عصبية الصهيونية في ميدان الثقافة والسياسة
عصبية الصهيونية الحمقاء داء قديم متأصل في نفوس القوم لا يسلم منه كبير فيهم ولا صغير، ولا تخفى شواهده عمن تنزه عن الغرض، سواء نظر إلى تاريخهم القديم أو تاريخهم الحديث.
وقد أشرنا في هذه الفصول إلى هذا الداء الوبيل، وأتينا على بعض شواهده.
ونشير هنا إلى بعض آثار هذه العصبية وتبشيرها بالدعوات والحركات المضللة في ميادين الثقافة والعلم والسياسة، فتمضي أكاذيبها بين الكثيرين من المستنيرين وكأنها حقائق لا تقبل الشك، أو آراء جديدة تقابل بالجد والاهتمام.
وإنهم ليستعدون لترويجها والدعوة لها بمن يجندون من صفوفهم أو من حملة الأقلام المأجورة لخدمتهم، ويظهر منها ما يظهر، ويختفي ما يختفي، مقدرًا على حسب الأجواء المهيأة له، وكل ذلك يجري في غفلة عن بواعثه الخفية والدسائس اليهودية.
وما أشد ما تتردد الدعايات الحماسية المحمومة في الكتب والصحف والمعارض ودور الصور المتحركة لما يبتدعون أو يبتدع غيرهم من المدارس والمذاهب الأدبية والفنية العلمية والفلسفية التي تتجه إلى الهدم خدمة للصهيونية، كما تتردد هذه الدعايات المجموعة من أجل هذا الغرض لتعلي شأن البارزين والبارزات من اليهود حتى تطغى شهرتهم على من هم أولى منهم بالتقدير والشهرة، أو لتغض من أقدار النابغين من غيرهم دون جناية لأحد من هؤلاء المظلومين إلا أنه ليس من اليهود ولا صنائعهم وأوليائهم، أو ممن قال فيهم يومًا كلمة الحق تغضبهم، فاستحق من أهلها المقت واللعنة من رضوانهم ورضوان أذنابهم في كل ميدان.
وأمامنا الحركات الفكرية والاجتماعية والسياسية في الغرب، وأصداؤها هنا وهناك، فإن دراستها على حقيقتها دون عناوينها تدل على عبث الصهيونية بأقدس القيم، وتسخيرها كل حركة — ما استطاعت — لإفساد العقول والأخلاق.
وقد كان من رأينا أن مثل هذه الحركات ينبغي أن تفهم مع فهم بواعثها في نفوس أصحابها والقائمين بها، وأنه لا سبيل إلى فهمها بغير ذلك.
وهكذا ينبغي أن تفهم الحركات الحديثة في الغرب، وتفهم معها العوامل الصهيونية التي تحركها سرًّا وعلانية، ليتبين ما فيها من حق وباطل، تنكشف بواعثها وأغراضها الحميدة والذميمة.
وقد قلنا منذ سنوات في مقال عن الوجودية: «لن تفهم المدارس الحديثة في أوروبا ما لم تفهم هذه الحقيقة التي لا شك فيها، وهي أن أصبعًا من الأصابع اليهودية كامنة وراء كل دعوة تستخف بالقيم الأخلاقية، وترمي إلى هدم القواعد التي يقوم عليها مجتمع الإنسان في جميع الأزمان. فاليهودي كارل ماركس وراء الشيوعية التي تهدم قواعد الأخلاق والأديان، واليهودي دركيم وراء علم الاجتماع الذي يلحق نظام الأسرة بالأوضاع المصطنعة ويحاول أن يبطل آثارها في تطور الفضائل والآداب، واليهودي — أو نصف اليهودي — سارتر وراء الوجودية التي نشأت معززة لكرامة الفرد فجنح بها إلى حيوانية تصيب الفرد والجماعة بآفات السقوط والانحلال.
