الصهيونية العالمية
الصهيونية العالمية حقيقة واقعة.
هي قوة موجودة بأعمالها وآثارها، موجودة بدعايتها وأخبارها، موجودة بمقاصدها وغاياتها، ولا حاجة بها إلى وجود في صورة أخرى ما دامت موجودة بالأعمال والدعاية والغايات.
ظهرت في القرن الماضي مجموعة من الوثائق السرية سميت بمحاضر مشيخة إسرائيل، وانتشرت من روسيا حيث ظهرت أولًا إلى فرنسا وإنجلترا ثم سائر الأقطار الأوروبية، وخلاصتها أنها تجمع المحاضر التي تسجل قرارات المشيخة الصهيونية، وأن هذه المشيخة تلتقي من حين إلى آخر للنظر في شئون العالم، واتخاذ الخطط المرسومة لتوجيه السياسة الدولية وإثارة الفتن والقلاقل في أمم الحضارة، سعيًا وراء غاية واحدة: وهي تخريب العالم وهدم دعائم الأخلاق والأديان والقضاء على كل سيادة روحية أو دنيوية فيه، لتمكين الصهيونية من السيطرة عليه، وتسليمه للصيارفة والسماسرة وأشباههم من خدام المال المستترين وراء كل شبكة مالية واسعة النطاق، ومعظمهم من الصهيونيين.
والملاحظ على هذه الوثائق أنها لا تظهر في لغة من اللغات إلا اختفت على أثر ذلك، وأنها تختفي كلما عادت إلى الظهور مترجمة أو مطبوعة من جديد، وهذه هي الشبهة القوية التي أقنعت بعض المشتغلين بالنشر والصحافة الكبرى بصحة الوثائق، واهتمام الصهيونيين بإخفائها ومنع تداولها.
ونحن على بغضنا للصهيونية لا نريد أن نعطي هذه الوثائق فوق حقها، فنحن لا نجزم بنفيها ولكننا كذلك لا نجزم بصحتها، ولا نرى أن الدلائل التاريخية كافية لإثباتها والتعويل عليها.
بل نحن نميل إلى الشك فيها كثيرًا؛ لأننا نستكثر على الصهيونية أن يكون لهم خلق الطاعة والولاء، وأن يتعودوا الإخلاص في خدمة هيئة علنية أو سرية. فلم يعرف في تاريخ هؤلاء القوم قط أنهم يخلصون في طاعة هيئة دنيوية أو دينية، وليس في تاريخهم كله عشر سنوات متواليات خلت من الفتنة والعصيان والتمرد على الرئاسة من أبناء جلدتهم ومن غير أبناء جلدتهم، ولا فرق بين رئاسة دينية أو دنيوية في هذه العاهة المزمنة بين هؤلاء القوم.
بل هم لم يخلصوا في طاعة نبي قط من عهد إبراهيم الخليل إلى عهد موسى، إلى ما بعد انقضاء عهد النبوات الإسرائيلية وظهور السيد المسيح، وقد وصفهم القرآن الكريم أصدق وصف في قوله تعالى: بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ ۚ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ.
وهذا وصف إلهي صادق عليهم في جميع العصور، ولكننا لا نحب أن ندينهم بكتاب لا يؤمن به أنصارهم من الغربيين، وفي كتبهم المعتمدة كفاية وفوق الكفاية لتوكيد هذا الحق الذي نسميه عاهة مزمنة فيهم، ما زالت ولن تزال.
ففي التوراة من سفر الخروج «قال الرب لموسى: رأيت هذا الشعب وإذا هو شعب صلب الرقبة.»
وفي السفر نفسه بلسان الإله: «أني لا أصعد في وسطك، لأنك شعب صلب الرقبة لئلا أفنيك في الطريق.»
وفي سفر التثنية يقول لهم موسى — عليه السلام: «إني عارف تمردكم ورقابكم الصلبة.»
وفي سفر التثنية أيضًا يقول لهم: «ليس لأجل برك يعطيك الرب إلهك هذه الأرض الجيدة لتمتلكها، لأنك شعب غليظ الرقبة.»
وليس في العهد القديم سفر واحد خلا من وصف كهذا الوصف بمعناه أو بما هو أشد من معناه، ولم تتغير طبائعهم بمضي الزمن إلى أيام السيد المسيح. فإن السيد المسيح هو الذي يخاطب أورشليم قائلًا: «يا أورشليم، يا أورشليم، يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها، كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحها، ولم تريدي.»
