٨م، وتزوَّجا سنة ١٩١١م زواجًا
غريبًا، بحيث نذرا معًا العفَّة وعلى أن يظلا طاهرين من كل مجامعة. هذا الزواج الأبيض
لم
يمنعهما مع ذلك من أن يعيشا تجربة حب مستمرة، بحيث ارتحلت ألين مع أندريه إلى تونس في
بدايات العقد الثاني من القرن الماضي، حين عُين في الإدارة الفرنسية هناك، ثم صاحبته
سنة ١٩١٣م إلى المغرب، بعد أن عيَّنه ليوطي مكلَّفًا بتنظيم المحاكم الأهلية بالمغرب،
ثم
حاكمًا مدنيًّا (المقابل للعمدة) بمدينة مكناس، ليتفرغ سنة ١٩٢١م للمحاماة لحسابه الخاص
بمدينة فاس.
وفي سنة ١٩١٧م سوف تفقد ألين أباها وتُصاب في السنة نفسها بالسرطان الذي هدَّ كِيانها
فتسلم الروح سنة ١٩٢٥م وتُوارَى الثرى بمقبرة النصارى بفاس، ليتبعها سنةً بعد ذلك زوجها
ضحيةً لحادثة سير.
لم يُثِر اهتمامنا هنا الأثر الفني الضائع لألين دو لينس، فما تعرفنا عليه من أعمالها
لا يخرج عن النظرة الاستشراقية الغرابية (الإكزوتيكية) للفن الاستشراقي في تلك المرحلة،
من افتتان بالنور وخيال خصب يهتم بالمرأة ومظاهرها وزينتها وحِليتها وكذا بالمعمار
التقليدي؛ ما حفَّزنا على الاهتمام بهذه المرأة مجموعة من الحوافز نبسطها كالتالي:
بيد أن كل ما سبق لا يمكن أن ينسينا مؤلَّفًا سوف يكشف لنا بشكل فصيح عن الشخصية
المركَّبة لهذه المرأة وعن حياتها الحميمة، وعن عذاباتها وحبها الكبير لثلاثة رجال هم:
زوجها، والراهب الإسباني الذي كان يُعلِّمها الإسبانية بغرناطة، والدكتور ليبيناي الذي
سهر
على علاجها في أواخر حياتها وقبل موتها المبكر. الأمر يتعلق بمذكراتها التي ظلَّت مفقودةً
إلى حين نشرها مؤخرًا. وهي يوميات تحكي فيها المؤلفة بشكل حميم عن تفاصيل حياتها
ومفارقاتها وأوهامها واستيهاماتها، الأمر الذي يجعل هذه المذكِّرات ذات قيمة أدبية قد
تتجاوز في نظرنا مؤلفاتها الأخرى ذات الطابع التخييلي من جهة، وذات قيمة تحليلية لأنها
تُفصح عن ذات مأساوية تقرِّبها كثيرًا من حياة فرجينيا وولف وغيرها من النساء الكاتبات
المتميزات في بدايات القرن العشرين.
وما يزيد هذا المصنف غرابةً في مآله ومصيره هو ما حدث من سطو عليه؛ فالمعروف أن
الأخوين طارو (les frrères Tharaud) كانا قد كُلفا من
قِبَل الجنرال ليوطي بالكتابة عن المغرب. وكان أندري زوج ألين قد بدأ في التفكير في إنشاء
مؤسسة Fondation بالمغرب ليعرض فيها أعمال ألين بعد
وفاتها سنة ١٩٢٥م ويُصدر مؤلفاتها غير المنشورة ومن ضمنها مذكراتها. ولهذا الغرض، منح
للأخوين طارو نسخةً مطبوعة بالآلة الكاتبة من مذكراتها تلك على أن يختارا، حسب زعمهما،
إما نشرها كما هي أو استعمالها بطريقة غير مباشرة في كتابة روائية من تأليفهما. ولأن
وفاة أندري ريفيو المفاجئة لم تمكِّنه من أن يتابع الأمر، فإن الأخوين طارو سوف يركِّزان
على لقاء ألين بالدون أنطونيو الراهب بغرناطة، وسوف يستعملان حرفيًّا العديد من معطيات
المذكِّرات ليصوغا روايةً سوف ينشرانها بعنوان «نساء عشن في غمرة الحب» Les
Bien aimées، وهكذا فإن هذه الرواية بالرغم من التصرف الكبير في حياة
ألين وأندري، تُثبت بما لا يدع مجالًا للشك الطابع الروائي للشخصيتين الواقعيتين، ممَّا
يمكِّننا بدورنا من تأويلهما في سِجل آخر وبأدوات أخرى، سوف تكشف عن جوانب جديدة في حياة
ومتخيَّل هذه المرأة الباهرة بقوتها وفرادتها.
بيد أننا وإن كنا سنهتم قليلًا بحياتها السابقة على إقامتها بتونس والمغرب، فلن يكون
ذلك
إلا بقصد تعضيد الجوانب التي منحت لها حبًّا عاشقًا واقعيًّا لمدينتَي تونس وفاس (بعد
غرناطة)، وشوقًا للحياة بدمشق ظل عبارةً عن رغبة آسرة.
بين العزلة والحرية: مفارقات الذات والآخر
ظلت النساء العربيات المسلمات الحضريات منهن بالأخص، موضع اهتمام خاص من قِبَل
الرحالة والمستشرقين والفنانين الاستشراقيين.