ومن الخير أن تدرس المذاهب الفكرية بل الأزياء الفكرية كلما شاع في أوروبا مذهب جديد. ولكن من الشر أن تدرس بعناوينها وظواهرها دون ما وراءها من عوامل المصادفة العارضة والتدبير المقصود.»
وهناك أمثلة على هذه العصبية من نوع آخر، تعزز كل ما قدمنا، وتؤكد لنا أن هذا الداء العياء لم يسلم منه أحد بينهم حتى العلماء «المستقلين».
من ذلك فرويد صاحب المذهب المشهور في الطب النفساني، وإن كان ليقال فيه ما قلنا عن ماركس ودركايم وسارتر، إنه كان من وراء علم النفس الذي يرجع كل الميول والآداب الدينية والخلقية والفنية والصوفية والأسرية إلى الغريزة الجنسية، ويحاول أن ينسخ قداستها ويخجل الإنسان منها، ويسلبه الإيمان بسموها وسمو مصدرها حين يردها إلى أدنى ما يرى هو في نفسه، وبهذا تتمزق صلاته بأسرته ومجتمعه والكون وما وراءه.
ويبدو فرويد «مستقلًّا» بعلمه عن «يهوديته»، ولكنه كان في الحقيقة لا يطمئن إلى أحد في عمله إلا أن يكون من «اليهود»، ولا يثق بعمل مساعد له من غير ملته في المستشفى والمعمل ومعهد التطبيب.
وكان من المولعين بالعقد النفسية، وكنا ولا نزال نرى أن الولع بهذه العقد قد يكون إحدى العقد النفسية، وأن المكثرين من الحديث عنها قلما يسلمون من مركبات النقص وما إليها، وكذلك عاش فرويد.
وكان الدكتور إرنست جونس أكبر تلاميذه الأحياء قد أصدر الجزء الثاني من ترجمة أستاذه، وجاء فيه بشواهد كثيرة تعزز هذه الملاحظة، ولم يقصد بروايتها غير تقرير الحقائق، لأنه من المعجبين بالأستاذ إعجاب التقدير والوفاء. من تلك الشواهد الكثيرة أن فرويد كان يتبع أوراقه فيحرقها قبل أن يتمكن أحد من الاطلاع عليها.
ومنها أنه كان إذا نوى السفر ذهب إلى المحطة قبل وصول القطار بنحو ساعة.
ومنها أنه كان شديد القلق يعمد على الدوام إلى تهدئة أعصابه بالإفراط في تدخين التبغ اللاذع، وتعزى إلى ذلك إصابته بالسرطان في فمه.
ومنها أنه كان يحيط نفسه بأعوان من اليهود، ويندر أن يعمل مع أحد من غير دينه.
وإنه لمن العجب أن يكون الدكتور إرنست جونس تلميذه الوحيد من غير اليهود ثم ينساق في تقديره مع الوعظ التبشيري باسم العلم والثقافة.
ونحسب أن فرويد لم يعمل عبثًا إذا كان العالم قد استطاع بعد أقل من عشرين سنة من وفاته أن يضعه على المشرحة التي كان يضع عليها مرضاه. ويذكرني هذا بقصة التلميذ اليوناني وأستاذه في علم الجدل والسفسطة، فإن التلميذ أنكر حق الأستاذ في الأجر المتفق عليه بعد انتهاء الدروس التي حضرها عليه، وقال له إنه سيناقشه في هذا الحق، فإن أقنعه بأنه لا يستحقه فلا أجر له عنده، وإن لم يقنعه فلا أجر له عنده كذلك، لأنه لم يعلمه كيف يقيم البرهان على دعواه.
قال الأستاذ: بل أستحق الأجر مرتين لأني علمتك أن تغلب أستاذك. وعلى هذا النحو يستطيع فرويد أن يهدأ في قبره، لأنه علم الناس كيف يضعونه على المشرحة ليطبقوا مذهبه عليه.
