الصهيونية من الميلاد إلى القرن التاسع عشر
منذ القرن الأول للميلاد لم يطرأ على «الصهيونية» شيء جديد قبل القرن التاسع عشر، فكل ما عرفه اليهود عن الصهيونية في عصر السيد المسيح بقي كما في القرون الوسطى وفيما تلاها من قرون النهضة والإصلاح إلى أوائل القرن التاسع عشر؛ أي إلى القرن الذي يصح أن يسمى في وقت واحد بعصر الثورة، وعصر الاستعمار، وعصر الصناعة الكبرى، ولكل صفة من هذه الصفات علاقة باليهودية لا تخفى على النظرة العاجلة، ولكنها تستحكم وتتغلغل في جميع الجوانب بعد إنعام النظر إليها.
كان اليهود يعيشون في أرجاء الدولة الرومانية بين أناس يخالفونهم في العقيدة، وكانوا يعزلون أنفسهم عن المجتمع باختيارهم، وينشئون في أنحاء الدولة مراكز متفرقة للمعاملات التجارية، وشئون الصيرفة، ومبادلة السلع والنقود، ولكنها متفقة فيما بينها على قصد وعلى غير قصد لانعزالها في كل بقعة على حدة، فإذا سافر اليهودي من الإسكندرية إلى روما علم قبل سفره أن هناك بيئة مماثلة لبيئته، يذهب إليها ليستعين بها على عمله، ويشترك معها وبإرشادها في استغلال من حوله. وكان هذا الاستغلال بطبيعته سببًا لنقمة الفقراء والأغنياء في وقت واحد، فكان اليهود عرضة لغضب المعوزين كما كانوا عرضة لغضب المدينين وأصحاب المحصولات الزراعية من الضياع الواسعة، وبخاصة في إبان الأزمات والحروب الخارجية والأهلية، وقد كانت تتعاقب على كثرة من قبيل انهيار الدولة الرومانية.
وكلما كثرت الحروب وضح لأبناء الأمم المختلفة أن هذا الشعب المسمى «اليهود» متفق عليهم، متفاهم فيما بين أبنائه على ابتزازهم واستباحة أموالهم وأرزاقهم؛ لأنه يعتزلهم كافة بمجتمعه في كل بقعة، ثم يرتبط بالمعاملة بينه وبين أبنائه في المعسكرات المتقاتلة، ولا ينظر اليهودي إلى زميله نظرة العداء والمقاطعة، وإن قطعت الحروب والفتن بين البلدين.
ودانت أمم الغرب بالمسيحية شيئًا فشيئًا فلم تتغير هذه الحالة، بل جد عليها سبب مفهوم، للتقاطع بين اليهود والمسيحيين، وهو عداء اليهود للسيد المسيح، فعاش اليهود في عزلتهم، وتعرضوا من جراء هذه العزلة لتهم كثيرة وشبهات أكثر، حتى شاع عنهم في أيام الوباء أنهم هم الذين يسممون الماء والطعام.
وضاعف الاشتباه فيهم أنهم كانوا ينفردون بمطاعمهم في المدن، وقلما يؤاكلون أحدًا في الريف.
وحدث غير مرة أن اليهود كانوا ينصرون كل مغير على البلد الذي يقيمون فيه، وحدث غير مرة أنهم كانوا يصاحبون الجيشين المتقاتلين لشراء الأسرى، وبيع المؤنة، وبذل القروض، ثم يتقابلون على تفاهم عند «تصفية الأعمال» والمساومة، فوقر في أخلاد الأمم أنهم شعب غريب.
وكان شعورهم نحو بيت المقدس خلال هذه القرون لا يتجاوز شعور الحنين إلى مجد قديم، وانتظار الوقت الموعود في الزمن الذي يختاره الله، ولا شأن لهم بتقديمه أو تأخيره مع المشيئة الإلهية، وأصبحت الصلوات التي يعيدونها كل يوم أو كل أسبوع طلبًا للرضوان الإلهي، ألفاظًا تعاد على الأكثر بغير معنى، كأنها الدعوات التي يرددها الجهلاء من أتباع كل نحلة، وهم لا يفقهون معناها.
