الصهيونية قبل الميلاد
يغلب على ظن الكثيرين أن الصهيونية حركة دينية قديمة، وأنها مرتبطة بما ورد من الوعود للخليل إبراهيم — عليه السلام.
والواقع أنها ليست بالحركة الدينية، وليست بالحركة القديمة في بني إسرائيل أنفسهم، ولكنها حركة سياسية تابعة لقيام الدولة وسقوطها في بيت داود.
فغاية ما بلغه إبراهيم — عليه السلام — تحت قمة صهيون أنه اشترى قبرًا هناك بالمال، كما جاء في الإصحاح الثالث والعشرين من سفر التكوين في العهد القديم.
ومضت القرون بعد إبراهيم إلى عهد موسى — عليه السلام، ثم مضت القرون بعد موسى والحال على ما كانت عليه، وبقيت مدينة بيت المقدس في أيدي اليبوسيين، وجاء في سفر القضاة من العهد القديم أن بني بنيامين كانوا يسكنون مع اليبوسيين، ولا يدَّعون معهم حقًّا في المدينة، ثم أغار بنو يهودا عليها فدمروها وأحرقوها، ولم يخطر لهم أن يتخذوا فيها مقامًا ذا قداسة عندهم أو غير ذي قداسة. وعاد إليها اليبوسيون فجددوها وأقاموا فيها إلى أن تولاها داود، وخلفه سليمان فبنى فيها الهيكل المشهور. ولم يتفق اليهود أنفسهم على قداستها بعد قيام الهيكل فيها، فإن الملك «يهواش» ملك إسرائيل أغار عليها، واستباح هيكلها، وغنم ما فيه من التحف والآنية، ثم قفل إلى السامرة، وجاء في العهد القديم خبر وفاته على الصيغة المرضية فقيل عنه إنه اضطجع مع آبائه، أي قضى على الأقل غير مغضوب عليه.
وإذا رجعنا إلى كلمة «صهيون» نفسها لم نجد لها أصلًا متفقًا عليه في اللغة العبرية، وأكثر الشراح يرجحون أنها عربية الأصل لها نظير في اللغة الحبشية، وأنها من مادة الصون والتحصين، وكانت فعلًا من حصون الروابي العالية. والمقصود بالعربية هنا لغة الأصلاء من أبناء الجزيرة الذين سكنوا أرض فلسطين قبل هجرة العبرانيين بمئات السنين، وهم الذين أطلقوا على الأرض اسم أرض كنعان بمعنى الأرض الواطئة، ولا تزال مادة كنع وقنع وخنع بهذا المعنى في لغتنا العربية الحاضرة.
والكلمة تكتب في العبرية تارة بالسين وتارة بالزاي، ولم يحرص عليها اليهود بعد دخولها في حوزتهم، بل جاء في سفر صمويل الثاني أن داود غير اسمها باسم بيت داود ولم يشأ أن ينقل تابوت الرب إليه بل مال به إلى بيت عوبية. كذلك كان شأن صهيون قبل سبي بابل، فلما حمل اليهود إلى الأسر أصبح الحنين إلى صهيون رمزًا للحنين إلى عودة المملكة الغابرة. وتحولت الوعود الإلهية في كتبهم تحولًا جديدًا مع مصالح السياسة، فانحصرت في ذرية داود — عليه السلام — ليخرج منها غير ذي الذرية من اليهود.
وليس هذا بالتحول الأول عندهم في هذه الوعود على حسب المصالح السياسية؛ فقد كان الوعد لإبراهيم فحولوه إلى إسحاق ليخرجوا منه أبناء إسماعيل، ثم حولوه إلى يعقوب ليحصروه في سلالة إسرائيل، ثم حولوه إلى ذرية داود لينحصر في مملكة الجنوب دون مملكة الشمال. وهكذا كان وعد صهيون (وعدًا سياسيًّا) تابعًا لمآرب الدولة ومآرب الهيكل الذي يقام في جوارها، فلا شأن له بالعقيدة الدينية التي تشمل جميع سلالة إبراهيم.