ومثل آخر: ألبرت أينشتين صاحب نظرية النسبية، وأكبر ما في «يهوديته» أن الكثيرين يحسبونه «مستقلًّا» منقطع الصلة بها لأنه يعيش أيامه كلها على اتصال بمعاهد العلم والعلماء.
ولكنه كان ينادي بالعصبية الصهيونية حين لا يضطره أحد إلى هذا النداء.
وقد نشرت بعد وفاته مجموعة من الرسائل والخطب في طبعة جديدة، وقيل إنه أقر اختيارها وتنسيقها في هذا الكتاب.
ويجهر أينشتين في جملة من هذه الرسائل «بعصبية الصهيونية» ويؤمن بإسرائيل كأنها عالم البعث للحياة اليهودية، وليست مجرد وطن أو «مأوى» للمضطهدين من المهاجرين.
ويعتقد العالم «المستقل» برابطة الوحدة التي لا تنفصم بين الصهيونيين ثم يزعم أن موقف العالم من اليهود هو الذي يربط بينهم بهذا الرباط الوثيق، ولا يذكر أن موقف اليهود من «الجوييم» سابق لكل موقف من مواقف الأمم الأخرى في المشرق والمغرب نحو هذه السلالة التي تعزل نفسها ولا تكتم عزلتها وانفصالها بين الأمم بالنسب والعقيدة والمصلحة والسيادة الموعودة على أبناء آدم وحواء.
فهو يقلب الحقائق رأسًا على عقب ليسوغ «العصبية اليهودية» ويلقي تبعتها على «الجوييم» وما كان للجوييم هؤلاء من وجود في غير شعائر اليهود، ونصوص الترجوم والتلمود.
ومثل آخر من علمائهم ولكنه من طراز عجيب هو العالم الطبيب ماكس نوردو، الذي ترى من نظرة واحدة إلى معارف وجهه ولمحات عينيه ذلك الحبر العبري القويم الذي لم تغير من قسماته ولا خصاله مئات السنين التي قضاها أسلافه بين ربوع أوروبا، وقد شغف طول حياته بالهدم أشد من شغفه بالبناء.
ومن أعاجيب نوردو أنه كان يقسم الأخلاق إلى إسرائيلية وغير إسرائيلية، وأنه كان شديد الغيرة للدعوة الصهيونية، حريصًا على التبشير بها مع تطرفه في الإلحاد، كأنه كان يستخرج من إلحاده فخرًا صهيونيًّا، فإن نهاية الإلحاد أن ينفي كل ما وراء المادة، وفي ذلك شاهد على جودة الطبع اليهودي عنده لأنه سبق إلى هذه النهاية، إذ لم تنظر الديانة الموسوية فيما وراء المادة مطمعًا للإنسان. وكان طول حياته يبشر بدين المنفعة، ونسميه دينًا على عمد لأنه في الحقيقة دين يذب عنه بكل ما يكون لدين كهذا من الغيرة وإصرار العقيدة. فهو يؤمن بدين المنفعة ولا يعرف للأشياء غاية تعدوها، ولا يثني على خلق إلا إذا استطاع أن يبين نفعًا ظاهرًا في هذه الأشياء المحسوسة.
بل لو رجعنا إلى مواهب نوردو وعادات تفكيره لوجدنا أبرزها عادة ملكت نفسه وغلبت على هواه أيما غلب، وهي فيما نرى مفتاحه الذي نستعين به على تقدير أحكامه ومعرفة اتجاهاته، وهذه العادة هي «الإسرائيلية» التي يكاد لا ينساها في جميع آرائه، ولا يعدو أن يكون مدافعًا عنها في كل مبحث من مباحثه ولو بعدت الشقة بينه وبين الإسرائيلية والإسرائيليين.