١ وهكذا فإن مفهوم الحريم الذي تُدوول منذ قرون في الأدبيات الاستشراقية،
صار مرادِفًا للانغلاق والعزلة والرفاهية الداخلية والمجون، وغيرها من الصفات التي
تم إلصاقها، عن حق أو عن خطأ، بالنساء الشرقيات. وعن مفهوم الحريم تولَّد مفهوم
الغانية
odalisque التي أضحت تُشكِّل في صورها
العديدة منذ الفنان الفرنسي إينغر
Ingres حتى
ماتيس. ويشكِّل الحريم في التصاوير الاستشراقية، كما في العديد من كتابات الرحالة
الغربيين إلى بلدان المشرق والمغرب الإسلامي في الغالب الأعم، ومن خلال الأوصاف
والحكايات التي تقدَّم عنه، ضربًا من الاستيهام الذي يستعيد الصور المتداولة عنه في
ألف ليلة وليلة.
وإذا كانت اللوحات التي تصف دواخل البيوت المغربية (والعربية عمومًا) والقصص
المسبوكة عن النساء فوق السطوح، وفي «الرياضات» والقصور، قد نُسجت وصُورت من قِبَل
رجال لم تطأ أرجلهم قط الفضاءات الداخلية المخصَّصة للنساء، فإن التجربة التي
سوف تقدِّمها ألين دو لينس تُعتبر طليعيةً في هذا المضمار عن دواخل البيوت العربية؛ فهي
تُشكِّل من ثَم مسبارًا مبكِّرًا لحياة النساء في تونس والمغرب، في العقد الثاني من القرن
العشرين، في وقت كانت الحماية فيه بالمغرب تعيش سنواتها الأولى، وكانت فيه صورة
المغرب المستغلق المخيف لا تزال لم تتبدَّد بعدُ بما فيه الكفاية، بالرغم من أن مجمل
الحواضر المغربية كانت قد صارت تحت سيادة السلطات الفرنسية.
٢
ولأننا لم نستطع لحد الآن التوصل إلى الرواية الأخيرة التي نُشرت لألين دو لينس،
فإننا سنكتفي هنا بما جاء في نصوصها الأخرى (مجموعة القصص عن الحريم المنفرج،
واليوميات ورواية خلف أطلال الأسوار العتيقة).
يُفصح عنوان «الحريم المنفرج»
٣ عن معطًى أساس وجديد في التعامل مع مفهوم الحريم. إنه أشبه بالتضاد
oxymore، بحيث يحطِّم مفهوم الحريم باعتباره فضاءً
وكِيانًا منغلقًا ومستغلقًا، ويمنحه إمكانية الوجود خارج ذاته. وكأن ألين دو لينس
تؤسِّس تصورًا جديدًا للحريم ينطلق من إمكانية التسلُّل إليه من خلال الباب المنفرج
الذي تم إغلاقه عليه منذ قرون. الحريم يغدو بهذا المعنى فضاءً مقدسًا ومحرمًا،
قابلًا مع ذلك للعيش وللمعاينة من خلال الانفراج الذي يمارسه تجاه الآخر. وبهذا
المعنى أيضًا يغدو هذا الآخر كِيانًا متميزًا؛ لأن باب الحريم تنفرج له كي يُتمكَّن من
التسلل إليه أو على الأقل من معاينته عيانًا وبالعين والحواس، لا بالاستيهام ولا
بتأويل الخطوات والأصوات كما حدث لغابرييل فير
Gabriel
Veyre مع نساء السلطان مولاي عبد العزيز عندما طلب منه هذا الأخير
أن يعرض لهن فيلمًا سينمائيًّا:
«ولقد استُدعيت في البداية إلى الحريم مرةً واحدة لكي أتولَّى تسيير العرض السينمائي
الأول، وتم إخفائي خلف ستار شبيه بالستائر اليابانية فلم أكن من موضعي ذاك أستطيع
أن أرى غير الحائط الأبيض القائم قبالتي، والذي يقوم بمثابة شاشة تفي بالمراد، ولا
كان في وسع أي أحد كذلك أن يراني. وما كنت أسمع خلف ذلك الحاجز الحريري الرهيف غير
ضحكات النساء المخنوقة ووشوشاتهن. لكنني عندما شرعت في عرض بعض الصور، إذا ببعض من
أولئك المتفرجات الغامضات يدفع بهن الفضول إلى الاقتراب مندفعات باتجاه الحائط
للمسه والتأكد من أنه ثابت لا يتحرك.
وكانت نساء السلطان يركبن الدراجة العادية، وصوَّرهن مولاي عبد العزيز في أشرطة
سينمائية وهن يزاولن هذا التمرين. وكانت نساء السلطان كذلك سائقات، وقد علَّمهن
السلطان بنفسه كيف يقُدن في البداية الدراجة الثلاثية ذات المحرك، ثم السيارة.»
