مصير الصهيونية العالمية في أعين أصدقائهم
لخصنا في الفصل الماضي أمثلة من نظرات الصهيونيين إلى مصيرهم كما بدا لهم منذ الحرب العالمية الثانية، ومؤداها جميعًا أن مشكلة اليهود في العالم لا تحل بإقامة الوطن القومي في فلسطين، وأنهم ينظرون إلى أوطان أخرى في القارة الأوروبية، وإلى حلول أخرى لمشكلة اليهود الفردية في كل بلد من بلدان الحضارة.
ونلخص في هذا الحديث أمثلة من نظرات الأصدقاء المجاملين، وهم رجال ونساء مشتغلون بالمسائل العامة، سألهم الصهيونيون أن يصرحوا بآرائهم في مسألتهم، فصرحوا بها على مناهج شتى، من مجاملة النفاق، أو مجاملة التحفظ والاعتدال.
فمنهم من كان كالمعزي الذي أراد أن يسبق أهل الميت في العويل والصياح، فكان في آماله لأصدقائه صهيونيًّا أكثر من الصهيونيين.
ومنهم من تذكر أمانة الفكر وتبعة النصيحة العامة، فقال ما لا يغضب الحقيقة.
ومنهم من لجأ إلى روغان كروغان الساسة، فجاء بكلام لا يربط قائله، ولا يمنعه أن يفسره بما شاء.
وعند هذا المؤرخ العلامة أن قضية العرب واليهود في فلسطين تشبه قضية البلجيكيين والفلمنكيين، وأن إقامة دولة يهودية في محيط الكمنولث البريطاني ضمان لسلم الصهيونية وسلم القارة الأوروبية وحاجز أمان إلى جوار قناة السويس.
فهذا الكاتب يترك مسألة الوطن القومي في فلسطين جانبًا، ويوجه التفاته كله إلى مسألة الهجرة، وتيسيرها للمضطهدين من اليهود ومن الشعوب الأخرى التي تضيق بها أوطانها بين الكثرة المتغلبة عليها، ويشير الكاتب إلى المستعمرات البريطانية التي تتقبل الوافدين إليها من الخارج، ولكنها تقيد الهجرة بقيود ثقيلة تكاد أن تمنعها، فيقول: إن المستعمرات حكومات مستقلة بشئونها الداخلية، ولكننا في إنجلترا نستطيع أن نتقدمها بالقدوة الصالحة، فتعدل عن بعض تلك القيود، ولا تقدم على العدول إذا استفادت من جهود المهاجرين إليها.
وتوماس مان كاتب آخر من حملة جائزة نوبل، ومن المتصدرين بين جماعات الدعوة إلى السلام والاجتماع على التسليم، وأصله من سلالة يهودية ألمانية، ولكنه يتجنب الاندفاع في التعصب لقومه، ويحاول أن يصبغ عليهم صبغة العطف على الضعفاء المضطهدين من كل ملة، ومقالته في هذه المجموعة تخلو من ذكر الوطن القومي في فلسطين، وتدور بالأمل كله في مدار الهجرة الميسرة، والتسوية بين اليهودي وغيره في حقوق الوطن والوظائف السياسية، وإذا تعرض لبقاء الصهيونية قال إنها ستبقى في المستقبل، لا كما بقيت في الماضي، وإن مصائب التشريد والاضطهاد لا تدوم على حالة، واحدة. ثم يختم كلامه عن الهجرة بملاحظة علمية، يحث بها الأمم الديمقراطية على تقدير الظروف الاستثنائية في تطبيق قوانين الهجرة، لأن هذه القوانين لا تقدر في الوقت الحاضر أحوال الاضطهاد التي تسوق المئات والألوف إلى مغادرة أوطانهم في آونة واحدة، ثم يقول: عسى أن يفيض المعنيون بمصير اليهود بموجات من العطف والغضب والثبات على المعونة تبلغ إلى السفاحين الذين يزهقون الحقوق والفضائل الإنسانية فيخيفهم، ويكون لها فوق ذلك أثرها الفعال في حث القادرين على المساعدة وتخفيف الآلام.
•••
هذه أمثلة من نظرات الأصدقاء المجاملين إلى مصير الصهيونية، تكاد في جملتها أن تنتهي بنا إلى نتيجة واضحة، لا تختلف باختلاف الباحثين ما داموا من الباحثين المسئولين الذين لا يدركون تبعاتهم، ويحاسبون أنفسهم على آرائهم، فما لم يكن الكاتب مأجورًا رخيص الضمير فهو شديد التحفظ في مؤازرة الصهيونية، ومجاراتها على شهوات العصبية التي تزين لها الهيام الأحمق باغتصاب فلسطين، واعتبار المقام فيها — باسم الوطن القومي — حلًّا لمشكلة اليهود، يحسم المشكلة، ويريح الأمم والحكومات من هوس الصهيونيين وأخطارهم التي يجرونها على أنفسهم وعلى سائر الشعوب.
وإذا كانت الدويلة الصهيونية تأتي بنكبات جديدة، ولا تدفع نكبة واحدة — فالمشكلة باقية ما بقيت الصهيونية العالمية، وسلامة العالم أن تقلع الصهيونية العالمية عن هوسها، وأن يقلع المؤيدون لها عن تشجيع ذلك الهوس الوبيل، فإنه لا دوام له مع انقطاع التشجيع والتأييد، وانكشاف السر «العالمي» في عصر لا تحتجب فيه هذه الأسرار.