الصهيونية العالمية وطوابيرها الخامسة في السياسة الشرقية
كان نابليون الكبير من الخبراء الحذاق بصناعة الحكم، وكان على علم بديهي بأطوار الجماعات ومصادر النفوذ في الرأي العام، وكان من أجل هذا عظيم العناية بعوامل النفوذ الصهيوني في البلاد الفرنسية وفي البلاد التي يتطلع إليها بنظره، لأغراض سياسية أو عسكرية.
كان في سنة ١٨٠٦ سيد القارة الأوروبية غير مدافع، هزم النمسا وبروسيا، وتغلب على وليام بت في ميدان العلاقات الدولية، ولكنه في تلك السنة كان يرفع يديه دهشًا ويسأل من حوله قائلًا: «بأية معجزة أصبحت أقاليم كاملة من فرنسا مرتهنة لليهود، وليس منهم فيها أكثر من ستين ألفًا؟!»
لا جرم يفكر نابليون في الصهيونية العالمية قبل حملته على المشرق، ويساوم هذه الصهيونية على تبادل المنفعة من وراء تلك الحملة، فهم يعودون إلى أرض الميعاد ويعيدون فيها دولتهم البائدة، وهو يستفيد من أموالهم ودعايتهم في تأييد تلك الحملة ومقاومة النفوذ السياسي، أو المالي، الذي يعترضها ويعوق حركاتها.
وقبل هذا البيان بسنة واحدة نشر اليهود في باريس دعوة للاجتماع بها، والاتفاق مع الحكومة الفرنسية على رد الصهيونية إلى وطنها، وذكروا أن ذلك الوطن يشمل الوجه البحري من القطر المصري، مضافًا إليه إقليم يحده خط من عكا إلى البحر الميت، وخط من جنوب البحر الميت إلى البحر الأحمر، وأنهم باستيلائهم على هذه المملكة يسيطرون على تجارة الهند وبلاد العرب وإفريقية الشرقية وإفريقية الجنوبية، وأن مجاورة هذه المملكة لحلب ودمشق تيسر لهم سبل التجارة مع البلاد الفارسية، وتفتح لهم من طريق البحر الأبيض المتوسط أسواق إسبانيا وفرنسا وسائر أنحاء القارة الأوروبية، وتصبح هذه المملكة من مركزها في وسط العالم مستودع المحاصيل العالمية فتمنح فرنسا — في مقابلة المعونة على رد اليهود إلى وطنهم وحمايتهم فيه — جزاء ماليًّا وافيًا، وحصة كبيرة من التجارة وأرباحها.
وجاء في الدعوة اليهودية أن المقترحات التي عرضت في الوقت نفسه على الدولة العثمانية ستظل في طي الكتمان، وأن المعول فيها على حكمة المجلس المشرف على هذه الدعوة، وعلى حسن النية من جانب الأمة الفرنسية.
وواضح من خطة نابليون أنه لم يكن يريد المعونة العسكرية من الصهيونيين، وأن الفرق المزعومة التي قال إنها تهدد مدينة «حلب» لم يكن لها وجود، وإنما أراد بها معونة الأيدي الخفية في مراكز السياسة العليا، كما أراد معونة المال إذا ضنت بها خزانة الدولة.
هذا مثل من الأمثلة على أساليب الصهيونية في علاقتها بالسياسة الشرقية، وأخصها سياسة فلسطين والديار المصرية.
تستطلع الأسرار، وتحس بوادر الخطط الخفية قبل تنفيذها، وتحاول أن تساوم عليها، فلا تعدم من يقبل هذه المساومة مخلصًا أو غير مخلص في مقصده، وتجعل المصلحة المتبادلة ضمانًا بعد ذلك لدوام المنعة بين الطرفين.
فقبل حملة نابليون بسنة كانت الصهيونية على علم بموعدها، وكان سفراؤها في باريس يساومون عليها، ولا ينسون السفارة عند السلطان العثماني، متكتمين طبيعة تلك المساومة، ولكنها ظاهرة من قرائنها، ولا بد فيها من عنصر الرشوة وعنصر الحريم.
وبعد قرن على التقريب، بدأت طلائع الحملة الإنجليزية، وعملت فيها الصهيونية عملها الظاهر والخفي على نحو من هذه الأساليب.
كان الخديوي إسماعيل يبحث عن القروض فلا يجد من يقرضه، ويرى بين يديه أسهم قناة السويس وهي قريبة من نصف الأسهم، فتلح عليه الحاجة العاجلة وتضطره إلى عرضها للبيع سرًّا، لخوفه من مناورات الهبوط والصعود في الأسواق المالية، وخوفه قبل ذلك من مناورات السياسة الفرنسية والإنجليزية، وهما تتناظران ولا تكفان عن النزاع في شئون القضية المصرية.
كيف تذلل هذه العقبة؟
بل كيف تذلل هاتان العقبتان: عقبة السياسة الفرنسية، وعقبة السياسة البريطانية؟
هنا تفعل الصهيونية العالمية أفاعيلها التي يعجز عنها الساسة، ولا تحيط بها المجالس النيابية.
فرنسا عدوة مناظرة لبريطانيا العظمى، فكيف تترك لها هذه الغنيمة الشهية؟
تتركها لأن بيت روتشيلد موزع بين باريس ولندن وبرلين، ولأن بسمارك يهدد فرنسا بعد حرب السبعين ويعزلها في سياسة القارة الأوروبية، فإذا تدخل بيت روتشيلد لإقناع فرنسا بإرضاء بريطانيا، وللتقريب بين السياستين الفرنسية والبريطانية في القارة الأوروبية، وللتعاون بين الدولتين معًا على مناهضة بسمارك أو مناهضة الدولة الألمانية الناشئة؛ فهي صفقة رابحة تأتي في أوانها، ويقوم بها سمسار قادر عليها، لأنه يملك نفوذ المال في باريس ولندن وبرلين.
- أولًا: لأن البرلمان كان في إجازة.
- ثانيًا: لأن المحافظين كانوا يخشون معارضة الأحرار في كل أمر يتعلق بالمسألة الشرقية.
وكان المبلغ اللازم أربعة ملايين جنيه، وليس من السهل صرف هذا المبلغ ولا أقل منه بغير إذن البرلمان.
أن الصفقة مالية وسياسية وأنها لازمة لتمكين الإمبراطورية.
هذه هي أساليب الصهيونية العالمية في السياسة الشرقية لا نظنها من تدبير هيئة مسيطرة قائمة في جميع الأوقات، ولكنها أسرار تعرف في أوقاتها، وفرص تغتنم من القادرين عليها، ولا حاجة بالصهيونية العالمية إلى تدبير أثبت من هذا التدبير.