الصهيونية العالمية جنايتهم على أنفسهم
الصهيونية منسوبة إلى صهيون في بيت المقدس.
ولكننا حين نتكلم عن الصهيونية العالمية، نعني بها شيئًا أقدم من هذه النسبة، وأقدم من وصول العبريين إلى أرض فلسطين منذ أكثر من ثلاثة آلاف سنة.
نعني بها ذلك الخلق الذميم الذي تأصل في طائفة من العبريين منذ أقدم العصور، وجعلهم بغضاء منبوذين في كل مكان أقاموا فيه أو دخلوه.
نعني به خلق العدوان والادعاء والأنانية، وهو داء قديم في هؤلاء القوم، لم يفارقهم قط في عهد من عهودهم التاريخية، ولا شك أنه كان ملازمًا لهم زمنًا طويلًا قبل ظهورهم على مسرح التاريخ.
هذه الصهيونية بغيضة إلى كل الناس، بغيضة من كل بلد، بغيضة في كل زمن، بغيضة في الزمن الحديث، لا يحبها ولا يعطف عليها أحد بلا استثناء لأنصارها المستعمرين والمتعصبين.
ولقد كان الصهيونيون يعرفون أنهم مبغضون ولا يستغربون، وكان خصومهم يعرفون أنهم يبغضونهم ولا يستغربون: كان هؤلاء وهؤلاء لا يستغربون بغض الصهيونية؛ لأنهم يعرفون أسبابه في زمانهم، وإن اختلفوا فيمن هو على حق وفيمن هو على باطل.
أما العصور الحديثة فقد اختلط فيها الأمر على بعض الباحثين فخلطوا بينه وبين التعصب الديني على اليهود، وهما شيئان منفصلان.
ثم ظهرت مباحث علم النفس الحديث — ولا يخفى أن الكثيرين من دعاته يهود — فراح الباحثون في علل الظواهر الاجتماعية يبحثون عن علة نفسانية لكراهية الساميين، وحاول بعضهم أن يجعلها علة دخيلة تصيب الأمم والجماعات كما تصيب المخبولين من آحاد الناس، فخبطوا في ذلك خبطًا ذريعًا، وجانبوا الصواب في كل ما زعموه، لأن المحاولة من أولها قائمة على ضلال، أو على غرض يسوق إلى الضلال.
قال بعضهم: إن كراهية الساميين مرض اجتماعي يظهر في الأمم التي تصاب بمركب النقص وتشعر بأنها محتقرة بين الشعوب، أو متخلفة عنها.
وقال بعضهم: إن كراهة الساميين مرض يصيب الأمم التي يتسلط عليها الخوف، فتتهم من تستطيع اتهامه، وتجد اليهود بينهم منعزلين متميزين، فتخصهم بذلك الاتهام.
وقال بعضهم: إن كراهة الساميين داء تبتلى به الأمم المتكبرة التي توالت عليها الهزائم، فهي تتشفى وتنتقم ممن تقدر عليه، كما فعل النازيون.
وقال آخرون: إن الأمم الفقيرة تصاب بداء الحسد، وتنتقم من الأجانب والغرباء عنها إذا اعتقدت فيهم الثراء والنجاح.
وكل هذا لغو وخرافة؛ لأن الأمم كلها لا تصاب بالأدواء النفسية ويسلم منها الصهيونيون دون سواهم، وإذا كان الصهيونيون مكروهين من قديم الزمن فالبحث العلمي المنزه عن الغرض يتجه إليهم أولًا قبل أن يتجه إلى الآخرين.
والواقع أن الصهيونيين لم يألفوا أحدًا ولم يألفهم أحد منذ عرف اسم العبريين في التاريخ.
إن هؤلاء القوم من سلالة سامية نشأت في جزيرة العرب مهد الشعوب السامية، على أرجح الآراء.
فشجر النزاع بينهم وبين جيرانهم وهاجروا إلى العراق في الجنوب، ثم هاجروا من جنوبي العراق إلى شماليه في عصر يقارب عصر إبراهيم الخليل، ثم هاجروا من العراق الشمالي إلى الصحراء السورية فدخلوا أرض كنعان، وهناك كان يسكن الأدرميون والمؤابيون والعمالقة وعشائر مختلفة من الآراميين والكنعانيين، وبدأ التاريخ يسمع بأبناء القتال بين هؤلاء جميعًا بعد دخول العبريين إلى أرضهم، وبدأ التاريخ يسمع النزاع بين أتباع إبراهيم الخليل أنفسهم فانقسموا إلى شطرين.