٤
لا يكفي إذن أن يكون الآخر فقط كائنًا ذكرًا جاوز الصبا كي يمنع عنه الحريم، ولا
يشفع له كونه أجنبيًّا لولوجه؛ فالحرفيون اليهود، كما الخصيان، هم الذين كانوا
يحظَون بمعاينة الحريم؛ لأن اليهودي كان يُعتبر كائنًا ناقص الرجولة، وكان حين يُذكر
اليهودي، كما المرأة، أحيانًا يُتبع في المتداول اللغوي ﺑ «حاشاك»؛ أي مع كامل
الاحترام لشخصك. ولا يكفي أن يكون الأجنبي امرأةً لكي ينفرج له الحريم فعلًا ويكشف
له عن أسراره وخفاياه، فذلك قد لا يكون سوى عبارة عن مسخرة تكرِّس الغرابة
واللاتواصل. إن الانفراج الذي تتحدَّث عنه ألين دو لينس وتبنيه وتعنيه هو تلك الثقة
المزدوجة التي اكتسبتها بمدينة تونس وبمكناس بالأساس، حين تم تعيين أندريه ريفيو
زوجها حاكمًا بمكناس K واستقرت بقصر من قصور
المدينة القديمة، فعايشت نساء أعيان المدينة من أعمام السلطان وغيرهم من كبار
التجار بحيث غدت ابنة المدينة. صارت ألين تعاشر النساء فوق السطوح وفي الأماسي
وبمطارحهن وخلال كل المناسبات من أعراس وعقيقة وختان وغيرها، وصارت تعيش عيشة
المسلمة، فتلبس اللباس المغربي وتتزيَّى بالحلي التقليدية
K، بل تلبس الحايك المغربي أحيانًا في التنقل في
المدينة القديمة … وفي بيتها تبنَّت فتاتين سُرقتا قصدَ بيعهما بمدينة الرباط سنوات
قليلةً بعد وصولها للمغرب، كما تبنَّت طفلًا آخر لم يُكتب له أن يمكث طويلًا لديها. هذا
الانغماس لم يكن لديها ذا طابع سياحي عارض، وليس للتظاهر، وإنما اقتناعًا منها
بعظمة وأصالة النمط الحياتي التقليدي آنذاك، وعشقها الكبير للعمارة والحلي
المغربية. ومن عمق اقتناعها بهذا النمط الحياتي سوف تعيش لحظةً دالة ستعاين فيها
ذاتُها مفارقةً كبرى. وإليكم الحادثة:
«دخلت امرأتان أوروبيتان للبيت الذي يُقام فيه عرس للاخديجة، ابنة وزير سابق من
وزراء السلطان …
كانت سحنتهما تنبئ عن الجرأة والوجل في آنٍ واحد وسط النساء المسلمات اللواتي لم
تكونا تفهمان لا عوائدهن ولا لغتهن، واللواتي كانتا تمقتانهن بفضول … كُنا على علم
بالأمر؛ فقد أُخبرنا بأنهما أجنبيتان عابرتان، إحداهما زوجة ضابط في الجيش مقيمة
بالدار البيضاء، والثانية قادمة من باريس لزيارة المغرب. كانت لديهما الرغبة في
معرفة الاحتفال بعرس. والسي محمد بن داود الذي وقع عليه الاختيار، لم يكن له أن
يُجيب إلا بدعوتهما مباشرةً لحضور مراسم عرس.
ظلتا منبهرتين في البهو، وبدأت الإماء يتحرَّكن ليبحثن لهما عن مقاعد، ليعثرن في
الأخير على كنبة عتيقة وكرسي وضعاهما في مدخل الغرفة أمام مكان جلوسنا.
بدأت المرأة الباريسية ترفع منظارًا يدويًّا وعيناها تدوران في محجريهما وتتنقَّلان
في كل الاتجاهات. إنهما تبدوان وكأنهما تتفرَّجان على كوميديا مسرحية. تتبادلان
انطباعاتهما بصوت جهير متيقنتين أنهما في محفل لا يفهم لغتهما. أدركتُ أن هذه
الباريسية امرأة أديبة جاءت في «رحلة دراسية». وعند نهاية كل جملة تُعلِّق: «هذه
الجزئية خصوصية، سأُشير إلى ذلك لقُرائي … يا لها من فرجة غريبة! إنه موضوع جيد
لمقال.»
أما صاحبتها فكانت تُلاحظ بالأخص زينتنا.
إنها الأمسية الكبرى تلك التي تغادر فيها العروس دار أبيها لبيت الزوجية؛ لهذا
تبلغ الإثارة والملابس والأهازيج ذروتها وَحِدَّتها، والضيفات كلهن مشرقات
بالغبطة.
كم تبدو هاتان الأوروبيتان الأنيقتان والمتعودتان بالتأكيد على الناس، هنا
حقيرتين وكامدتين ببذلتهما الأوروبية وحذاءيهما
الطويلين وقبعتيهما غير الجماليتين! إنهما أيضًا تبدوان محرجتين وسط النساء
المثقَلات بالديباج والحلي، وذوات الحركات البطيئة الطقوسية … هذا الإطار البالغ
البذخ لا يلائم أبدًا جمالهما الهش، وأقل الزنجيات ملاحةً
تبدو أكثر أناقةً من هاتين المرأتين الجميلتين اللتين سيكون لهما بالتأكيد نجاح أكبر
في صالون غربي.
ها هما الآن تراقبانني، وأنا أستمر في التصفيق باليدين على إيقاع الموسيقى، مغنيةً
مثلي مثل الأخريات: «الهناء أللا، الهناء في دارنا.»
لم تكتشفا هُويتي. لا يمكنهما أن تخمِّنا أصلي من وراء مواد التجميل والكحل
والملابس … ومع ذلك فنحوي سدَّدتا نظرهما بإلحاح … ربما لأني
الأجمل والأروع من بين النساء.
(…) لكن ليست تلك الروعة هي التي تُثير فضول المرأتين الجميلتين؛ فعيناي
الباهتتان، عيناي الزرقاوان لهما لطافة غريبة وسط الحدقات الغامقة المتقدة لصديقاتي
…
(…) تركت الأوروبيتان مقعديهما وجاءتا لتجلسا القرفصاء قربنا، كانتا تريدان
التعبير عن مودتهما فلم تكفَّا عن ترداد الكلمة الوحيدة التي تعرفانها: «مزيان،
مزيان.» وبذلك لا يمكن للمحادثة أن تسير بعيدًا، وأشك في أن
الأديبة منهما تتوغل عميقًا في الروح الإسلامية. لمسَت ديباج فستاني
وقالت أيضًا: «مزيان.» خطرت ببالي فكرة: أنا لا أعرف هاتين المرأتين، ولن أراهما
أبدًا، ولا واحدة منهما سوف تكتشف اللعبة. سألتهما: كيف تجدان عرسنا؟ فنظرتا إليَّ باندهاش
كبير: هل تتكلمين اللغة الفرنسية؟
– شيئًا ما.