ويسجل التاريخ الأوروبي على اليهود أنهم كانت لهم مشاركة في كل فتنة وكل إغارة، ولكن المؤرخين يختلفون في تعليل هذه المشاركات المتواترة؛ فيعزوها بعضهم إلى المصادفة لوجود اليهود في كل بيئة، ويعزوها بعضهم إلى شعور النقمة الطبيعي على كل سلطان غاشم يخضع له المحكومون على رغم واضطرار، ويعزوها بعضهم إلى التدبير المتعمد لهدم المجتمع المسيحي من داخله وتقويض دعائم الدولة والكنيسة في وقت واحد، ومما قيل وأصر القائلون عليه أنهم أسسوا جماعة البنائين الذين اشتهروا باسم الماسون، وقرنوا بين التعاهد على بناء الهيكل وبين هذه التسمية وما يتصل بها من المصطلحات والشعائر، وقيل غير ذلك كثير مما تتشعب فيه الظنون ولا حاجة إلى استقصائه لأن الظواهر تغني فيه عن الأسرار.
وكان يتفق في بعض السنين أن يتجه اليهود والمسيحيون معًا إلى بيت المقدس، على أثر الإشاعات «الفلكية» التي يزعمها أناس من المنجمين موعدًا لعودة المسيح — عليه السلام — فتكثر الهجرة إلى المشرق على اعتقاد المهاجرين جميعًا أن الدنيا تنتهي بهذه العودة الموعودة، وليست فكرة الوطن القومي مما يدخل في هذا الاعتقاد، بل كان من المسيحيين من يرى أن ارتداد اليهود عن كفرهم بالديانة المسيحية شرط لقيام الساعة، فلا أمل لهم قبل ذلك في اليوم الموعود.
أما فكرة «الوطن القومي» فلم تنشأ قبل عصر النهضات الوطنية، ولم يسمع فيه صوت لليهود إلا لأن هذا العصر كان كذلك عصر الصناعة الكبرى وعصر الاستعمار.
فلا يخفى أن الاستعمار قد بدأ بالتجارة، وأن طريق الهند كان أهم الطرق التجارية في العالم القديم، ومن ثم كثر الاهتمام بفلسطين ومصر، وارتفع في المجامع الدولية صوت اليهود لاتصالهم في وقت واحد بالتجارة وبهذه البلاد، واشتبكت مسألة القروض بمطامع المستعمرين في أقطار الدولة العثمانية، فلم ينظر الأوروبيون إلى مطالب اليهود كأنها مطالب منفصلة تعنيهم وحدهم ويغارون عليهم من أجلهم، ولكنهم جعلوها من الوسائل المعول عليها في خدمة السياسة والاستعمار.
وأثار القرن التاسع عشر مسألتين لا مسألة واحدة فيما يرجع إلى موقف اليهود من العصر الجديد.
أثار مسألة القومية اليهودية؛ لأن القومية كانت على كل لسان في البلاد التي يكثر فيها اليهود خاصة كبولونيا ورومانيا وإسبانيا وهولندة، فخطر لليهود أن يطالبوا بقومية مستقلة، وأن يطالبوا لهذه القومية بوطن تساعدهم الدول على احتلاله.
وأثار القرن التاسع عشر مسألة المساواة في الحقوق العامة، فاعترف بعض الأمم لليهود بالمساواة بينهم وبين غيرهم من أبنائها.
واعترضت أمم أخرى على اعتبار اليهود من الوطنيين: لأن الوطنية لا تقبل الولاء لوطنين اثنين، وكان اليهود قد أخذوا في ذلك الوقت ينادون بالوطن القومي على اختلاف بينهم على موقعه: أين يكون وكيف يكون؟
ومما يؤيد تلفيق الدعوى الدينية في مسألة الصهيونية الحديثة، أن إمام هذه الصهيونية الأكبر تيودور هرزل لم يفكر فيها إلا بعد سنوات من صيحته الأولى في سبيل «خلاص اليهود»، وإنما كانت فكرته الأولى تحويل اليهود إلى المسيحية، وإنشاء مدرسة في فيينا لابتداء هذه المحاولة، وإقناع الجاليات اليهودية بين الأمم الأخرى بمحاكاتها، ثم نظر اليهود فوجدوا لهم «لزومًا» في دسائس الاستعمار ومساعيه الخفية الظاهرة، ووجدوا لهم «لزومًا» في عصر الصناعة والطرق التجارية خلال بلاد الدولة العثمانية، ووجدوا لهم «لزومًا» في عصر المسألة الشرقية وتفاهم الدول المستعمرة على تقسيم تركة الرجل المريض ومنها فلسطين، فجاءت الصهيونية بعد ذلك كله «وليدة» السياسة كما كانت وليدة لها في أقدم عهودها.
وقبل أن تشتبك الصهيونية والمطامع الدولية خطر لليهود أن يصححوا مراكزهم ويلائموا بينهم وبين العصر الحديث بوسائل متعددة. لم تعرض لهم فكرة «الوطن القومي» إلا في نهاية المطاف.
