الصهيونية العالمية في الختام
شركة تبحث عن رأس مالها القديم، فتعلم أن الكثير منه قد تبدد، وأن ما بقي منه يوشك أن يضيع.
تلك هي الصهيونية في العصر الحاضر، أو في المرحلة المتوسطة بين ماض عاشت فيه على استغلال الاضطهاد واللعب بأعمال الصيرفة والمضاربات وتسخير الطوابير الخامسة في المؤامرات الخفية، وبين مستقبل يجورُ على كل حصة من هذه الحصص التي تجمع منها رأس مالها، ويوشك أن يكشف حسابها جميعًا، إن لم يأتِ على بقية منها بعد بقية، وعلى رصيد منها بعد رصيد.
فكل ما بحثوا فيه من أمر المصير وأشرنا إليه في الفصول السابقة …
وكل ما يعلنونه أو يسرونه اليوم من الشكايات الحقة أو الشكايات المفتعلة، فإنما هو بحث عن رأس المال المهدد بالضياع.
قيل إن الصهيونيين الإنجليز اتصلوا بالوفد الروسي المسيحي، في العاصمة الإنجليزية، وبحثوا معه في أحوال اليهود المقيمين بالبلاد الروسية.
وقيل إن عمال اليهود الأمريكيين طلبوا من الرئيس أيزنهاور أن يفاتح مندوبي الروس إلى مؤتمر «جنيف» في أمر السماح لليهود الروسيين بالهجرة إلى إسرائيل.
ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن أصحاب هذه المباحث وهذه المطالب يقصدون إلى الدعاية، ولا يقصدون إلى الجد فيما يذيعونه من شكايات اليهود الروسيين وإقناع الحكومة الروسية بالترخيص لهم في الهجرة إلى إسرائيل.
فليس من اليسير أن تعترف حكومة «الكرملين» على نفسها باضطهاد رعاياها وهي تذهب إلى جنيف لإعلان مُناياها الحكومية ورعايتها لحقوق المحكومين.
وليس من اليسير إذا اعترفت حكومة الكرملين باضطهاد اليهود أن ينتقل خمسهم ولا عشرهم إلى إسرائيل، وعدة اليهود في روسيا تزيد على خمسة ملايين.
وليس من اليسير أن تستوعبهم إسرائيل وهي تضيق بمن فيها وتتوالى الأنباء بعزم الكثيرين منهم على العودة من حيث أتوا؛ وتردُّد الكثيرين منهم في التحول من جنسيتهم إلى جنسية إسرائيل.
وإنما هي بضاعة الاضطهاد يشعرون بالحاجة إلى استغلالها في الآونة الحاضرة، لأن رصيدهم القديم منها يقارب النفاذ.
كانوا يستغلون اضطهاد النازيين اليهود في البلاد الألمانية، وكان لهم مكتب في برلين يتواطأ مع النازيين على تنظيم الاضطهاد وتنظيم الهجرة من جرائه إلى إسرائيل، وكان لهم رئيسان معروفان يديران ذلك المكتب لحساب الصهيونية العالمية، وهما — كما ذكر في فصل سابق — رئيس يدعى بينو ورئيس يدعى بارجلعاد.
ولا يعنينا هنا أن الاضطهاد يقع أو لا يقع، ولا يعنينا أنه يروى على حقيقته أو يروى مبالغًا فيه، ولكن الواقع في جميع الأحوال أنه بضاعة نفيسة تستغلها الصهيونية العالمية، وتمزح فيها بين استغلال العطف الإنساني واستغلال الخوف من الأعداء.
فالنازية كانت العدو المخيف لأمم الغرب قبل منتصف القرن العشرين، فمن الأرباح النافعة التي تستفيدها الصهيونية العالمية أن تثير العطف على ضحاياها وأن تثير البغضاء على العدو المخيف، وأن تكون ضحية الأعداء الألداء التي تستحق العون من الساخطين على النازية، والمتوجسين من مطامع النازيين.
والشيوعية اليوم هي العدو المخيف لأمم الغرب التي كانت بالأمس تحارب النازية في ميدان السياسة وميدان القتال.
فالصهيونيون إذن هم ضحايا الاضطهاد في بلاد الشيوعية، ومن الواجب أن تثار الدعاية حول هذا الاضطهاد في هذه الآونة على التخصيص، لأن فضائح الجاسوسية في الولايات المتحدة قد كشفت عن علاقة وثيقة بين الجواسيس الصهيونيين وبين الدولة الحمراء، وقد ذكرت الأمريكيين بأن الشيوعية كلها قامت قبل أربعين سنة على أيدي العشرات من دعاة صهيون.
رأس مال يتجدد لأنه قارب على النفاد، ودليل جديد على الصهيونية العالمية تعيش اليوم على رأس مال مهدد بالضياع.