فإذا رجعت إلى الصفات التي يثني عليها وينوه برجحانها ويتخذها مثلًا للفطرة السليمة وعنوانًا على الصلاح في الحياة وجدتها هي صفات اليهود التي تفوقوا فيها على غيرهم أو اشتهروا بها بين الأمم، وعلى نقيض ذلك نرى الصفات التي عرف اليهود بالتخلف فيها أو التجرد منها عرضة لتهكمه وتهجينه، أو معدودة عنده في المراتب المرجوحة التي لا تميز أمة على أخرى، ولا تتفاضل بها معادن الرجال، وكثيرًا ما يحسبها من الصفات الكمالية أو الهمجية الصائرة إلى الضعف مع تقدم المدنية، وتارة أخرى يتجاهلها في نقده أو يعتدها عرضًا من أعراض النكسة والاضمحلال، وربما بدر ذلك منه عفوًا في بعض الأحيان، ولكني لا أظن إلا أنه قد كان يقصده أحيانًا ويتحراه ويترفق في دفع شبهته عن قلمه، وكأنما شك الرجل في اليهودية بفكره وبقي على اعتقادها بوجدانه، فرجع عن قولهم إن اليهود شعب الله المختار، ليقول إنهم هم شعب الطبيعة المختار.
وخلاصة ما اعتمده نوردو من الرأي في الفصل بين الأخلاق والآداب هو قسمتها إلى ذينك الشطرين، فما كان منها من صفات قومه فهو الصالح المطلوب، وما لم يكن من صفاتهم أو كان نصيبهم منه قليلًا أو ملتبسًا فذلك هو النافلة الذي لا غناء به ولا معول في الحياة عليه، وهو لم يكن يدفع عن قومه فحسب بإعلاء دين المنفعة، بل كان يدفع عن نفسه كذلك، فقد كان كما قدمنا يدين بدين المنفعة دون غيره.
فهو — من حيث أراد ومن حيث لم يرد — صهيوني غارق في الصهيونية متعصب لها أشد التعصب بمزاجه وأخلاقه ومولده (إذ هو ابن كاهن) وبأحوال عصره، فلما ظهرت الحركة الصهيونية كان من أعوانها الكبار وأعوانها المعدودين، فشن الغارة على الكنيسة الكاثوليكية، واتهمها بالتحريض على ذبح اليهود في فرنسا، وظل إلى آخر أيامه غيورًا على نشر الدعوة الصهيونية لا يني كاتبًا أو خاطبًا في تأييدها وشد أزرها، فلما صرح اللورد بلفور تصريحه المعروف شخص هو إلى لندن لمفاوضة الحكومة الإنجليزية في تفاصيل إنشاء الوطن اليهودي بفلسطين. وهناك قال قولة تروى عنه وهي أن الإنجليز لا يساعدون اليهود حبًّا في سواد عيونهم، ولكن طمعًا في الدفاع عن قناة السويس، وأنه على هذه القاعدة من تبادل النفع يجب أن يبنى الاتفاق بين شعب إسرائيل والحكومة الإنجليزية.
وهذه الكلمة مفتاح كل كتب نوردو، وخلاصة جميع آرائه فيها، لأنه لم يكن يؤمن بغاية للفرد والنوع غير النفع المادي المحسوس في هذه الدنيا، وهو في هذا يجري على أساس أسلافه وعشيرته. ولما نشبت الحرب العالمية الأولى وطرد من فرنسا رحل إلى أمريكا لخدمة الدعوة الصهيونية بمقالاته وخطبه ومحاضراته.
وقد يستغرب من العلماء الماديين أن يلقوا بأنفسهم في غمار الحركات الدينية ويتشيعوا لها أشد التشيع كما كان يفعل نوردو، ولكن هذا الذي يستغرب من سائر العلماء لا يجوز أن يستغرب من عالم إسرائيلي لما هو معلوم من أن اليهودية وطن للإسرائيليين وجامعة نفعية لا دين ولا نحلة فحسب، ومن أجل هذا ولأسباب أخرى صار نضال الرجل منهم عن نحلته صورة أخرى من نضاله عن نفسه ومصلحته وكرامة شخصه، ولهذا لا نرى غرابة ما في تصدي طائفة من العلماء كلهم ملحدون لقيادة الدعوة الصهيونية.