وفي الأسر البابلي تعلم اليهود بقايا الديانة القديمة، وما احتوته من البشائر عن عودة (مروخ) إلى الأرض، وعودة رسول النور كل ألف سنة إليها لإصلاح فسادها، فتعلقت آمالهم بعودة المملكة على يد بطل من أبطال الغيب، ولم يكن هذا البطل مقصورًا عندهم على ذرية داود، بل زعموا مرة أنه هو «كورش» الفارسي الذي سمي بالمسيح في الإصحاح الخامس والأربعين من سفر أشعيا. ولبثوا دهرًا يتخيلون المسيح الموعود ملكًا صاحب عرش وتاج، يفتتح بيت المقدس بالسيف، ويعيد فيها الدولة الدائلة. ثم يئسوا مع الزمن من تجدد المملكة بقوة السلاح فعلقوا الرجاء بالرسول المختار من عالم الروح، وقيل في وصفه كما جاء في سفر زكريا «أنه عادل ومنصور ووديع يركب على حمار ابن أتان».
ولما بعث المسيح — عليه السلام — أنكر كهان الهيكل بعثته وآمن به بعض اليهود وبعض أنباء الأمم المقيمين في فلسطين، واحتج القوم عليه بوعد إبراهيم، فقال لهم: إن أبناء إبراهيم بالروح هم الموعودون بالخلاص، فكل من آمن بدينه فهو من أبنائه، ولا فرق بين اليهودي واليوناني، لأن ربًّا واحدًا للجميع. كما جاء في الرسالة إلى رومية.
وقد حدث في عصر السيد المسيح أن اليهود تفرقوا في أنحاء الدولة الرومانية، واتخذوا لهم وطنًا في كل قطر من أقطارها الواسعة، فكتب فيلون فيلسوف الإسكندرية اليهودي يقول في تحديد موقفهم من الدولة: «إن اليهود — لكثرة عددهم — لا تحتويهم بقعة واحدة، ويتفرقون لطلب الرزق في أغنى البلاد من أوروبا وآسيا، على أنهم ينظرون إلى أورشليم مقر هيكل الله المقدس كأنها حاضرتهم الكبرى، ويحسبون وطنًا لهم كل أرض عاشوا فيها وعاش فيها آباؤهم وأجدادهم من قبلهم.»
فالصهيونية في الزمن القديم لم تكن عقيدة دينية، بل كانت نزعة سياسية، ثم ذهب الأمل في نجاحها السياسي، فانقطعت العلاقة بينها وبين معناها الجغرافي، وأطلقت في بعض التعبيرات على معنى آخر بعيد كل البعد من المعاني الجغرافية، وذاك حيث يقول صاحب الرسالة إلى العبرانيين من الإنجيل «إنكم لم تأتوا إلى جبل ملموس مضطرم بالنار … بل أتيتم إلى جبل صهيون، وإلى مدينة الله الحي أورشليم السماوية … وكنيسة أبكار مكتوبين في السموات وإلى الله ديان الجميع.»
وواضح من تعبير هذه الرسالة أن الصهيونية قد تحولت إلى فكرة لا تتعلق بمكان معين، ولا تتطلب العودة إلى فلسطين، ولذلك ناهضها المتدينون من اليهود عند ظهور الدعوة إليها، واعتبروا هذه الدعوة تجديفًا وإنكارًا للمسيح المنتظر في عالم الروح، فتلاقت عقيدة المسيحيين المؤمنين بالمسيح — عليه السلام — وعقيدة اليهود الذين ينتظرونه في آخر الزمان، فاتفقتا على شيء واحد، وهو الفصل بين الصهيونية السياسية والفكرة الدينية.
والواقع أن الصهيونية كأختها القديمة: كلتاهما وليدة السياسة والسياسيين، أيًّا كان السبب الذي تستند إليه.
وجملة أسبابها — كما يذكرها المؤرخون لها — هي الاضطهاد وظهور الفكرة القومية ومطامع الاستعمار.
لهذا نشأت أول الأمر في أوروبا الشرقية وأوروبا الوسطى، حيث بلغ الضغط على اليهود أشده في القرن التاسع عشر، ثم نشأت مع المسألة الشرقية واستخدمها الساسة لتحقيق مطامعهم في بلاد «الرجل المريض» … أي الدولة العثمانية كما سمَّاها رواد الاستعمار.
فلما اتجهت أوروبا كلها إلى طرق المواصلات بين الشرق والغرب خلال الدولة العثمانية، أراد نابليون أن يستخدم اليهود للسيطرة على التجارة في هذه البقاع، فنشر بالصحيفة الرسمية إعلانًا دعا فيه يهود إفريقية وآسيا إلى موافاة جيشه بمصر، ليدخلوا معه إلى أورشليم، وراجت في باريس سنة ١٧٩٨ دعوة يهودية إلى اغتنام الفرصة، للاستعانة بفرنسا على تنظيم أعمالهم التجارية بين الوجه البحري في مصر وعكا والبحر الميت وشواطئ البحر الأحمر.