ويصبح سفير إسرائيل في الولايات المتحدة محتجًّا عل تفتيش السفن التي تعبر قناة السويس إلى إسرائيل، ومتعجبًا من إصرار العرب على مقاطعة الدويلة التي تحسب أنها شوكة في جنب الأمم العربية، ومنكرًا على هذه الأمم أنها — كما يزعم — تبني الآمال الكبار على خذلان أمريكا للصهيونيين، ومؤكدًا أن الحوادث العارضة لن تكدر صفو العلاقة الأمريكية الصهيونية، وأن آيات الصداقة والحب لا تنقطع في الوقت الحاضر ولا في وقت من الأوقات.
رأس مال آخر مهدد بالضياع.
وكلام لا تثبت منه إلا حقيقة واحدة، وهي أن إسرائيل محرومة من عوامل البقاء بغير المعونة الأمريكية، وأن الأمم العربية تعرف ذلك كما يعرفه الصهيونيون.
فالمطلوب على هذا من الأمم العربية أن تعدل عن المقاطعة، لأن معونة أمريكا لإسرائيل باقية، ومقاطعة العرب في هذه الحالة لا تفيد.
وينسى السياسي الصهيوني أن هذه الصفحة يمكن أن تقلب عليه أو أنها قد تقرأ من اليمين إلى الشمال كما تقرأ من الشمال إلى اليمين.
قد يقال مثلًا: إن أمريكا ستعلم أن مقاطعة العرب دائمة، وأن معونتها إسرائيل في هذه الحالة لا تفيد.
وقد يقال مثلًا: إن عداوة العرب والعالم الإسلامي كله مشكلة خطيرة في السياسة الدولية، وإن عداوة الصهيونية لأمريكا لن تكون مشكلة خطيرة يحفل بها الشعب الأمريكي أو الدولة الأمريكية؛ لأن الصهيونية عالة على القوم لا قبل لها بمحاربتهم كما كانت تحارب البريطان والألمان.
والمسألة في جوهرها أكبر من مسألة الخلاف الحاضر بين العرب وإسرائيل.
فإنما هي مسألة الموازنة بين نتيجتين لا معدى عن إحداهما على تعاقب الأيام.
فإما أن تذهب إسرائيل من حيث أتت، وإما أن تبقى الأمم العربية فريسة لإسرائيل تأكل من لحمها ودمها وتحول بينها وبين التقدم، لكي تأمن مزاحمتها اليوم وغدًا وإلى آخر الزمان في ميدان الصناعة والتجارة والارتقاء على الإجمال.
وذهاب إسرائيل من حيث أتت أهون النتيجتين وأدناهما إلى المعقول.
وذهابها من حيث أتت نتيجة محتومة في مصير صهيون.
إن صهيون عاشت من قبل على طوابيرها الخامسة في جميع الأقطار، وليس من طبيعة الطوابير الخامسة أن تعمر طويلًا إذا تفتحت عليها الأنظار.
إن صهيون عاشت من قبل على اللعب من وراء الستار بأعمال الصيرفة وأسواق المضاربات، وليس في مقدورها اليوم أن تعيش بهذا اللعب المكشوف، لأن شئون الثروة ترتبط في العصر الحاضر بأطوار الاجتماع وثورات الأمم وحقوق الطوائف الطبقات، ولا يسهل العبث بها وراء الأبواب وبين الجدران.
إن صهيون قد عاشت من قبل بالبضاعة التي تسميها «الاضطهاد» وتتجر بها بين اليهود وغير اليهود، فإذا وقع الاضطهاد في العصر الحاضر فهو مشكلة لدويلة إسرائيل قبل أن تكون مشكلة للدول التي تضطهد اليهود، أو تحاول إنقاذهم من الاضطهاد.
فإذا هي فتحت أبوابها للمضطهدين فهي مختنقة بالزحام، عاجزة عن إيواء المزدحمين على الأبواب.
وإذا هي أغلقت بابًا من تلك الأبواب فقد هدمت دعواها بيديها، وبذرت بذور الفتنة بين رعاياها وبين اللاجئين إليها والمقيمين في غير بلادها.
وسيأتي اليوم الذي يعلم فيه الصهيونيون — كما يعلم غير الصهيونيين — أن قيام إسرائيل نكبة عليهم ونكسة بهم إلى عزلتهم الأولى وعصبيتهم الباطلة التي يعاديهم الناس من أجلها ويعادون من أجلها كل إنسان لا يحسبونه من خلق الله المرضي عنهم ولا يدخلونه في عداد «شعب الله المختار».
ومتى وقفت صهيون في جانب من عزلتها وعصبيتها، ووقف العالم كله على سعته في جانب الحذر منها؛ فذلك هو المصير الذي لا مراء فيه، وذلك هو الختام.