وينبغي ألا تنسى هنا الحملة الشعواء التي شنها نوردو في كتابه «الاضمحلال» أو «الانحطاط» على النابهين من أدباء عصره وغيرهم ممن وقع في طريقه، فقضى عليهم جميعًا بالمسخ والخداج وانتكاس الأذواق والعقول، وأضرم نارًا من النقد الجائر كنيران محكمة التفتيش، فجعل يلقي فيها ما يلقي من كتبهم ودواوينهم باسم العلم في هذه المرة لا باسم الدين.
وقد أنحى فيه على طائفة كبيرة من أعلام المفكرين وفحول الشعراء والأدباء الذين اشتهر ذكرهم في عصره والعصر الذي قبله، وقسم أدباءه — أو قل مرضاه — إلى طبقتين: طبقة عالية تخفي فيها أغراض المسخ بعض الخفاء، وأخرى واطئة لا تمتاز في شيء من سائر المعتوهين والأمساخ، واستخرج من معاني أشعارهم ومضامين سطورهم دلائله التي خالها أعراضًا شاهدة عليهم جميعًا بالمسخ وفسولة الطبع، فمنهم — فيما زعم — مجانين الأنانية، ومنهم أسرى الشهوات والمصابون بالاضطرابات المخية والنخاعية، ومنهم البله والسوداويون، والمعذبون بالصرع والوسواس، والمتهوسون في الدين أو العصبية، والمتقشفون الموكلون بتعذيب أنفسهم وتنغيص لذاتهم، والناشزون على العرف والآداب، وكثير من أمثال هذه الآراء التي أرسلها في صفحاته بسخاء من ذلك القلم المنغمس في كتابة التفسيرات وأوراق الأدوية!
وقد تتلخص كل أعراضه في ظاهرتين اثنتين: هما العجز عن حصر الذهن وسوء نقل الحواس والأعصاب عن مؤثرات البيئة أو عدم الإحساس بالأشياء على حقيقتها.
ولتعليل إعجاب قراء العصر بأولئك الأدباء والمفكرين رمى نوردو الطبقات القارئة كلها وبعضًا من الطبقات الأخرى بالضعف واختبال الحس، ثم مضى يعلل لهذه الأوهام ليدين عصره كله بالخلل والفساد.
وحملة أخرى شنها نوردو في كتابه «الأكاذيب المقررة في المدنية الحاضرة»، ولكن حملته هنا على المجتمع لا على الأدباء، وقد فضح كل ما ظهر له من أكاذيب الحضارة الأوروبية، وسمى ما لم يرقه بالأكاذيب، ومما سماه أكذوبة الدين وأكذوبة الحكم المطلق وأكذوبة الزواج والأكذوبة السياسية والأكذوبة الاقتصادية وما إلى ذلك، وهو في نقده لما سماه الأكاذيب متقحم متسرع، وقد أملى له في تهجمه فوق ما قدمنا يقين الشباب وإقبال التفاؤل، ولولا هذا اليقين وجرأة في نوردو صحبته طول حياته، لكان الأولى به أن يسمى «الحقائق في سبيل التطبيق» بدلًا من «الأكاذيب المقررة»؛ لأن كثيرًا من الأكاذيب التي أوردها إنما هي حقائق يخالطها الزغل عند التجربة — كالديمقراطية مثلًا — وأين هي الحقائق الاجتماعية التي تتركها التجربة على صفائها؟ أليس من الحقائق الرياضية — وناهيك بدقتها — ما يختلف بين الأوراق والأعمال؟
وإذا كان هذا مبلغ العصبية الصهيونية عند العلماء المستقلين حتى الملحدين وانغماسهم في غمراتها إلى هذا القرار، فكيف بمن ليسوا علماء ولا مستقلين ولا سيما المتدينين؟ وإذا كان هذا مبلغ الغلو في العصبية عند من ينبغي لهم سترها أو الاعتدال فيها وهم قادرون عليه ولا ضرورة تمنعهم دونه، فكيف بالمجاهدين المؤمنين الذين لا ينتظر منهم ستر ولا اعتدال ولا قدرة لهم عليه ولا مفر لهم منه.