فأجابت الباريسية متعجِّبة: بل جيدًا ومن دون لكنة. أين تعلمتِ اللغة؟
– جدتي كانت فرنسية.
– آه إذن لذلك لك عينان زرقاوان … وكيف تزوَّجت مسلمًا؟
فأجبت بطريقة سريعة وشرسة: «لا أدري.»
أحسَّتا أن عليهما تجنُّب طرح بعض الأسئلة، ومع ذلك ظلَّت الرغبة في سؤالي تراودهما
بقلق، خاصةً منهما السيدة الأديبة التي سعدت للمصادفة النادرة هذه، فتابعت وهي تتفحَّص
حليتي: كم أنت جميلة! هل هذه الأساور عتيقة؟
فأجبتها صارخةً بأنفة: «إنها جديدة كلها.»
تبادلت الأوروبيتان بضع نظرات ساخرة وابتهجت أسارير السيدة الأديبة، ومن حسن حظي
أنها لم تردِّد: «سأُسجل ذلك لقرائي».»
٥
إن اللعبة التي تمارسها هنا ألين دو لينس تُمكِّنها، من جهة، من تسجيل المسافة التي
تفصلها عن بنات جنسها من الأوروبيات، وتُمكِّنها، من جهة أخرى، من اعتبار نفسها امرأةً
من ضمن نساء مكناس، تتزيَّى بزيهن، وتتحدَّث لغتهن، وتتقاسم معهن أسرارهن، وتعشق ربما
أكثر منهن الفضاءات التي يعشن فيها وجمالها ومكوِّناتها. ومع ذلك، وبالرغم من كل هذا
التفاعل مع معطيات الحياة اليومية للمسلمات، لم تسِر ألين بعيدًا في التماهي معهن،
محافظةً على المسافة اللازمة التي تُمكِّنها من أن تعيش خارج منطق الحريم وألَّا تجعله
مُشرع الأبواب أو مغلقًا تمامًا؛ لذا فهي تكتفي باعتبار أن الحياة نصف الإسلامية
٦ التي تعيشها في المغرب هي ما تُمكِّنها منه رغبتها وثقافتها ووضعيتها
وحساسيتها النسوية؛ فبالمقارنة مع بوهيمية إيزابيل إيبيرهاردت، التي انتهت باعتناق
الإسلام والتزيي بالزي الرجولي، تظل ألين دو لينس امرأةً ذات ثقافة بورجوازية
ورومنسية تعشق الماضي أكثر من الحاضر، امرأةً قريبة في حساسيتها الفنية من حساسية
أندري شوفريون والجنرال ليوطي، وقبلهما من حساسية دولاكروا في عشقه للنور والتقاليد
التي تقرِّبه من نموذجه الروماني البدائي.
يتعلَّق الأمر فعلًا بلعبة تتمكَّن من خلالها الكاتبة من انتقاد النظرة الاستشراقية
والغرابية التقليدية، ومن تأسيس مفهوم جديد للتواصل بين الذات والآخر، منبنٍ على
الغيرية غير القابلة للاختزال، ومعادٍ بشكل ما للتمركز العرقي حول الذات. لنتابع
اللعبة المسرحية:
«سألتني المرأة عن العديد من التفاصيل السخيفة. ومع ذلك فهي ليست ببلهاء، بل
أعتقد أنها ذكية، غير أنها لم تُدرِك كل ما يخالف حضارتها
وعوائدها وثقافتها! لقد جاءت بفكرة جاهزة عن الغانيات الشهوانيات المرتخيات على
أَسِرَّتهن، وهن يُدَخِّن النرجيلة شبه عاريات في لباسهن الشفاف المرصَّع بالذهب والفضة،
وأيضًا عن النساء المتمردات اللواتي يطمحن للحرية ولا ينتظرن سوى الخروج أو معاشرة
الرجال.
وها هي هنا تلاقي نساءً مسلمات حازمات جامدات الملامح متشحات بأثواب حريرية ثقيلة
لا تترك المجال لتخمين تقاطيع أجسادهن، نساءً لهن هيئة تماثيل جامدة … وكل هذا يزعج
تصورها، وكل أسئلتها تسير في هذا الاتجاه.
سألتني: هل تُتقنين الرقص؟ هل سيكون ثمة رقص اليوم؟
– لدينا، النساء لا يرقصن، لا يقوم بذلك فقط سوى الصبايا أو الزنجيات.
– رقصة البطن؟ رقصة الخناجر؟
– لا، إنهن لا يعرفن هذه الرقصات، وإنما رقصاتنا … هذه مثلًا …
قلتها وأنا أشير إلى كنزة (الفتاة المتبناة) التي كانت حينها قد بدأت في القيام
بحركات متناغمة وبطيئة، وهي تبدو ملهمةً مثل كاهنة تمارس شعائرها. فسألتني المرأتان
وقد ألمَّت بهما الخيبة: هذا كل شيء؟
أنا أعرف جيدًا ما كانتا تنتظرانه: تشخيص الحب، مأساة اللذة الشهوانية … غير أن
الرقص هنا ليس سوى طقس (…).
ظلت النساء الأخريات ساكنات لا يبدين حراكًا، جامدات الملامح، يُنصتن للأغنية،
فيما كانت العروس الصغيرة تشهق بالبكاء خلف الستار.
لكن الباريسية لا تعرف الصمت؛ فقد أمطرتني بالأسئلة: أتلبسين دائمًا فساتين مثل هذه؟
– لا يا سيدتي، إنه لباس الأعراس.
