مصير الصهيونية العالمية والأسباب الدولية
تكلمنا في هذه الفصول عن الصهيونية العالمية، وعن المرض النفساني الذي تنطوي عليه، وعن الطوابير الخامسة التي تعمل بها في البلاد المختلفة، وعن العوامل المجملة التي تستمد منها نفوذها، وعن أساليبها في استغلال الحركات الاجتماعية والعلاقات الشخصية، وعن اضطرارها — بحكم طبيعتها — إلى الغش والإفساد في كل أسلوب تعول عليه.
وننظر بعد ذلك في هذا الفصل وما يليه إلى مصيرها الذي تنبئنا عنه الوقائع الحاضرة، ونستطيع أن نقول في كلمة موجزة: إن الصهيونية قوة مولية، وإن عوامل الزوال التي تحدق بها أكبر من عوامل الثبات.
ولذلك أسباب متعددة، نتناول منها في هذا الفصل جملة الأسباب الدولية كما تبدو لنا الآن، وكما تئول إليه مع التطور الواقعي في المستقبل القريب.
إن الصهيونية هيئة عالمية، ولا مهرب لها من التأثر بأطوار الشئون العالمية في هذا الزمن خاصة، لأنه زمن تتداخل فيه شئون الأمم في كثير من المصالح والعلاقات.
لقد كانت الصهيونية هي الهيئة العالمية الوحيدة التي تعمل طوابيرها الخامسة دون التفات إليها في القرون الخالية.
كانت كل أمة تحس بالصهيونية في حدود بلادها، وكان الإحساس بها مقصورًا على الشئون الاقتصادية كلما ثقلت على الناس وطأة الديون. ونشبت في أعناقهم مخالب المرابين والمستغلين، أما الاهتمام بالصهيونية من الوجهة السياسية فلم يكن مما يشغل بال أحد؛ لأن السياسة «أولًا» لم تكن شغلًا شاغلًا لأذهان الجماهير، ولأن الصهيونية «ثانيًا» كانت حريصة على التستر والعمل في السياسة من وراء حجاب، فكانت مساعيها العالمية مجهولة بين كل أمة، وكانت كل أمة لا تحس بها في غير شئونها التي تعنيها داخل حدودها، وكانت هذه الشئون مقصورة كما تقدم على أزمات الديون والربا المضاعف والاستغلال.
أما اليوم فالعلاقات الدولية ظاهرة في أهم الشئون العامة، وليس في وسع الصهيونية العالمية أن تعمل من وراء حجاب. فلا بد لها من العمل الظاهر، ولا بد لها مع العمل الظاهر من التحدي المكشوف … وتلك ولا ريب فاتحة الدمار؛ لأن الهيئة التي تتحدى العالم كله منهزمة في النهاية بغير مراء.
ومما تغير في الأحوال العالمية أن السيطرة الاقتصادية كانت فيما مضى سرًّا من أسرار المكاتب، وعملًا من أعمال السمسرة الخفية وراء الأسواق، وكان في وسع الصهيونية بالألاعيب المكتبية أو بحبائل السمسرة أن تتلاعب بالأسواق والأسعار وهي آمنة وراء جدرانها.
أمَّا اليوم فالسيطرة الاقتصادية مسألة متشعبة ترتبط بالأحوال الاجتماعية، والحقوق الوطنية، وأنظمة الزراعة والصناعة في جميع القارات، وليس في طاقة هيئة عالمية — مختلسة — أن تقبض بأيديها على أزمة هذه الشئون وأن تسخر لمشيئتها جميع العاملين في هذه الميادين.
وقد تفعل السمسرة فعلها في مبادلات العملة ومقادير الواردات والصادرات ولكن الألاعيب التي تقدر عليها السمسرة الخفية تقف اضطرارًا إذا اصطدمت بسياسة تحسب حساب الثورات والقلاقل، ولا تجازف بالأخطار وتهديد عوامل الاستقرار، ومهما يكن من نفوذ الصهيونية في دولة من الدول فهو نفوذ مصطنع، يتمرد عليه الساسة حتمًا كلما بلغ حد المخاطرة، ودفع بهم إلى تجاهل الواقع في مشاكل الأطوار العالمية، وتدخل فيها مصالح كثيرة في الشرق والغرب، لا ينقاد زمامها للصهيونية العالمية، ولا لهيئة من الهيئات على انفراد.
ومن أهم الأسباب التي زعزعت قوة الصهيونية في سياسة الأمم هذا التغيير الكبير الذي طرأ على مراكز الدول العظمى، وهذه الضرورات العالمية التي أخرجت الولايات المتحدة من عزلتها، وجعلتها طرفًا مهمًّا في كل نزاع بين المعسكرين المتناظرين.
كانت بريطانيا العظمى تقود أحد المعسكريْن في كل حرب عالمية، أو كل حرب عامة تشترك فيها دول كثيرة.