ونختم حديثنا عن عبث الصهيونيين بالمذاهب والحركات الفكرية؛ بالإشارة إلى أن كثيرًا من صنائعهم والببغاوات من أدعياء الثقافة بيننا يتلقفون هذه الدعوات المغرضة في عالم الأدب والفن والفلسفة وغيرها، ويبشرون بها باسم التقدم أو التحرر أو التجديد أو الإصلاح وما إلى ذلك من الأسماء كأنها هي دعوات هداية وبناء من قادة منزهين عن المرض والغرض. وإن إلمامة خفيفة بما ينشر في الصحف والمجلات والكتب بيننا للتبشير بتلك الدعوات، والتنويه بشأن البارزين من الصهيونيين وأعوانهم، واللغط الفارغ بتاريخهم وأعمالهم، سواء كانوا من العلماء والأدباء والزعماء أو من فتيات المسرح ودور الصور المتحركة وعارضات الأزياء؛ إن إلمامة خفيفة بذلك لتدل على أننا نعاني محنة في المروءة والأخلاق فضلًا عن محنتنا في العقول والأذواق.
ونحن لا نلوم «العلماء المستقلين» خدام الحقيقة المطلقة لأنهم يتعصبون للملة اليهودية، ولكننا نلوم من ينسى مروءته بيننا من أجل كلمات يتلقفها ويسميها علمًا ينفصل بصاحبه عن بني قومه في معترك العصبيات والأخطار، وإنهم لأحوج الأمم إلى عون العارف والجاهل في عزلتهم أمام الصهيونية والاستعمار ودسائس الأعداء والطامعين من كل قبيل.
وندعو تلك الطائفة من أدباء العربية وعلمائها المستذلين للأذلاء لنقول لهم: من كان منكم أعلم من فرويد وأينشتين وغيرهما ممن ذكرنا فله أن يقيس أدبه وعلمه على غير قياس، وأن يتصل به أو ينفصل عمن يشاء من الناس.
ومن كان منكم يحسب أن الصهيونية أحوج من قومه إلى الأعوان فليبخل بعونه على هؤلاء القوم «الأغنياء».
أما الخذلان ولا غنى عن الغوث فإن أهون وصماته ليخزي من لا يخزيه شيء.
وننتقل إلى بيان شواهد من عصبية الصهيونيين في ميادين السياسة، وهي أغلظ وأظهر، وإن أعمالهم التي تدفعهم إليها حماقتهم لتوبقهم وتغني في القضاء عليهم لولا أن خصومهم يلقونهم أحيانًا بمثل ما عندهم من الحماقة.
ومن أحدث الشواهد التي تدل على الارتباط الشديد بين مسائل العالم في العصر الحاضر حملتهم الخفية على إيدن رئيس الوزارة البريطانية في يناير هذا العام، وهي حملة تهدد مركزه كما يقولون من جراء حوادث الشرق الأدنى.
ويتألب عليه في هذه الحملة فريق صغير من المحافظين وفريق كبير من العمال، وتدير الحملة كلها من وراء الستار أيدي الصهيونية البريطانية تؤيدها الصهيونية العالمية من بعيد.
ولا عجب في انضمام فريق من المحافظين إلى الحملة إذا تذكرنا أن رئيس الحزب في الواقع هو الاستعماري الصهيوني العتيق ونستون تشرشل، وهو يصرح بانتمائه إلى الصهيونية وإن كان يصرح بالسبب. فإنما السبب الحقيقي أنه ينتمي من جانب أمه إلى سلالة إسرائيل.
