الصهيونية العالمية … أساليبها في العصر الحاضر (٣)
- أولاهما: الصلح مع العرب.
- والأخرى: استبقاء نفوذها في البلاد الأمريكية.
فالواقع أن إسرائيل هالكة لا محالة إذا استمرت مقاطعة العرب لها «سياسيًّا واقتصاديًّا» بضع سنوات أخرى.
ولهذا يتعمدون خلق المشكلات بين إسرائيل والبلاد العربية، عسى أن يؤدي البحث في المشكلات إلى البحث في الصلح، وعسى أن يؤدي البحث في الصلح إلى فك الحصار السياسي والاقتصادي عن الدويلة القائمة على غير أساس.
وقد تحدث رؤساء العصابة التي تسمي نفسها حكومة إسرائيل عن مشكلات الحدود الفلسطينية، فقالوا: إنها عمل من أعمال القصاص، وإن إسرائيل لا تلجأ إليها باختيارها، وإنا نضطر إليها اضطرارًا لكف العدوان على حدودها.
لكن الصهيونيين أنفسهم يكذبون هذه الدعوى، ويصرحون بما ينقضها في كلامهم الذي ينشرونه بين الأمريكيين، ويعلنون أن خلق هذه المشكلات على الحدود إنما هو خطة مدبرة لإكراه العرب على الصلح، وإنقاذ إسرائيل من الخطر المحتوم الذي تهددها به المقاطعة.
ومضى موشي برليانت يقول: «إن هذه الخطة جلبت على الحكومة اليهودية لوم مجلس الأمن في هيئة الأمم المتحدة، وجرت عليها تأنيب لجنة الهدنة المشتركة في الشرق الأوسط، وبعض التقريعات الدبلوماسية من واشنطون ولندن وباريس، بل أوشكت أن تحول عن الدولة اليهودية عطف أبناء دينها في الولايات المتحدة، فقل الإقبال على تلبية النداء الموجه إليهم بطلب الإعانة من جماعة اليهود المتحدة، ولوحظت هذه القلة على الدوام عقب حوادث القصاص على الحدود.»
وراح الكاتب يعدد المواقف التي أفادت فيها هذه الخطة المدبرة، فذكر منها الموقف الأول وهو إكراه العرب على وقف القتال، وذكر منها الموقف الثاني وهو إكراههم على عقد الهدنة، وقال: إن هذه الخطة بعينها ستكرههم على الموقف الأخير وهو قبول الصلح مرغمين، ولم يبال هذا الكاتب الصفيق أن يقول: إن إسرائيل كانت تختلق المعاذير والتعلات لقتل من تقتلهم باسم الثأر على سنة العين بالعين، ولكنه استطرد قائلًا: «إنه أمام هذه السوابق تولَّد في إسرائيل شعور بأن الوسيلة الوحيدة لسوق العرب كرهًا إلى مائدة الصلح إنما هي العلم بأن حالة الهدنة ضارة بهم غير موافقة لمصلحتهم. وهذا ضرب من التفكير يخالف مزاج الأكثرين من الأمريكيين، ولكنه منطق من الصعب مقاومته، فضلًا عن تعزيزه بمجرى الحوادث منذ سنة ١٩٤٩.»
فهؤلاء الناس لا يخجلون من المناداة بتدبير الإجرام، وانتحال أسباب القتل والعدوان لتنفيذ خطة سريعة مرسومة بالدم البارد كما يقولون، لإكراه العرب على مصالحتهم واضطرارهم إلى قبول استغلالهم وتسخيرهم لمطامعهم، ويحسبون أن الرأي العام الذي يخاطبونه بهذه الصراحة لا يؤاخذهم على إجرامهم وعدوانهم، لأنه يريد لهم النجاح بكل وسيلة مستطاعة، ولا يبالي ما يصيب العرب إذا كان في هذا المصاب تحقيق مطامع إسرائيل.
إن هذه الصراحة في الاعتراف بالإجرام لدليل على كثير، وأدل ما تدل عليه أنهم يعتقدون أن اللائمين لهم إنما يلومونهم على سوء السياسة، وعلى التورط في الأخطاء التي تعزى إلى الرعونة وقصر النظر، فأما إذا كان العدوان تدبيرًا محكمًا فلا لوم عليهم في التصريح به علانية، ولا ضير في اتخاذ كل وسيلة لإكراه العرب على الإذعان لإسرائيل.