وبعد السيد المسيح كان بولس الرسول يقول لهم: «يا قساة الرقاب، يا غير المطهرين بالقلوب والآذان، أنتم تقاومون الروح في كل حين.»
فالصهيونيون لم يعرفوا في تاريخهم شيئًا يسمى الولاء والإخلاص في الطاعة لمن يتولى شئونهم، وكل ما عرفوه وعرفوا به في تاريخهم الطويل طبيعة التمرد والشكاسة والالتواء والعصيان، وليس هؤلاء بالذين يخلصون في طاعة هيئة خفية أو ظاهرة، ولكنهم لا يحتاجون إلى ذلك لتحقيق مآرب الصهيونية العالمية، فإنهم في غنى عن هذه الهيئة بما لديهم من الوسائل الأخرى، وهي كثيرة غير قليلة في العصر الحاضر.
فهم موجودون في أوطان متعددة، ولهم — باصطلاح العصر الحديث — طابور خامس في كل دولة، ولهم وسائلهم التي لا تتورع عن شيء من ضروب الرشوة وإرضاء الأهواء والشهوات.
وهم متعصبون متحزبون في كل مكان، لا يجمعهم حب بعضهم لبعض، ولكن تجمعهم كراهية الآخرين كما يجمعهم الحقد على العالم، لأنهم استثاروه في كل بلد وفي كل زمن، واستثاروا في نفوس أبنائه سوء الظن بهم وشدة النفور منهم، فهم بغضاء إليه يعلمون أنهم مُبغَضون، وحسبهم هذا ليعملوا مع متعصبين متحزبين.
وقد قيل إن عشرة متفقين أقوى من ألف متفرقين؛ لأنهم في هذه الحالة عشرة أمام واحد، ويتكرر هذا الموقف في كل بيئة على تباعد الديار بينهم، فتجتمع منهم حلقة مفرغة، تحيط بكل من يحاربون أو يطمعون منه في معونة، فتتوافر لهم بذلك قوة متآمرة مستمرة، لا حاجة بها إلى رئاسة خفية تسيطر عليها في جوانب الكرة الأرضية.
ومع هذا كله لا نعتقد أن قوتهم هذه كافية — وحدها — لبلوغ ما بلغوه في فلسطين.
إن نفاذ الصهيونية إلى فلسطين يرجع، ولا شك، إلى قوة الصهيونية العالمية، ولكن هذه الصهيونية العالمية لا تعمل وحدها في هذا الميدان، بل تعمل معها قوتان أخريان أكبر منها، وهما: قوة المصالح الاستعمارية، والتعصب الشديد على الإسلام.
إن الغربيين الذين يساعدون الصهيونية العالمية لا يساعدونها حبًّا لها، فما في الناس أحد يحب الصهيونية، والصهيونيون أنفسهم لا يحب بعضهم بعضًا حتى في فلسطين، وإنما المسألة هنا خدمة للمصالح الاستعمارية وعداوة للإسلام وليست محبة للصهيونية.
إن الحالة الواحدة لتطرأ على إسرائيل وتطرأ على بلد من بلاد الإسلام، فينظرون إليها في المغرب بعينين مختلفتين.
كل من الباكستان وإسرائيل دولة قامت على أساس العقيدة الدينية، وكل منهما تأخر وضع الدستور فيه لاختلاف الآراء على التوفيق بين الأحكام الدستورية والأحكام الدينية. ولكنك تقرأ في كلام الغربيين أن أمة الباكستان أمة متأخرة لأنها قائمة على أساس دينها، ومتأخرة لأنها لم تتم بعد دستورها، ولا تقرأ شيئًا من هذا القبيل بتة عن الصهيونيين ودولة إسرائيل، بل تقرأ عنهم كل ما شاءوا من أوصاف التقدم والحضارة.
هي إذن ثلاث قوى تعمل في قضية فلسطين: قوة الصهيونية العالمية، وقوة المصالح الاستعمارية، وقوة التعصب على الإسلام، ولهذا نقول: إن الصهيونية العالمية لا حاجة بها إلى مشيخة إسرائيل، فحسبها الطابور الخامس المنتشر في كل مكان، ومعه الطوابير الأخرى التي تجتمع على البغضاء وإن لم تجتمع على المودة والولاء.