الفصل التاسع عشر
الصهيونية العالمية مصيرهم في أعينهم
من المفيد — ونحن ننظر إلى مصير الصهيونية العالمية — أن نلم بأمثلة من نظرات الصهيونيين
وأعوانهم إلى ذلك المصير.
ومن الأمور ذات المغزى أن البحث في هذا المصير متعاقب متواتر بعد الحرب العالمية الثانية،
فهم
من صهيونيين وأعوان للصهيونيين متفقون على أن الوطن اليهودي في فلسطين لا يحل مشكلة الصهيونية،
وليس
هو على اليقين بالحل الأخير.
وهؤلاء الصهيونيون عصابة عاملة لا يعوزها النشاط في نشر الدعوة واستدراج الأعوان والأنصار
إلى
المشاركة فيها، وهم على كثرة نشراتهم منذ الحرب العالمية لم يغيروا شيئًا في جملة الآراء
التي يرونها
في مصيرهم: يبدئون فيها ثم يعيدون، كرة بعد كرة، منذ الحرب العالمية الثانية إلى إعلان
قيام الدويلة
الإسرائيلية، إلى هذه الأيام التي يعلقون فيها أكبر الآمال على مصيرهم مع جيران فلسطين.
فتارة يؤلفون فيه الكتب، وتارة ينشرون فيه الكراسات والفصول، وتارة يستكتبون فيه المقالات
من
اليهود وغير اليهود؛ ليوسعوا العناية به جهدهم، ويجتذبوا إليه القراء الذين لا يقبلون
على دعاية
ينفرد بها دعاة صهيون.
إحدى هذه المجاميع اشتملت على ستة عشر رأيًا بعنوان «مستقبل اليهود»، واشترك فيها
طائفة من
المؤرخين والصحفيين وأساتذة الجامعات وأعضاء المجالس النيابية، بعضهم من اليهود وبعضهم
من المسيحيين
ومنهم الألمان والإنجليز والروسيون والبلجيكيون.
ولا يخفى أن أصحاب هذه الآراء من غير اليهود قد استجابوا للرجاء والإلحاح أو استجابوا
لداعي
المنفعة والهوى ممن يعنيهم جمع الآراء في هذا الموضوع.
وهذه أمثلة من نظرات الصهيونيين إلى مصيرهم، نبدأ بها في هذا الفصل، ونتبعها بفصل
آخر عن آراء
الأعوان والمجاملين من غير الصهيونيين.
أحد المساهمين في هذه المجموعة أستاذ روسي يسمى شتينبرج Steinberg عمل في تدريس الفلسفة بجامعة لنينجراد، واشترك في تأليف الموسوعة اليهودية
الكبرى التي تصدر في باريس، ورأيه أن العداوة السامية لم تختف من روسيا بعد اختفاء القياصرة،
وأن
الجيل الجديد من الناشئة الشيوعية يضمر الكراهية لليهود كما كان يضمرها آباؤهم المتدينون،
وأن الكاتب
الروسي مكسيم جوركي قد يئس من إزالة هذه العداوة بتدبير الحكومة وسلطان الشريعة، وأشار
باصطناع الصبر
في علاجها حتى تزول بالتربية والإيحاء في برامج التعليم، فإن السلاح القديم قد تثلم،
ولكنه لم ينكسر،
ولا يزال حاضرًا في أيدي حامليه، والقول الفصل عند شتينبرج في مصير اليهود: «إن الشعب
اليهودي في أصل
تكوينه هيئة عالمية أو دولية، وإن ستالين قد أصاب حين استبعد حل المشكلة اليهودية في
وطن واحد، ولا
غنى لها عن عدة أوطان.»
ومن كتاب هذه المجموعة ريجنالد سورنسن Sorensen عضو مجلس
النواب الإنجليزي عن دائرة ليتون الغربية، ورأيه أنه «من الصواب أن تخصص أقاليم منعزلة
في القارة
الأوروبية لإقامة اليهود فيها، وأن هذه التجربة لم تفلح في روسيا وقد تخفق في غيرها،
ولكنها جديرة
بالتكرار حتى تنتظم شئون الوصاية على الأقليات، على نحو يضمن السلامة للأقليات اليهودية».
ومن كتاب هذه المجموعة هايمان ليفي Hymen Levy أستاذ الرياضيات
بجامعة لندن وغيرها من الجامعات البريطانية، ورأيه أن فلسطين برمتها لا تعدو أن تكون
أقلية صغيرة في
قلب العالم العربي الكبير، وأنه من الخطأ أن يتوهم أحد أن الوطن اليهودي في فلسطين —
وهو لا يضم إلا
القليل من الشعب اليهودي كله — يحل المشكلة ويختتم البحث فيها، ويستطرد فيقول: «ما من
أحد — إلا أن
يكون أعمى البصيرة — يخفى عليه أن الدور المقبل من أدوار التاريخ الإنساني منتقل بالنظام
الاقتصادي
في الدنيا بأسرها إلى الاشتراكية الأممية، وفي مثل هذا النظام تمحى القضية اليهودية كما
يمحى الكابوس
الثقيل … وليس العقل السليم وحده بالذي يوحي إلى اليهود أن ينخرطوا في حركة التقدم الإنساني
الشامل،
بل يوحيه إليهم طلب السلامة والحرص على البقاء.»