ولم تكد هذه الدعوة تحبط بحبوط حملة نابليون حتى تصدى الإيرل أوف شافتسبري الإنجليزي سنة ١٨٤٢ لتبنيها واحتضانها، منعًا لتنفيذها على يد دولة أخرى، وعلى الخصوص الدولة الروسية، فوضع مشروعًا سماه مشروع «الأرض بغير شعب للشعب بغير أرض»؛ ويعني بالأرض مكانًا خاليًا يصلح للاستعمار الزراعي في أنحاء فلسطين، ثم انعقد مؤتمر برلين وهذه الفكرة الشائعة فيه بين الأروقة يزجيها رجال المال من وراء الستار.
ولما فوتح السلطان عبد الحميد الثاني في هذه المسألة أراد بدهائه المعروف أن يسخرها لغرضين من أغراضه: وهما الحصول على القروض بأيسر الشروط، واستخدام اليهود في رد حملات التشهير التي كانت تنهال عليه باسم المذابح الأرمنية. وسنرى فيما يلي من الكلام عن أطوار هذه المسألة أنها كانت — ولا تزال — ألعوبة من ألاعيب السياسة التي تتوارى خلف ستار من الدين، ولكننا — قبل أن ننتقل إلى الصهيونية بعد العصر القديم — نود أن نميط الستار عن حقبة أخرى ترتبط بتاريخ الصهيونية، ويتجاهلها الذين تذرعوا باسم الإنسانية لتعليل هذه الحركة الجهنمية.
فهم يقولون — ولا يملون تكرار القول — إن الاضطهاد هو علة الصهيونية الأولى، وإن قيام الصهيونية يقضي على هذه العلة أو يمنع تجديدها.
والحقيقة التي نريد أن نقررها هي أن الاضطهاد نتيجة لداء مزمن في اليهود سيبقى معهم في دولتهم الجديدة كما كان معهم في دولتهم القديمة.
فمن الذي اضطهد اليهود في مملكة سليمان حتى انقسمت على أهلها ثم انقسم كل شطر من شطريها على أهله؟
ومن الذي اضطهدهم يوم تمردوا على كل نبي من أنبيائهم، وكل قائد من قادتهم، وهم بعيدون من سلطان غيرهم؟
إن القرآن الكريم قد وصفهم حقًّا حيث قال عنهم: تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰۚ. ولم يصفهم القرآن الكريم إلا بما وصفتهم به كتبهم ورسلهم من أقدم عصورهم إلى ما بعد عصر المسيحية.
ففي الإصحاح الحادي والثلاثين من سفر التثنية يقال لهم بلسان الرب: «إني عارف تمردكم ورقابكم الصلبة.»
وفي الإصحاح التاسع من سفر نحميا أنهم «أعطوا كتفًا معاندة، وصلبوا رقابهم ولم يسمعوا».
وفي الإصحاح السابع عشر من سفر أرميا أنهم «قسوا أعناقهم لئلا يسمعوا ولئلا يعقلوا».
وفي أعمال الرسل أنهم غلاظ الرقاب. وفي غير هذه الكتب إجماع على غلظ رقابهم، وشكاستهم، وامتناع الوفاق بينهم. وهذه هي الآفة التي لا تفارقهم في دولتهم الجديدة، وما فارقتهم قط في دولتهم الغابرة، حتى قضوا عليها قبل أن يقضي عليها أعداؤها. وقد جروا على أنفسهم الاضطهاد في كل بقعة وفي كل عصر. وبين كل قبيل، فليس من المعقول أن تكون العلة في غيرهم، وليس للأمم من حيلة معهم إلا أن تخضعهم آخر الأمر أو تخضع لهم برمتها، وإنه لهو المستحيل بعينه على كل فرض من الفروض، وإنما آفة القوم الكمينة فيهم أنهم كائن ممسوخ من الوجهة الاجتماعية؛ لأنهم جماعة مقتضبة لم تصبح أمة، ولم ترجع إلى نظام القبيلة البدوية، واشتبكت مع العالم وهي في مرحلة غير نامية وغير صالحة للنمو على حدة، فكل علاج لها ميئوس من جدواه، ما لم يغلبها العالم على طبيعتها ويدمجها اضطرارًا في طوية أممه، وسوف يكون ذلك لا محالة؛ لأن غيره لن يكون.