– وفي دارك ماذا ترتدين عادة؟
– لدي قفطان ودفينة من الجوخ الموصلي الشفاف.
– وفي الصيف حين يشتد الحر وتكونين في انتظار زوجك، ألَا تلبسين فقط الأثواب
الشفافة؟
– بالتأكيد لا، تلك ليست عوائدنا.
– وماذا تفعلين في دارك طوال اليوم؟
– أُوجِّه العبيد لِمَا يفعلونه، وأتدبَّر أمر أولادي.
– ولا تحسين بالضجر أبدًا؟
– ولماذا سأُحس بالضجر؟
– ألَا ترغبين في الخروج، وفي السفر كما نحن؟
فرددت لها الجواب الذي قالته لي إحدى النساء المسلمات في الوقت الذي لم أكن أفقه
فيه أي شيء: إذا أراد أحد إرغامي على الخروج فسأبكي لأعود للدار.
– ألَا تُحبين رؤية الرجال والحديث معهم؟
فصرخت باقتناع: يا للفضيحة!
يبدو أن الباريسية شعرت بالاضطراب، أمَّا أنا فكنت مبتهجةً بحيرتها واضطرابها.
كانت تعتقد أنها ستجد في هؤلاء المتوحشات الباذخات جواريَ
ومتمردات (…).
وفجأةً غمرني إحساس حاد بأني غريبة عن كل هؤلاء النساء في
هذا العرس، وأني بعيدة جدًّا عن الأوروبيات اللواتي لا يستطعن فهم النفوس التي
استسلمتُ معها، بعيدة جدًّا، أشد بعدًا من المغربيات اللواتي لن يسعين
إلى فهم نفسي وروحي …
غير أنني أُحس أفضل أننا كلنا أخوات.
من اللازم فهم المسلمات حميميًّا حتى لا نرى فيهن أبدًا مخلوقات استثنائية، وإنما
فقط نساء بسيطات تحرِّكهن العواطف الأكثر طبيعية (…).
كنت أرغب في أن أقول كل هذا وأشياء أخرى لهذه الأديبة التي تسعى لاكتشاف
المسلمات، لكنني
ألزم الصمت اليوم لأني واحدة
منهن …»
٧
هنا بالضبط تكمن المفارقة التي تعيشها ألين دو لينس من حيث هي مفارقة مرحة
ومأساوية في الآن نفسه، تجعلها قريبةً من العالم الذي تستكشفه وبعيدةً عنه في الآن
نفسه قربها وبعدها عن مثيلاتها من الأوروبيات.
هذا الانتماء الغرابي للمجتمع المغربي هو ما حاوله العديدون بشكل سطحي، الرحالة
منهم والعابرون والمقيمون من خلال التزيي بالزي المغربي، وخاصةً أخذ الصور التذكارية
بذلك. والحال أن هذا التظاهر هو من صميم العلاقة الاستشراقية الغرائبية التي تُكرِّس
الهجانة المظهرية باعتبارها تملُّكًا للآخر، وأن اللغة والثقافة هي المدخل الفعلي
الذي جعل الرحالة يتركون لنا استكشافات حقيقيةً عن المغرب كالأب دو فوكو ومولييراس
في أواخر القرن التاسع عشر وأندري شوفريون، وبخاصة عالمَي الاجتماع إدمون دوطي
الفرنسي وويستر مارك الإنجليزي في بدايات القرن العشرين؛ لهذا ليس من قبيل الصدفة
أن يصرِّح أوغست مولييراس، صاحب
المغرب المجهول
و
زكارة قبيلة معادية للإسلام بالمغرب، في مقدمة
كتابه الأول، الذي كتبه من غير أن يزور المغرب، بِناءً على استنطاق المخبرين والرسل،
ما يلي: «للولوج إلى المغرب واستكشافه حتى أقصى أقاصيه، ثمة علمان ضروريان لكل
رحالة أوروبي يرغب في المغامرة في هذا البلد؛ عليه أن يكون عالمًا باللغة العربية
الفصحى إلى حد ما، وعليه أن يكون متكلِّمًا جيدًا بالعربية الدارجة … أيها الفرنسيون
الشباب الراغبون في ممارسة الأسفار، لا تغب عن بالكم هذه الحقيقة التي طالما
تُجوهلت: لقد فشل كل المستكشفين الأوروبيين أو إنهم سوف يفشلون نظرًا لجهلهم باللغة
العربية. إن الترحال في بلد لا نعرف لسانه يعني السفر فيه كالمصاب بالصمم والبكم …
والمغرب قد انفلت لحد الآن من نظرة الغرب الفاحصة، وهو أمر بديهي …»
٨ وما دامت اللغة مدخل التواصل الفعلي مع السكان المحليين، ومصدر تعلم
عوائدهم وفهم أسسها الدينية والأنثروبولوجية والاجتماعية، فإن الذات الاستشراقية
تنتقل من المعرفة المصوغة سلفًا إلى إنتاج معرفة جديدة، مهما كان مقدار الخطأ فيها؛
فهي مع ذلك معرفة تقبل القرب من موضوعها وتحليلها، ومهما كانت النتائج التي تصل
إليها أو المقدمات التي تنطلق منها أحيانًا قابلةً للجدل والتفنيد انطلاقًا من
منظوراتنا المعاصرة للغيرية وللآخر.