على أن الشواهد المتوالية تخيب ظن الصهيونيين في هذا التقدير؛ لأن هؤلاء الصهيونيين قد جاوزوا الحد في الاعتماد على عطف المؤيدين وغفلة الغافلين، وقد بدأت بوادر السآمة بين الأكثرين في الغرب من هذه اللجاجة التي لا تعرف الحياء، وضاق الناس ذرعًا بما تكلفهم عصابة إسرائيل من ثمن ثقيل لا يؤدونه اليوم حتى تعود فتكلفهم بثمن جديد، ومن هؤلاء الذين ضاقوا ذرعًا بمشكلات العصابة الصهيونية أناس من اليهود أنفسهم، كما قال موشي برليانت في المقال الذي أشرنا إليه.
ولقد أخذ الكثيرون من الأمريكيين يحسون أنهم يحتملون من أجل إسرائيل فوق الطاقة على غير جدوى وإلى غير نهاية.
وقد ظهر هذا الإحساس في مواطن كثيرة، وأشفق الصهيونيون من عقباه فهداهم ذلك الطبع الأعوج الذي فطروا عليه إلى الخطة التي جربوها مع الإنجليز بفلسطين، واعتقدوا أنها صالحة للتنفيذ في كل موضع وفي كل آونة، وهي خطة الإرهاب والتهديد.
غرهم أنهم قتلوا «برنادوت» رسول الأمم المتحدة ولم يصبهم شيء من جراء قتله، فأَنشَئوا في البلاد الأمريكية جماعة إرهابية من قبيل الجماعات التي اشتهرت بفلسطين، وكأنهم يئسوا من دوام نفوذهم القديم بغير الإرهاب، فاستعدوا بالإرهاب لطوارئ الزمن وتقلب الأحداث، وخيل إليهم أن استبقاء نفوذهم في البلاد الأمريكية ضرورة لا غنى عنها بكل ثمن وبكل حيلة، لأنها مسألة الحياة والموت في هذه المرحلة من حياة الصهيونية العالمية، فهم يستميتون في سبيلها، وينسون أن الاستماتة قد تميت.
إن اليهود في الولايات المتحدة يبلغون خمسة ملايين، نحسب منهم من تتوسط بهم السن فوق الخامسة عشرة ودون الأربعين، فنكاد نقول إنهم كلهم مشتركون في منظمة الإرهاب، لأن أعضاءها يعدون بمئات الألوف، وربما كان المساعدون على الإرهاب أكثر من العاملين به، بل ربما كان اليهود المخالفون لخطة الإرهاب عرضة للتهديد والانتقام قبل غيرهم من المخالفين. فلا مبالغة في القول بأن «الإرهاب» هناك خطة خمسة ملايين، وليس بالخطة المقصورة على عشرات الألوف أو مئات الألوف.
إن هؤلاء الإرهابيين يكتفون اليوم بالتهديد الاقتصادي، وتهديد حملات التشهير والدعاية والفضائح الاجتماعية، وقد يضغطون بالرؤساء على المرءوسين الذين يعارضونهم ولا يتواطئون معهم على مساعيهم ودسائسهم طواعية بغير مقاومة، ولكنهم — أي هؤلاء الإرهابيين — سيندفعون ويتهجمون كلما اشتدت المقاومة واشتد الخطر على نفوذ الصهيونية، وسيندفعون ويتهجمون كلما اغتروا بالقوة وأمعنوا في هذه الصناعة التي تشبه رذيلة الإدمان في الإغراء بالمزيد، كلما استحكمت العادة ومردت عليها النفس المنكوبة بشرها.
وفي تاريخ الإرهاب من عهد شيخ الجبل — أو عهد حسن بن الصباح — أمثلة على البداية والنهاية في هذا الطريق، فقد بلغ الخطر أشده حين أحس به الجميع، فلما أحس به الجميع قضى عليه وجنى على نفسه كما جنى على ضحاياه.
حياة الصهيونية العالمية في الصلح مع العرب، وفي استبقاء نفوذها بالبلاد الأمريكية، وكل جهودها في العصر الحديث ضائعة إن لم تحقق هاتين الغايتين.