مصير الصهيونية العالمية ومقاطعة العرب
إذا كان هناك شيء يتفق عليه العرب والصهيونيون، ويتفق عليه من يكتبون لمصلحة القضية العربية ومن يكتبون لمصلحة الصهيونية، فذلك هو الحقيقة التي تبدو لأول نظرة ثم تبدو مؤكدة مرددة بعد مائة نظرة: أن إسرائيل لا تحتمل البقاء مع مقاطعة العرب لها، فإذا قاطعها العرب وثابروا على مقاطعتها، فليس في الأرض قوة تنصرها عليهم، وليس بالعرب من حاجة إلى سلاح يدفعون به خطرها أمضى من هذا السلاح.
إن الحقائق البينة التي يجترئ الصهيونيون على إنكارها كثيرة لا تحصى إلا هذه الحقيقة التي لا تقبل المراوغة والمغالطة، فإنهم يسلمونها ويعلنونها، ويسلمها معهم أناس يبحثون قضية فلسطين بحث العالم المجرد عن الهوى، وأناس لا يفوهون بحرف في هذه القضية إلا لخدمة إسرائيل أو خدمة صهيون.
- أولًا: مقاطعة العرب، ومنها إغلاق قناة السويس، فإنها تحرمها موردًا رخيصًا من موارد الخامات وسوقًا سهلة لتصريف البضائع المصنوعة.
- وثانيًا: اضطرارها إلى إبقاء جيش قائم وإلى تقرير التجنيد العام، مما يكلفها نصف موارد الميزانية العادية.
- وثالثًا: قطع أنابيب البترول من العراق إلى حيفا، وهو أمر لا يقصر عمل المصنع الخاص بالتكرير على خمس طاقته وكفى، بل يضطر إسرائيل إلى دفع عملة أجنبية ثمنًا للبترول، بلغت في سنة ١٩٥٣ نحو خمسة وأربعين مليون ريال، وكان في ميسورها — لولا المقاطعة — أن تشتريه بالعملة الوطنية.
ولهذا تنوء بأعباء التجنيد العام، وتفرض الجندية، سواء على الرجال والنساء من سن مبكرة، تبتدئ في فرق الشباب في الرابعة عشرة، ونظامها الزراعي نفسه قائم على هذه الضرورة الحربية، لأن الخلايا الزراعية الموزعة على الحدود أو بجوارها لا بد أن تقوم في الوقت نفسه بأعمال الاستطلاع وأعمال الطلائع كأنها في الميدان.
فالحقيقة التي تواجه الصهيونية في مقاطعة العرب أشد عليهم وأوضح أمامهم وأمام غيرهم من أن يكتموها وأن يغالطوا أنفسهم فيها.
ولكن العلة الأصلية في إسرائيل أنها مخلوق متناقض، يعتمد في بقائه على النقيضين، فهو يعادي العرب، ويقتحم عليهم ديارهم، ويستغل مواردهم … ثم يطمع منهم في المعونة التي يقدمونها بأيديهم لتمكينهم من الاقتحام والاستغلال.
وقد تبلغ القحة والصفاقة بهم وبأنصارهم أن يصرحوا بالأمرين في وقت واحد، فمن أعجب ما قرأناه، بل من أعجب ما يروى على طول الزمن، أن يقول قائل منهم: «إن إسرائيل حربة طاعنة في جنب العالم الإسلامي.» ثم يعود فيقول: «إن الأمل معقود بأن تعيش إسرائيل بين العرب معيشة الجيران والعشراء.»
يقول هذا في عدد الرابع من أبريل، ثم يقول في العدد الذي يليه — أي عدد الحادي عشر من أبريل: إن هذه الحرية في جنب العالم الإسلامي قد تعيش في جوفه معيشة الجيران فتقوى على البقاء والتعمير.
وقال: «إنه لا مناص لإسرائيل مع مقاطعة العرب في الوقت الحاضر من البحث عن أسواق بعيدة، تبيع فيها حاصلاتها ومصنوعاتها، ولكن هذه المقاطعة إذا انتهت وقبلت الحكومات العربية حكومة إسرائيل لتعيش إلى جانبها معيشة الجيران، فيومئذ تنظر إسرائيل كأنها بلجيكا أخرى أو كأنها ألستر أخرى في المشرق …»
وعلينا — نحن العرب الطيبين الذين يقبلون الحربة جارًا مقيمًا في أبدانهم — أن نفهم ماذا يعني هذا الصهيوني الأريب بالمثل الذي ضربه عن بلجيكا أو ألستر دون غيرهما من البلدان.
فبلجيكا حربة في جنب ألمانيا، وألستر حربة في جنب أيرلندة، وكلتاهما تقيم في مكانها؛ لأن العدو ملاصق لحدودها.
ومن العدو هنا غير الأمم العربية؟ ومن المطلوب منه أن يثبت هذه الحربة في جنبه غير الأمم العربية؟ ومن الذي يقبل هذه الغفلة في ظن هذا الصهيوني وأمثاله غير الأمم العربية؟
إن غفلة الأمم العربية وخيانتها لنفسها مطلوبتان لراحة إسرائيل وتخفيف متاعبها، فلم تتغفل الأمم العربية نفسها باختيارها أو على الرغم منها؟ ولم لا تخون قضيتها وتبيع حاضرها ومستقبلها إذا كان ذلك لازمًا لراحة إسرائيل، وتخفيف المتاعب عن إسرائيل؟
عجب لا مثيل له في العجب.
وأقوال تقال ولا يدري قائلوها أن العربي لن يعقل منها غير معنى واحد أوضح أمامه من الشمس في ضحاها، فلولا عداوة جهنمية — والعياذ بالله — لهذه الأمم العربية لما خطر لهؤلاء الناس أن اللفظ الذي يهذرون به كلام يقال ويجوز على العقول.
إن الأمم العربية يطلب منها أن تعجز باختيارها عن مقاومة إسرائيل في ميدان المعاملات، ويطلب منها أن تنظر إلى خنجر في يد صهيون فتفتح له صدرها، أو تأخذه من يدها لتغمده في تلك الصدور الخاوية.
وكل هذه الأعاجيب التي لا تخطر على البال لو لم تنظر بالأعين وتسمع بالآذان، إنما هي في الواقع من أعاجيب هذا المخلوق المشوه المتناقض المسمى إسرائيل، فإن بقاءه يتوقف على النقيضين، ولا بقاء لمخلوق يقوم على نقيضين، فهو عدو العرب ومصيره بأيدي العرب، ولا حيلة للعرب في الأمر لأنهم مخيرون بين مقاطعة هذا العدو، وبين إحيائه بالوسيلة التي لا حياة له بغيرها، وهي استغلال البلاد العربية وتوطينها النفس على البقاء إلى الأبد رهينة بذلك الاستغلال، فإنها لا يكفي منها لإبقاء إسرائيل أن ترفع الحصار عنها، بل يجب على كل أمة عربية بعد ذلك أن تظل مفتقرة إلى الصناعة لتشتري من إسرائيل ولا تشتري من صناعتها، وأن تظل رخيصة الخامات لتأخذ منها إسرائيل ما تأخذه بالثمن البخس الذي تجود به عليها، ونكاد نقول: إن العرب لو أرادوا ذلك لما استطاعوا، ولهذا ينكشف المصير المحتوم أمام الصهيونية في إسرائيل، مصير يتوقف على المستحيل.