أما العمال فلا عجب أيضًا من دخولهم في الحملة أو قيادتهم لها جهارًا؛ لأن خزانة الحزب تخوى من المال إن فقدت معونة المرشحين الصهيونيين بارزين ومستترين.
ورئيس الوزارة البريطانية لم يفعل شيئًا يجحف بإسرائيل ليستحق من الصهيونية هذه العداوة.
ولكن الدنيا تجهل إسرائيل وتجهل الصهيونية كلها إن لم تعلم أن القوم حمقى في الغاية القصوى من الحماقة، ومن حماقتهم هذه الأنانية المريضة التي تخيل إليهم أنهم وحدهم شعب الله، وأن الله إلههم وحدهم بغير شريك، وأن الساسة في العالم كله مطالبون بخدمتهم ومحاباتهم والتعصب لهم مائة في المائة، وإلا فهم أعداء مغضوب عليهم بغير عذر ولا هوادة.
ونحن والله نود لو ينجحون في حملتهم على رئيس الوزارة البريطانية؛ لأن هذا النجاح سيكشف الحقيقة لأعين الناس، ويخرجها من حيز المناورات البرلمانية وراء الستار، ويومئذ ترجع الصهيونية إلى وكرها مسحوقة الرأس والذنب، ليستريح العالم من شرورها الجهنمية إلى أن يشاء الله.
إن القوم حمقى في الغاية من الحماقة، ولكنهم يسلمون من جرائر حماقتهم بحماقة مثلها في بعض الخصوم الذين ينهضون لمكافحتهم والقضاء عليهم فينفعونهم ويضمون إليهم الأعوان والأشياع.
عاداهم كما قدمنا جماعة الكوكلكس كلان في الولايات المتحدة وبلغ عددهم أربعة ملايين كعدة اليهود جميعًا في تلك الولايات، ولكن حماقة هذه الجماعة سولت لها أن تعادي الصهيونية وتعادي معها الكنيسة الكاثوليكية وحركة التحرير التي ترمي إلى إنصاف السود والملونين، فاجتمع عليها من الأعداء أكثر مما تطيق.
وعاداهم في إنجلترا جماعة «المستميتين» في المحافظة إذ كان لسان حالهم صحيفة المورننج بوست، ثم عاداهم موزلي وأصحابه من أنصار الفاشية والنازية، فانتفع الصهيونيون بعداوة هؤلاء؛ لأنهم جمعوا معهم الأحرار والعمال والمحافظين المتوسطين.
ويعاديهم اليوم في فرنسا حزب «بوجاد» ولكنه لحماقته يحاربهم ويحارب الجمهورية ويريد أن يرجع بالاستعمار مائة سنة إلى الوراء ليحكم الشعوب الشرقية حكم السادة للعبيد.
حماقة خصومهم هي التي تنقذهم من حماقتهم، ولكن الله سخر لهم دويلة إسرائيل لتكشف عنهم كل مستور، وتثبت للعالم أنهم — كما وصفهم القرآن الكريم — قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ فلا يريحون ولا يستريحون، ولن يزال العالم كله في خطر ما داموا يقبضون بأيديهم على زمام الدسيسة والغرور.
فإذا انقطع هذا الزمام فهم شر على أنفسهم وذويهم، والعالم في أمان.
ولا شك عندنا في حقيقة الحملة التي ترامت أخبارها من البلاد الإنجليزية، فإن الأسباب الظاهرة واهية لا تستر ما وراءها، وكلها تدور على غلاء المعيشة كأنه من المستحدثات في الأشهر الأخيرة، وقد كان قبل شهر يونيو في العام الماضي (١٩٥٥) حين اجتمع برلمانهم الجديد؛ أشد مما هو اليوم.
والبركة في إسرائيل والعياذ بالله من هذه البركة.
إن إسرائيل هي القضاء المبرم على إسرائيل وعلى الصهيونية بعدها بأمد قصير.