ويبحث غير واحد من كتاب المجموعة في حل المشكلة برجعة اليهود المهاجرين من ألمانيا
إلى أوطانهم
الأولى بعد انهزام النازية، ومن هؤلاء الباحثين «أوتو
ليهمان روسفلدت Otto Lehman Russfueldt» المولود في ألمانيا والعضو في الجماعة التي تألفت فيها باسم «عصبة
الحريات المدنية» … وفحوى كلامه أن الرجعة إلى الوطن الألماني مستحبة بعد اتخاذ الحيطة
لحماية اليهود
من خطر الاضطهاد، وتخويف الأمة الألمانية بالقصاص إذا تكرر ذلك الخطر على أيدي الحكومات
التي تخلف
حكومة النازيين، قال: «إنني — وأنا ألماني ووطني عالمي — أنظر إلى الأثر الأدبي الذي
نجم من عمل
اليهود في الإسكندرية أيام الدولة الرومانية، والأثر الأدبي الذي نجم بعد ذلك من عملهم
في إسبانيا
وهولندة، وعلى مثال أوضح من ذلك في ألمانيا نفسها، فيطيب لي أن أهنئ العائدين وغيرهم
من اليهود
المنتمين إلى الوطن العالمي من هذا الطراز إذا وجدوا سبيلهم إلى الديار الألمانية.»
والمصير كله معلق على مركز اليهودي بين الأمم في رأي الدكتور ليفي زلمانوفتز Levy Zelmanovitz، أكبر زعماء الصهيونيين في بلاد التشك،
وسكرتير الحزب اليهودي في بلده، ثم رئيس المجلس اليهودي في العاصمة الإنجليزية منذ نشوب
الحرب
العالمية الثانية، فهذا الزعيم الصهيوني يقترح لحل مشكلة اليهود في أوروبا أن يتساوى
اليهودي وغيره
في جميع الحقوق السياسية، وأن تعتبر الطائفة اليهودية حيث كانت «أقلية» قومية تحميها
منظمة الأمم
المتحدة، ويحق لها بطبيعة الحال أن ترجع إلى تلك المنظمة لتحكم بينها وبين «الأكثرية»
في وطنها كلما
شجر بينهما خلاف على تطبيق الحقوق.
ومتى تقرر لليهودي حق مساو لكل حق مفروض لغيره من أبناء الوطن الواحد، وتقرر للطائفة
اليهودية
حق في تكوين الأقليات تحميه الدول الكبرى، فقد هانت مشكلة اليهود في العالم، وأصبحت قابلة
للرقابة
والإشراف.
وخلاصة هذا الحل أن شعوب العالم مطالبة بإلغاء كل فارق بينها وبين اليهود، ولكن اليهودي
غير
مطالب بإلغاء الفارق الذي يقيمه بينه وبين شعوب العالم، وغير مطالب بالنزول عن عقيدة
الشعب المختار
الذي ميزه بها «يهوه» على شعوب العالمين أجمعين، وأن دول العالم الكبرى التي تدير منظمات
الأمم
المتحدة مطالبة بالتدخل في شئون الأوطان الداخلية لتمكن اليهود من الاحتفاظ بعزلتهم وامتيازهم
في نظر
أنفسهم، وتحقيق الشكايات التي تدعيها «الأقليات» اليهودية، وتنتظر الإنصاف فيها من الدول
الكبرى،
ووراء هذه الدول نفوذ الصهيونية العالمية كما هو معلوم.
ولم يكتم المؤلف الذي جمع هذه الآراء طبيعة المشكلة المعروضة على ذوي الآراء لحلها
والنظر إلى
مصيرها، بل قال في المقدمة: «إن مسألة مصير اليهود عولجت في هذه الصفحات على القاعدة
التي توجب إشراك
اليهود إشراكًا تامًّا في أوطان الشعوب المتحضرة وحلفاء الأمم المتحدة، وهي لا تنحصر
في عرض قضية
الوطن القومي، بل تجاوزه إلى احتمال إنشاء أوطان قومية أخرى غير فلسطين.»
ثم قال في ختام المقدمة: «وسواء تعلق الأمر بأرض الموعد فلسطين أو بهيئة عالمية تتمثل
فيها حقوق
اليهود ويتقرر بها مركزهم، فمستقبل اليهود بعيد من أن ينظر إليه كأنه مصير مبشر مأمول.»
والخلاصة في كلمتين «أن هؤلاء القوم الذين وصفهم القرآن بأنهم لا يعقلون لم يصنعوا
بالوطن
القومي في فلسطين إلا أنهم جروا بأيديهم عداوة حامية كانوا مستريحين منها، وخلقوا للدول
الكبرى مشكلة
كانت في غنى عنها، وعادوا مرة أخرى يبحثون عن أوطان، ويحارون فيما ينتظرهم من مصير».