وكان دور الصهيونية العالمية عظيمًا جدًّا في الحروب والأزمات الكبرى من أجل ذلك، أي من أجل قيام بريطانيا العظمى على قيادة أحد المعسكرين، في كل حرب عالمية.
ومن أيام حروب نابليون، كانت بريطانيا العظمى تستعين بالصهيونية العالمية لتضييق الخناق على أعدائها، وضرب الحصار الاقتصادي المحكم على المعسكر الآخر ومن يعاملونه في أسواق التجارة.
واستفادت الصهيونية كثيرًا من اللعب بالنفوذ بين الدول، ولم تكن متبرعة في الحقيقة بمساعدتها لبريطانيا العظمى، لأن بريطانيا العظمى كانت مركز الصناعة والتجارة وميزان الأسواق.
ثم جاءت الحرب العالمية الأولى وتلتها الحرب العالمية الثانية، فتعاظم شأن الصهيونية في السياسة الدولية وراحت تساوم على الوساطة والدعاية وتملي الشروط، وتغلو في المطالب، واستخدمت نفوذها في الولايات المتحدة لتهديد الإنجليز بالعزلة في ميادين القتال، فإن لم يستجيبوا لها في كل ما تطلب أثارت عليهم الدعاية في الولايات المتحدة في أحرج الأوقات، وحاولت جهدها — وهو جهد غير قليل — أن تبقى الدولة الأمريكية بعيدة من الميدان، وأن تحرم الإنجليز من معونتها المالية والحربية، أو تؤخرها إلى ما بعد الأوان.
بهذا التهديد نجحت الصهيونية فحصلت على وعد بلفور بالوطن اليهودي في فلسطين، وكل ما يقال عن تعليل الحصول عليه بقصة وايزمان واختراعه الكيماوي النافع في صناعة المتفجرات، فهو من خرافات العجائز وأحاديث الأطفال، إذ ليس بالمعقول أن تتحمل بريطانيا أعباء الوطن اليهودي لتكافئ مخترعًا يعمل في مصانعها وجامعاتها ولا يستطيع أن يمنعها حق الانتفاع بذلك الاختراع! فما كان الاختراع إلا علالة قصد بها التمويه لإخفاء الأسباب الحقيقية لهذا الوعد.
إنما نجح الصهيونيون في انتزاع وعد بلفور لأنهم جعلوه ثمنًا للدعاية الأمريكية. ثم أرادوا أن ينجحوا مثل هذا النجاح في الحرب العالمية الثانية فأخطأهم التوفيق؛ لأن الصهيونية لا تستطيع أن تعزل بريطانيا في حرب هتلر والنازية، وإن فعلت ذلك فإنما تدور الدائرة عليها.
إلا أن هزيمة هتلر قد أطلقت أيدي الصهيونيين في التهديد وإملاء الشروط على الدولة البريطانية، فاستكانت لهم هذه الدولة استكانة لم تقبلها من أحد، وطغى الأذلاء الذين صبروا على مظالم الطغاة مئات السنين، فأنفوا أن يعاقب الإنجليز مذنبًا منهم تثبت عليه جريمة الفتك والعدوان، وقبضوا على جند الحكومة ليقتصوا منهم بالجلد والقتل إذا نفذ العقاب في الصهيوني المحكوم عليه، فأذعن الحاكمون إذعانًا مخجلًا لهذه الغطرسة من هؤلاء الأذلاء، ولولا خوف الدولة البريطانية من دعاية الصهيونية بين الأمريكيين لأتت على تل أبيب نسفًا وهدمًا في لمحة عين.
وتغير الموقف الآن كل التغيير من الوجهة السياسية الدولية، فليس في مقدور الصهيونية أن تعزل بريطانيا العظمى؛ لأن قيادة المعسكر الغربي انتقلت إلى الولايات المتحدة، وليس في مقدورهم أن يعزلوا الولايات المتحدة، لأن سياسة العزلة ذهبت في خبر كان. ولو حاول الصهيونيون محاولة من هذا القبيل في إبان حرب من الحروب لكانت هي القاضية عليهم في تلك البلاد.
وتم التغيير في الموقف الدولي بعد أن أصبحت للصهيونيين دويلة تسمى إسرائيل.
إن الصهيونيين كانوا يلعبون بالسياسة الدولية ويملكون وقت اللعب فلا يخسرون أو لا يصبرون على الخسارة.
كانوا يلعبون بالسياسة الدولية فأصبحوا في بعض المواقف على الأقل لعبة للسياسة الدولية، وأصبحوا هدفًا ظاهرًا لمن يهددهم بالانتقام، فما عليه إلا أن يضرب إسرائيل فإذا بالصهيونية كلها مضروبة من وراء إسرائيل.
إن التغيير الذي طرأ على السياسة الدولية لا يجري مع المآرب الصهيونية في مجرى واحد، وهذا التغيير في السياسة الدولية سبب من الأسباب التي تولي غدًا بالصهيونية العالمية وتنذرها بما تستحق من مصير.