مصير الصهيونية العالمية ونفوذها المهدد
من الحكمة ألا يستصغر المرء قوة عدوه.
ومثله في الحكمة ألا يستعظم قوة عدوه وألا يبالغ في استعظامها من باب أولى؛ لأنه إذا استعظمها ضيع في الحذر منها جهودًا يضره أن تضيع، وينتفع العدو بضياعها عليه.
والصهيونية العالمية قوة كبيرة، تملك وسائلها التي تؤذي بها خصومها وتنفع أعوانها وأذنابها، ولكننا نعدو بها طورها ونجاوز بها حدها إذا قلنا مع القائلين إنها تخلق الثورات وتدبر الانقلابات وتثل العروش وتهدم المماليك، فإنها لأهون شأنًا من ذلك كما قدمنا في بعض الفصول الماضية، وإنما شأنها أن تنتفع بالأسرار التي تعلمها وتغتنم الفرصة في حينها.
والحق أن الصهيونية العالمية أضعف مما ينبغي لمثلها، وأنها كانت خليقة أن تفعل أضعاف ما فعلته لخدمة مآربها وإنجاح دسائسها، بالقياس إلى قدم عهدها وانتشار طوابيرها الخامسة في أجزاء المعمورة، مع غفلة الغافلين عنها وتواطؤ أعداء الإسلام على مساعدتها، ولكنها تفقد الشيء الكثير بحماقتها واندفاعها مع هوس العصبية الطائفية، فإن الصهيونيين — ولا ننسى وصف القرآن الكريم لهم — قوم لا يعقلون.
ومن المعلوم أن التنظيم والاتفاق في الغرض يجعلان العشرة أقوى من المائة ويجعلان المائة أقوى من الآلاف.
هذه الجماعة «جماعة منع المسكرات» لا تذكر إلى جانب الصهيونية العالمية التي تستعين بكثرة العدد وقوة المال وتغلغل الأعوان والأذناب في كل مكان، وقد كانت الصهيونية نفسها تقاوم هذا القانون في الولايات المتحدة فانهزمت مع المنهزمين أمام «جماعة منع المسكرات».
ومما لا نشك فيه أن جماعة منظمة تكافح الصهيونية العالمية في الولايات المتحدة تستطيع أن تقهرها وتمحو أثرها ولو لم تبلغ مليونًا واحدًا يحاربون خمسة ملايين؛ لأن الحقيقة المفهومة أن الصهيونية بغيضة جدًّا إلى جمهرة الأمريكيين، وأنهم صبروا عليها طويلًا، واستعدت نفوسهم للتمرد على سلطانها الخبيث، لو وجدت الجماعة التي تتولى تنظيم المكافحة وتحصرها في غرض واحد لا تتشعب عليه المطالب والجهود.
إلا أن هذه الجماعة القوية وسعت حملتها وشنت الغارة على أعداء أربعة بدلًا من عدو واحد، فجعلت في همها محاربة الزنوج، ومحاربة التابعين للكنيسة الرومانية، ومحاربة الاشتراكيين والشيوعيين، ومحاربة اليهود، وافتضحت لها أمور معيبة مكنت خصومها من إحباطها وتفريق شملها وتتبع العورات التي تنسب إليها، ولو أنها قصرت محاربتها على الصهيونية لقضت عليها عنوة في سنوات معدودات.
لقد كان حظ الصهيونية أن «الكوكلكس كلان» أخطأت هذا الخطأ، وانفضحت تلك الفضيحة، ولكن حماقة الصهيونية توازن حظها الحسن وتربي عليه، ومن حماقتها أنها تتهوس الآن في الدعاية لإسرائيل، وتزج بالدولة الأمريكية في مآزق لا تؤمن عقباها من ورطة بعد ورطة، وإقحام بعد إقحام، وأنها لتوغر الصدور عليها كرهًا بالصلف الذي لا يطاق، ولا بد أن يغضب عليها من تستغضبهم ولا تبالي عاقبة غضبهم، فينفضوا عن كواهلهم ذلك العبء الثقيل الذي يسخرهم كل هذا التسخير لصهيون إسرائيل.
ومن بوادر الانقلاب على النفوذ الصهيوني في الولايات المتحدة أن الصهيونيين يخافونه ويدركون خطره، وأن الخطر يذهلهم عن الصواب ويخرجهم عن السداد، فيحشدون اليوم جماعات الإرهاب للإيقاع بالخصوم والمعارضين، ويعملون بأيديهم على مقابلة الإرهاب بمثله، فلا تعود لهم جماعة «الكوكلكس كلان» هذه المرة بالحملة الموزعة عليهم، وعلى الزنوج، والاشتراكيين، وأتباع الكنيسة الرومانية، ولا تكسبهم الأنصار من هؤلاء الشركاء في النقمة والبغضاء، بل تعود لهم ومعها أنصار متألبون ممن تجمع بينهم عداوة الساميين.
إن الأمم قد تصبر على التسخير الذي تجهله ولا تعرف أضراره، ولكنها لا تصبر على التسخير المكشوف الذي يلج به التحدي والغرور، فيركب رأسه غير حافل بما يثيره من السخط والنفور. وقد أوشكت الصهيونية أن تواجه الشعب الأمريكي بمثل هذا الصلف في قضية إسرائيل، وفي قضايا السياسة الدولية، وأوشك هذا الصلف أن يستدعي المقاومة المنظمة لمقابلة الإرهاب بالإرهاب، وتعددت فضائح الصهيونيين في مسائل الجاسوسية وأسرار القذائف الذرية، فلن يطول الأمد على مثل هذه الحالة حتى تتكشف العداوة الصراح، ولن يفعل الصهيونيون يومئذ إلا ما يضرم النار ويفسد الجوار.
قلت في فصل مضى إن الصهيونية العالمية قوة مولية في ميادين السياسة الدولية، ولم نسمع من صهيوني متفائل مبالغ في خداع نفسه أنه يطمئن إلى مصير النفوذ الصهيوني بين الأمريكيين، فقد برح الخفاء، وتكشفت الدسائس، وعرف العامة ما لم يكن يعرفه إلا الخواص والأخصاء المقربون، فإذا جرى الصهيونيون على عاداتهم من صلف الذليل، ورعونة المغرور. فتذرعوا ذرائع الإرهاب لاستبقاء النفوذ المهدد بالزوال؛ فتلك علامة أخرى من علامات الإدبار، وما من إقبال يرجى لمدرع بالليل إذا طلع النهار.