ومنذ تلك الحقبة لا يعرف التاريخ لهؤلاء القوم فترة واحدة جمعتهم على ألفة ووئام مع جيرانهم، فدخلوا مصر ونفر منهم المصريون، وعادوا إلى كنعان ونفر منهم الكنعانيون، وقامت لهم دولة في عهد النبي داود فشغلتهم بالإغارة على جيرانهم واتقاء الغارة من أولئك الجيران، ثم جاء سليمان الحكيم فبنى لهم الهيكل فثاروا عليه؛ لأنه فرض عليهم الإتاوات لبنائه وبناء قصره، ثم انقسموا بعده قسمين: إلى الشمال وإلى الجنوب، وحفظت كتبهم ما قاله الشماليون في الجنوبيين، وما قاله الجنوبيون في الشماليين، فإذا هو أشد وأشنع مما قاله أعداء الساميين فيهم أجمعين، من أقدمين ومحدثين.
ثم سباهم البابليون وحملوهم إلى أرض بابل، فلم تنعقد الألفة بينهم وبين جيرانهم هناك، وسرحهم «كورش» عاهل الفرس بعد حين؛ نفيًا في حقيقة الأمر، وعفوًا عنهم في ظاهر الأمر كما قالوا وكما قال.
وجملة تاريخهم بعد العودة من السبي تكرار لهذا التاريخ، ولما تفرقوا في البلاد بعد هدم الهيكل حدث لهم في كل بلد ما حدث في البلد الآخر: نفور وقتال وكراهية للساميين بالتعبير الحديث.
ولا حاجة إلى بيان ما حدث لهم بعد ذلك، فإنه ماثل في جميع الأذهان، وهو من المواضيع التي لا تنقطع الكتابة عنها والكلام فيها بين الغربيين والشرقيين، وبخاصة بعد اقتحامهم لأرض فلسطين متواطئين مع ساداتهم المستعمرين ونصرائهم من المتعصبين.
أفكل العالم مريض والصهيونيون دون سواهم هم المبرءون من العلل والأمراض؟!
إن ذلك لهو اللغو بعينه كما أسلفنا في هذا الحديث، وكفى أن تبرئة الصهيونيين من الإثم والملامة تلقي التهمة على أمم العالم جمعاء … كفى ذلك لنعلم أنه اتهام باطل ينطوي على الغرض كما ينطوي على الضلال …
لكن الواقع أن أعراض المرض النفساني ظاهرة محققة في الصهيونيين على نحو لا يقبل المراء.
إن أعراض البارانويا هي غرور الأنانية والانفصام عن الوسط الذي يعيش فيه المريض، والوهم المتسلط والشعور بالاضطهاد، والتوجس الدائم من الأعداء.
أي عرض من هذه الأعراض لا يظهر جليًّا واضحًا في هؤلاء الصهيونيين؟
إنهم يسمون ربَّ العالم «رب إسرائيل» ويحسبون أنه خلقهم وحدهم لعبادته وخلق الأمم جميعًا لخدمتهم إلى آخر الزمان.
إنهم مصابون بالانفصال فيعزلون في كل مكان دخلوا فيه مجتمعين أو متفرقين.
إنهم يتوقعون الاضطهاد ويستثيرونه بوقوفهم موقف المقاومة له، سواء تعرضوا له أو حرضوه بالعزلة والتآمر على استغلال الآخرين.
إنهم يجمعون كل أعراض البارانويا والشيزوفرانيا كما يحصيها الأطباء النفسانيون.
وكراهة الساميين إذن ليست مرضًا في الأمم الإنسانية قاطبة باستثناء الصهيونيين، ولكنها مرض في الصهيونيين يلازمهم في كل مكان وفي كل زمن، ويثير في النفس «رد الفعل» الطبيعي له من كل إنسان سليم الطباع. إنهم لهم الجناة على أنفسهم، وإنهم لقوم «لا يعقلون» كما وصفهم القرآن الكريم.