الصهيونية والمستقبل
تترجح دولة إسرائيل بين الكفتين: كفة التمكن والبقاء وكفة التداعي والفناء. وفي كل من الكفتين عواملها وأسبابها. ولكن عاملًا واحدًا إذا بقي في كفة التداعي والفناء كانت له الغلبة في النهاية لا محالة، وهو عامل المقاومة العربية، أول عوامل التمكن والبقاء هو العامل الطبيعي الذي يسيطر على كل حيٍّ في هذا العالم وهو حب البقاء. فالدويلة الصهيونية تحب أن تبقى وتتوسل إلى البقاء بكل وسيلة في مقدورها وميسورها، ومنها وسائل العلم والصناعة ونشر الدعوة في العالم الخارجي، ومنها معونة الدول الكبرى بالمال والسلاح. وفي سبيل البقاء تعمل هذه الدويلة على ري صحراء النقب، ونشر المحلات الزراعية التي ظاهرها حرث وغرس وحصاد، وباطنها حصون ومعاقل استطلاع. وفي سبيل البقاء تستعد بقوة عسكرية أكبر من كل قوة الأمم الأخرى بالنسبة إلى عدد سكانها، ولكن هذه العوامل كلها تقابلها على الكفة الأخرى عوامل مثلها وأشد منها، وهي عوامل طبيعية غير مصطنعة كمعظم العوامل التي تساعد على بقاء إسرائيل.
إن ثروة إسرائيل مثقلة بالتفاوت الكبير بين صادراتها ووارداتها …
فوارداتها خمسة أضعاف صادراتها، وما دامت المقاومة العربية محيطة بها من جميع جوانبها فهي مضطرة إلى جلب الخامات من بلاد بعيدة، وإرسال المصنوعات إلى أسواق بعيدة لا تستطيع المزاحمة بتكاليف صناعتها الغالية. ويضاعف هذه التكاليف الصناعية أن جماعة «هستدروت» تصر على رفع الأجور، حتى بلغ أجر العامل في إسرائيل ضعف أجره في البلاد الإنجليزية، ونجمت من ذلك مشكلة داخلية بين العمال المتفرنجين والعمال الشرقيين الذين يقنعون بالأجور المعتدلة، فإن جماعة «هستدروت» تسعى إلى تقييد الهجرة إلى إسرائيل من البلاد الشرقية منعًا لهذه المزاحمة، وقد أصبح العمل في الدويلة الصهيونية شبه احتكار للمتفرنجين المترفعين عن إخوانهم في الدين، وهم يزدادون تشبثًا باحتكارهم كلما أحسوا بانفرادهم في الميدان؛ لأن عدد المهاجرين من إسرائيل إلى خارجها يكاد يساوي في الوقت الحاضر عدد المهاجرين من خارج إسرائيل إليها. وقد كانت الزراعة فيما مضى معهودة إلى طوائف الكبوتيين، وهي طوائف اشتراكية تملك الأرض وتزرعها بالاشتراك بينها في العمل والمعيشة، فلما فترت الدفعة الأولى من دفعات الحماسة والعصبية قلَّ الإقبال على الملكية المشتركة، وغلبت عليها طوائف الموشوية، أو طوائف الملكية الفردية، وبين الفريقين اليوم من التنافس والتناظر ما ينذر الزراعة بأزمة الصناعة، أو أعسر وأبقى.
ولا ننسى الباعث النفساني الذي كان يسوق اليهود إلى فلسطين عقب الحرب العالمية الأولى، فقد كان باعثًا فعالًا يغذيه الأمل من جهة، ويغذيه الاضطهاد من جهة أخرى، فلما فتر الأمل وزال اضطهاد النازية والفاشية — ضعف الباعث النفساني الذي كان يومًا من الأيام (رأس مال) الحركة كلها، وأصبح الصهيونيون يستغيثون بأبناء ملتهم ليعودوا إلى تلك الحماسة، ويتساندوا على التضحية في سبيل القضية العظمى، فلا يسمعون لهذه الاستغاثة صداها الذي تعودوه؛ لأن الحماسة المصطنعة لن تغني غناء الحماسة المطبوعة بغير كلفة أو تدبير، وقد تقدم أن الاستعداد الحربي في إسرائيل أقوى من كل استعداد في الأمم الأخرى بالنسبة إلى عدد سكانها، وهذه ضرورة لا محيد لها عنها، وعبء فادح لا يتأتى لها أن تخفف منه ما دامت البلاد العربية تقاومها وتقاطعها، فإن حدودها البرية تزيد عن ستمائة ميل لا بد لها من الحراسة الدائمة وخطوط الدفاع المستمرة، ومهما تصنع من ضروب الحيطة فالأعباء أكبر من الطاقة، وهي اليوم أعباء تكلفها الكثير وتلجئها إلى نظام من التجنيد ثقيل الوطأة على مواردها البشرية والاقتصادية.