فأَنشَئوا جماعة هكسالا أو «شكل» في ألمانيا لتجديد العقيدة والتوفيق بين التربية الدينية والتربية العصرية، وأَنشَئوا جماعة «حلوقة» على غرار الجماعة القديمة التي كانت تجمع التبرعات من أنحاء الأرض، لإيواء الشيوخ والعجزة في أورشليم وصفد وطبرية وغيرها من مواقع فلسطين التي يكثر فيها اليهود، وطمع بعضهم بقيادة موسى مونتفيور في شراء البقاع الواسعة في فلسطين من محمد علي الكبير لتعميرها بالزراع من المهاجرين، وتألفت في الآستانة جماعة اليهود الروس المعروفين باسم «بيت يعقوب» لتشجيع الهجرة بعد استئذان السلطان.
فلما شعر اليهود بسهولة الطمع في «الوطن القومي» رفضوا هذه المحاولات جميعًا، واندفعوا إلى فكرة «الدولة اليهودية» ولم يقنعوا بالوطن القومي لمجرد السكنى والتعمير.
ولكنهم — حتى في هذه المرحلة — لبثوا مترددين في اختيار الموقع بين أوغندة في إفريقية، وإقليم من الأقاليم الخالية في الولايات المتحدة، وبقعة من البقاع على البحر الأسود بين روسيا والبلقان، وكانت طائفة من أقوى جماعاتهم الدولية وأكبرها — وهي طائفة عقودة إسرائيل — تعارض فكرة الوطن القومي إلى أيام الحرب العالمية الأولى، ولم تعدل عن معارضتها إلا بعد إعلان وعد بلفور.
وظلت فكرة الوطن القومي، أو فكرة الدولة اليهودية، كالسحاب الذي يتشكل على حسب أوهام الناظرين إليه، حتى أوشك القرن التاسع عشر أن ينتهي دون أن تستقر على وضع محدود، ثم تبلورت على شكل ثابت في مؤتمر بال بسويسرة سنة ١٨٩٧، وتم تشكيلها على الوضع الأخير بوعد بلفور بعد عشرين سنة.
أما مؤتمر بال المسمى بالمؤتمر الصهيوني، فقد أصدر في اليوم الثاني من أيام انعقاده قرارًا يقول فيه تعريفًا للصهيونية إنها حركة ترمي إلى إنشاء وطن للشعب اليهودي شرعي معترف به في أرض فلسطين، ويرى المؤتمر أن الوسائل الآتية صالحة لتحقيق هذا الغرض وهي:
-
(١)
ترقية اليهود المقيمين بفلسطين في أعمالهم الزراعية والصناعية والتجارية.
-
(٢)
تأليف اليهود في جميع البلدان جماعات محلية، أو جماعات عامة على حسب القوانين المرعية في تلك البلدان.
-
(٣)
تقوية الوعي اليهودي حيث كان.
-
(٤)
اتخاذ الخطوات التمهيدية للحصول على السند الضروري من الحكومات.
ثم نشبت الحرب العالمية، فاتصل الصهيونيون بالمعسكرين وساعدتهم ألمانيا والنمسا عند الباب العالي لتحقيق هذا المطمع في فلسطين، وعلم جمال باشا أنهم يمهدون لانتصار دول الغرب على دول أوروبا الوسطى فاشتد في مقاومة مشروع التعمير، واتفق في أثناء ذلك أن أستاذًا كيمائيًّا في جامعة مانشستر كشف طريقة لاستخراج المواد اللازمة للمفرقعات من بعض الحبوب، فطلبت الجامعة مكافأته، وأبى هو أن يطلب شيئًا لنفسه، قانعًا بوعد من الحكومة البريطانية أن تصغي إلى مطالب قومه.
هذا الأستاذ هو الدكتور حاييم وايزمان الذي اشتهر بعد ذلك في زعامة الحركة الصهيونية، وشفاعته هذه كانت المقدمة «المرغوب فيها» لإعلان وعد بلفور، ولكنه لم يعلن يومئذ في البلاد العربية، بل حظرت الإشارة إليه في الشرق العربي كله إلى ما بعد الهدنة بشهور، وما كانت شفاعة الدكتور وايزمان إلا تعلة لإصدار هذا الوعد الذي كان جزءًا من السياسة البريطانية العامة ومعدًّا قبل إعلانه لتنفيذه في الوقت المناسب، وقد كان في طريق التنفيذ بغير هذه الشفاعة، وإنما أصدرته الحكومة البريطانية ليكون ثمن الدعاية الصهيونية في الولايات المتحدة كي تحصل بريطانيا على المساعدات الأمريكية التي كانت في حاجة ملحة إليها للمضي في الحرب العالمية الأولى.