إن هذه النظرة الجديدة هي التي كان المقرَّبون من المجتمع المغربي في بدايات القرن
قد انتبهوا لها، ساعين بذلك إلى تجاوز النظرة الاستشراقية التقليدية التي تكرَّست
طوال القرن التاسع عشر. في هذا المضمار، فإن غابرييل فير، وبالرغم من أن نظرته لا
تحيد جذريًّا عن النموذج الاستشراقي، يعترف بما يلي: «ذهب البعض إلى تصوير المغاربة
في صورة كائنات بهيمية، كل همها إشباع رغبات هي في عمومها حارَّة عنيفة، فيما
يعجزون عن بذل المشاعر الرقيقة. يا له من خطأ عظيم! فقد ذُكر لي من المغاربة من
يأتون في مجامعتهم للمرأة من الرقة واللطف ما يحسدهم عليهما الكثير من الأوروبيين،
ومن أولئك المغاربة من إذا دخلوا بزوجاتهم، يصرفون الأسابيع الطوال في التقرب
إليهن، يُفيضون عليهن من آيات اللطف والاهتمام، خشية ألَّا يظفروا من الزوجة بالرضا
كله وقد صارت ملك أيمانهم.»
٩
وفي كتابات ألين دو لينس الكثير من هذه النظرة التي تتجاوز الاستشراق البدائي
الذي يبني نظرته للجسد الشرقي على المفارقة والغرابة؛ ففي اهتمامها بالمرأة
ووضعيتها الاجتماعية في المجتمع المغربي، وقبله التونسي، نجد ظلالًا واضحة للمفارقة
التي تخترق تصورها للوجود؛ فهي تعتبر النساء المغربيات «محبوسات وأسيرات بيوتهن»،
١٠ وتصفهم «بالمسلمات السجينات»،
١١ وحياتهن «ليست سوى ضجر قاتل»؛
١٢ هن «الحسناوات أسيرات البيوت».
١٣ وحين تراقب جنازة إحدى النساء تُعلِّق: «النساء المغربيات سجينات حتى في
موتهن» (إشارة منها إلى وضع جثمانهن في التابوت).
١٤ مع ذلك فإنها ذات حساسية خاصة لجمالهن وزينتهن بحيث تتبنَّى، كما ذكرنا
سابقًا، تلك الزينة التي تُمكِّنها من استعادة جمالها والحديث عنه لأول مرة وربما لآخر
مرة، حسب ما اطلعنا عليه. من ثم يصبح جمال المغربيات مبعثًا للمحاكاة، وهي محاكاة
تنبئ عن بناء ذات جديدة تنبع من المفارقة بين الهُوية المعطاة والهُوية الجديدة التي
يتم ابتكارها. وحين تصرح ألين دو لينس: «المرأة المغربية لمَّا تكون مُشِعَّةً بالذهب
والأحجار الكريمة تغدو كليةً جوهرةً لا ندرك غير إشراقها»،
١٥ فإنها بذلك تشير للمرأة التي تهمها: المرأة الميسورة، التي تعيش في
القصور والرياضات، المرأة التي تملك العبيد، وتلك المتحدِّرة من عائلات نبيلة وشريفة.
أما النساء الأخريات والإماء والخدم، فإنهن يُشكِّلن ديكورًا في هذه الأجواء التي تعشق
فيها الكاتبة أصلًا عمارتها ونقوشها وزخارفها؛ أي كل ما يشكِّل إحالةً إلى إسلام حضاري
ترك علاماته واضحةً حتى في عِز انحطاطه. وفي هذه الفضاءات التي عاشت فيها ألين دو
لينس، سواءً بالرباط أو مكناس، قبل أن تنتقل للمنزل الذي بنته لنفسها فيما بعدُ
بمكناس، لم يكن لها سوى أن تتحول إلى صورة من صور هذا المجد الداخلي الذي تعشقه
وتنفر منه في الآن نفسه، الذي تُحب فيه نساءه وتنفر من ضجرهن ومن صخبهن
وعزلتهن.
الذات المأساوية بين البيان والمسكوت عنه
قبل أن تحمل الأقدار ألين دو لينس رفقة زوجها إلى تونس ثم إلى المغرب، كانت قد
قضت في غرناطة وقتًا طويلًا وهي ابنة العشرين، رفقة أخيها وصديقتها مارغريت، وهناك
التقت بالدون أنطونيو الراهب ومعلم الإسبانية الأندلسي الذي ظلَّت على علاقة عشق عذري
معه إلى آخر حياتها، والذي أرسل لها قبل موتها بقليل بعض الأشعار العاشقة باللغة
الإسبانية. لقد كانت غرناطة مدخلها إلى الشرق وإلى الحب: «فاس هي الأكثر كمالًا،
بيد أن غرناطة تُهيِّج مشاعري. (…) في غرناطة أُلهمت الحب والجمال، فبفعل مصادفة عجيبة
كل ما كان جوهريًّا في مصيري انكشف لي في غرناطة: الفن، أندري ودون أ… (…).
والطالبة التي جاءت إلى غرناطة تحذوها تطلُّعات غامضة، عادت منها باليقين والرؤية
الواضحة لِمَا تسعى إلى تحقيقه وللحاجة إلى الشرق. وإذا كانت حياتنا قد استقرت في
بلاد الإسلام هذه، فذلك ندين به للإرادة التي بثَّتها فيَّ غرناطة.»
١٦
تعترف ألين أنها عاشت في المغرب شقيةً مقارَنةً مع حال الهناء الذي عاشته في تونس.
١٧ وحالة الشقاء هذه لا ترتبط فقط بالمرض وفقدان الأب، ولكن أيضًا
بالحساسية الكبرى التي تُفصح عنها هذه الذات التي تعيش العذاب حتى في أقصى لحظات
المتعة الجمالية. كما أنها تتصل أيضًا باكتشاف الذات ونوازعها المتشابكة: «في
الماضي، كنت أعتقد أني مستقلة بذاتي وقوية؛ كانت لديَّ الإرادة في صنع حياتي لوحدي،
وبنفسي. غير أن السنوات المتتابعة علَّمتني ضعفي وأنني بحاجة ماسة له. إنها حاجة من
الحدة بحيث صارت عذابًا لي.»