فمن الرابعة عشرة ينتظم الذكور في فرقة الشباب إلى الثامنة عشرة ثم يدعى الذكور والإناث في الثامنة عشرة إلى التجنيد للخدمة العامة، ومنها الخدمة في الطيران، ويظل النساء بعد انتهاء الخدمة العامة أربع عشرة سنة رديفًا تحت الطلب، وتتضاعف هذه المدة بالنسبة للذكور، فيدعون خلالها شهرًا كل سنة للتدريب.
هذا الاستعداد فيه من عوامل الضعف بمقدار ما فيه من عوامل القوة، وإذا انهزم جيش كهذا في القتال فهي هزيمة الأمة كلها وفناؤها بالعدد والعدة، وهي نكبة لا يتعرض العرب لمثلها؛ لأنهم يزيدون على أربعين مليونًا.
ويستطيعون أن يخصصوا للتجنيد جيشًا في عدة إسرائيل كلها برجالها ونسائها وأطفالها، ثم يخلفوه بغيره وبغيره دون أن يستنفدوا ما عندهم من وسائل المقاومة والثبات.
إن التناقض يضرب بمعوله في كيان إسرائيل من أساسه، فإنها قد أنشئت لتكون وطنًا قوميًّا لليهود، فهل هي كذلك الآن؟ وكيف يمكن أن تكون وطنًا قوميًّا لهم بأي معنى من معاني الوطنية؟
إنها لا تسع يهود العالم، ولا يهود العالم يرغبون جميعًا في الانتقال إليها. قد صدف عنها من رحلوا إليها، وتبين للكثيرين منهم أن مقامهم في الديار الأجنبية أنفع لهم من محاولتهم العقيمة في البلاد التي يزعمون أنها وطنهم المختار. وإذا طال بإسرائيل عمرها وجاء اليوم الذي يتكرر فيه اضطهاد النازية والفاشية فليس من البعيد أن تصد إسرائيل سيول الهجرة إليها كما تصدها الأمم الأخرى؛ لأنها لا تستطيع أن تؤويهم، بل لا تريد إيواءهم باختيارها، سواء قصدوا إليها للإقامة الدائمة أو للإقامة الموقوتة.
ومع هذا التناقض صعوبات أخرى، لم يتغلب عليها اليهود قط ولن يتغلبوا عليها، وهي الصعوبات التي تخلقها بينهم شكاستهم المعهودة منذ كانوا قبل أربعة آلاف سنة في جزيرة العرب، إلى أن أخرجتهم شكاستهم منها، ثم أخرجتهم من العراق، ثم أخرجتهم من كنعان، ثم أخرجتهم من مصر، ثم أخرجتهم من فلسطين، ثم عرضتهم للعدوان والبغضاء في كل وطن وبين كل أمة. ولولا أن الخطب في المرحلة الأخيرة أكبر من طاقتهم، لظهرت شكاستهم هذه على عادتها بين طوائفهم المختلفة التي برزت حتى الآن في الدويلة الصغيرة، وعندهم منها حزب الرجعة وحزب الفرنجة، وعندهم منها الماليون والشيوعيون، والشرقيون والغربيون، وفي وسعهم — على الرغم منهم — أن يخلقوا للشكاسة أسبابًا لا تخطر على بالهم ولا على بال أحد. فلن يزالوا كما وصفهم القرآن الكريم مع حلفائهم تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ.
وتعود بنا صفتهم بأنهم لا يعقلون إلى وهم شاع عنهم بين من يعتقدون أنهم شعب ممتاز بالذكاء والنبوغ، وقد عرضنا لهذا الوهم مرة، ورجعنا إلى حقيقته فكانت الحقيقة أنهم عالة على ثقافات الأمم. فإن فضل كل أمة راجع إلى ثقافاتها التي أنشأتها، ولكنهم هم يعيشون بين كل أمة ويأخذون من كل ثقافة، وإذا نظرنا إلى النجاح في عالم المال فلا امتياز فيه لليهود على طائفة أخرى تنتفع بالفرصة التي ينتفعون بها، وشاهدنا على ذلك عدد الأثرياء في مصر بين طوائف الأرمن والإغريق وأمثالهم من أمم البحر الأبيض المتوسط، فإنهم قد يزيدون على أثرياء اليهود أو يساوونهم في العدد، وقد يزيدون عليهم كذلك أو يساوونهم في مقدار الثراء وتنوع مصادر الإثراء، وقلما يرجع نجاح الإغريقي أو الأرمني إلى تضامن بينه وبين أبناء جلدته كما يتضامن يهود العالم.
وعلينا — بعد — أن نقدرهم ونسبر غورهم، ولكن بالمقياس الصحيح الذي لا مبالغة فيه من ناحية القوة، ولا من ناحية الضعف، ولنذكر أسباب بقائهم في دويلتهم كما نذكر أسباب تداعيهم وانحلالهم، ولا ننسى أن الدول الكبرى تعينهم تعصبًا على الإسلام والعرب وإن لم يكن تعصبًا لهم، ولكن البنية لا تستمد الحياة من معونة غيرها إن لم يكن فيها قوام الحياة، ولن تحيا إسرائيل إذا بقيت مقاومة العرب راصدة لها في كفة انحلالها وفنائها ولو دامت لها معونة الثقلين، وهي لا تدوم …