١٨ وقبل ذلك، وعند الرحيل من الرباط إلى مكناس، تتساءل ألين عن حال نفسها
في مكناس ما ستكون بعد أن كانت حياتها بالرباط غالبًا حزينةً وخائبة ومنهَدَّة يُضيِّقها
القلق واليأس.
١٩
بدءًا من سنة ١٩٢٠م ستصاب الكاتبة مرات متواليةً بالنوراستانيا (الإنهاك العصبي)،
ورغم ذلك تظل واثقةً أنها في حالة اليأس الروحي هذه والإحساس الجنائزي والكآبة
والكوابيس ستؤلف كتابًا قويًّا. كان ذلك الكتاب هو «خلف أطلال الأسوار العتيقة …»
وستدفعها هذه الحالة إلى فقدان الإيمان بالعديد من الأشياء، الإيمان الذي تربَّت
عليه، وفقدان الثقة في طموحات الشباب وفي تذوق طعم النجاح، وفقدان الثقة في النفس …
هذا الفقد سيُحوِّل حياتها بشكل جذري.
تلك المعاناة الذاتية لألين دو لينس الناتجة عن الإصابة بمرض السرطان وعن كون
العملية لم تُنجِّها نهائيًّا من الموت، وعن الإنهاك العصبي، وما يتبع ذلك من فقدان
النوم والهوس والهلاوس … هي التي جعلت الكاتبة تكشف لأول مرة عن معضلة هُويتها
الذاتية. هي المرأة المثقفة الكاتبة الفنانة التي حظيت بالمغرب بسمعة فاقت سمعة
العديد من الكتاب العابرين.
«هذه الملاحظة أثارتني فأدركت أفضل أنني لم أكشف عن «وجهي الحقيقي» للآخرين؛ فأنا
قد أبدو جافة الطبع وربما لا مبالية. (…) وجهي الحقيقي … أعتقد أن ذلك هو ما يشكِّل
جزءًا من عذابي؛ أي إنني لم أقدر أبدًا ولا جسرت أبدًا على كشفه للآخرين.»
٢٠ إنه اعتراف خطير على أكثر من مستوًى، باعتبار أن صاحبته تصرِّح به في وقت
أصبح فيه شبح الموت يهدِّدها، وثقتها بالنفس التي عاشت بها طوال سنين عديدة تكشف عن
هشاشتها، وأحلامها الثقافية والفنية التي طمعت فيها بالشهرة تُفصح عن محدوديتها،
بالرغم من تصريحها غيرما مرة بقرب وصولها. من أين تتأتَّى تلك المرارة التي تطبع إذن
الصفحات الأخيرة من المذكرات المخصَّصة للسنوات الأخيرة من حياتها القصيرة؟ أمن المرض
فقط؟ أم من نتائج اختياراتها الذاتية؟
«اضطرابات دماغي وقلقه»، «أنا لست غير عادية» «لم أكن مجنونة»،
٢١ «دماغي المريض والمنهك»، تلك هي التعابير التي تأتي على لسان المؤلفة؛
لتعبِّر عن طابع المبالغة واللاتوافق اللذين تعيشهما ذاتيًّا في العلاقة العاطفية مع
ما
يحيط بها، بالرغم من الجهد الذي تقوم به لتُخفي تلك الحساسية المفرطة. وفي سياق
العذاب النفسي والجسدي هذا تنتبه ألين دو لينس إلى ما تجاهلته لمدة سنين، منذ أن
قرَّرت أن تقوم بنذر نفسها للعفة الجسمانية (
Voeu de
chasteté) قائلة: «اليوم ١٨ أبريل ١٩١١م، يوم قراننا، أقول أمامك
هذا القسم، لا لأنك راغب فيه، ولا لأنك تفرضه عليَّ، ولكن لأن فيه سعادتي وإرادتي.
أقسم إني أحبك حب الإفراد، بكل ما فيَّ من حب وبشكل طاهر طهارةً مطلقة … أقسم إني
سأعيش دائمًا عفيفةً معك وأن أكون دومًا مخلصةً لك …» إنها تكتشف جسدها للمرة الأولى
في مرآة ذاتها: «لقد عشتُ كما لو كنتُ فقط دماغًا، وعقلًا. قمت بإنتاجات ذهنية،
واشتغلت بعقلي وفكري، وأحببت، وعانيت وتمتَّعت فكريًّا وذهنيًّا ولم أنتبه قط إلى
أن لي جسمًا إلا في اليوم الذي تم بتره في العملية الجراحية.»
٢٢
في هذه اللحظة بالضبط، وألين دو لينس على حافة الجنون والموت معًا، ها هي تكتشف
جسدها بعد سنوات من التعفُّف، وتُقارب وجهها الآخر ذلك الذي صمتت عنه لسنوات طويلة.
وهذا الوجه نلامسه نحن من خلال مجموعة صغيرة من العلامات التي سنُتابعها.
-
(١)
علاقتها الغريبة في شبابها بصديقتها مارغريت التي كانت تغار منها في كل
أفعالها، والتي: كانت مع ذلك تُكن لها الحب والحنان.
-
(٢)
علاقتها الغريبة أيضًا مع الدون أنطونيو الراهب الذي درَّسها اللغة
الإسبانية بغرناطة، وهي العلاقة العفيفة التي استمرَّت حتى وفاتها؛ علاقتها
الغريبة أيضًا بالدكتور ليبناي الذي كانت تُفصح له عن كل ما لم تُفصح عنه
للآخرين ومن ضمنهم نحن قرَّاءَها كما لو كان راهبها الجديد.
-
(٣)
ثم ما صرَّحت به في آخر حياتها لحظة صدور كتاب موريس روسطان «لحْد من بلور»
سنة ١٩٢٠م: «كتاب موريس روسطان، لحد من بلور، كتاب رهيب يائس ومؤثر، كتاب
كان من الممكن كثيرًا أن أقدر على كتابته في هذه اللحظة، وذلك الكتاب الذي
لا أريد كتابته. لم أقرأ شيئًا عن موريس روسطان، بما أنني حذرت من هذا
«الوريث» المحتفى به كثيرًا، المتبجِّح كثيرًا والمغرور بنفسه كثيرًا كما هو
مشهور عنه. اعتقدت أنني سأجد في كتابه هذه الملامح فإذا بي أجد فيه مرآةً
لفكري. لا أحد يمكن أن يتصور الأشياء التي كتبها؛ فالمرء يعانيها ويعيشها،
لكن في الأخير علينا أن نصمت عن قولها ولو كان ذلك على حساب كتابة أثر
أدبي.»
إن التماهي مع كتاب روسطان ينبني على شيء ظاهر وآخر خفي: الأول يتعلق
بكونه روايةً تتحدث عن الأب الراحل (إدمون روسطان)، وألين دو لينس، كما
أشرنا لذلك، قد عاشت غياب أبيها بما يشبه الصدمة الكبرى؛ والثاني يتعلق
بكون روسطان كان مثلي الجنس وهو ما يصرِّح به بشكل فاضح بالأخص في روايته
هذه. وبما أن ألين لم تُشر قط إلى دور الجنس في حياتها الشخصية إلا بشكل
خفي ومدثر بالكثير من الصمت، فإن التماثل بين روسطان والمرأة التي تعيش
داخله (وهو عنوان إحدى رواياته) وألين و«الرجل الذي يعيش داخلها»، والصمت
الذي تقابل به ألين دو لينس حياتها الجنسية، يوضِّحان التباسها الذي سعت دائمًا
إلى تغليفه بالاهتمام بالآخرين (تبنيها للعديد من الفتيات)، واهتمامها
بتعليم البنات الصناعات التقليدية بمدينة مكناس، وإشرافها على حديقتين
بالمدينة نفسها … إلخ.
-
(٤)
أما العنصر الأخير فيتمثل في التماهي مع النساء المغربيات المسلمات إلى
حد أن الطابع الرومنسي التراجيدي لحياتهن يغدو مرآةً لذاتيتها المغلقة
…
لماذا هذا الاهتمام الحميم بمظهر النساء المسلمات لدى ألين دو لينس؟ هل تكون قد
أدركت فيما وراء عشقها الذاتي لهذه الاستراتيجية المظهرية الإسلامية، أن «التحرر»
النسوي سيبدأ من المظهري؟ لم يُقدَّر للكاتبة الفنانة أن تعيش لتسمع بكتاب الرحلة
المراكشية لعبد الله بن الموقت الذي يحارب فيه كل البدع الغربية المتمثلة في تشبُّه
الشباب بالأوروبيين في اللباس واستعمال الفونوغراف وغيرها من العوائد. صحيح أنها قد
تكون على علم بالهجمة التي شنَّها العلماء والفقهاء على المولى عبد العزيز، متهمين
هوسه بمظاهر الحضارة الغربية بالمروق. وهي لم تعش لتعرف أن من أوائل النساء
المتحررات لباسًا كن من أولئك اللواتي تسميهن «جواري»، وهن اللواتي يتمردن بطريقة
تقليدية على نظام الزواج الذي كان سائدًا آنذاك بالتعاطي للعلاقات المحرمة وإدخال
الرجال إلى بيوتهن في لباس النساء، الأمر الذي يشكِّل صدًى لحكايات ألف ليلة وليلة
ولِمَا جاء في كتابٍ من قبيل تحفة الألباب فيما لا يوجد في
كتاب للتيفاشي المغربي …
بل إنها، وإن تحدثت عن الجلباب مرةً واحدة في روايتها، لم تتكهَّن أن النساء سوف
يتمرَّدن على الحايك، ذلك الذي يجعل منهن أشباحًا حسب المفردة التي استعملتها
واستعملها قبلها أندري شوفريون في حديثه عن نساء فاس. كان ذلك التمرُّد قد تمثَّل في
انتشار ارتداء الجلباب الذي كان يميِّز الرجل من قِبَل النساء. «ففي فاس سنة ١٩٣٩م، جمع
بورجوازيو فاس العديد من التوقيعات وقدَّموها لباشا المدينة مطالبينه بأن يمنع النساء
من لبس الجلباب باعتباره ممارسةً شاذة؛ فقد كانت الموضة تنتشر بينهن تدريجيًّا،
وبارتداء النساء للجلباب كن يقمن بمحو التمايز اللباسي مع الرجال، وكان هذا التحرر
يوافق بدايات المطالب السياسية. إنه انطلاق متمثل في شكلين من التاريخ.»
٢٣
من هذا الحدث يبدأ حديث آخر، بيد أن كتابات ألين دو لينس تظل وحياتها في الحيرة
بين الاستشراق والاستعراب وتبَنِّي الآخر. وهي وإن كانت لا تعيش حالة الانبهار في شكله
الأولي، إلا أنها مع ذلك تظل في الفاصل الواصل بين الاستحسان والاستهجان، وبين
الرغبة الأولية والمتعة البصرية، وبين الاندماج والحفاظ على الذات. إنها أشبه
برابعة العدوية التي أحبت الله بعد أن تعبت من متع الدنيا، سوى أن ألين لم تتمتع
بمتع الدنيا إلا بينها وبين نفسها، في خلجاتها الداخلية …