الصهيونية العالمية والنبوغ
من الحقائق المتواترة، بل من المشاهدات العيانية الثابتة، أن الصهيونيين — كما قدمنا — مكروهون في كل مكان وفي كل زمن، وأنهم يعرفون ذلك ولا يجهلونه، ويعترفون به ولا ينكرونه … لأنه أظهر من أن يجوز فيه المراء.
يعرف الصهيونيون أنهم مكروهون، ويعترفون بذلك لأنه ظاهر متواتر، ولكنهم لا يعترفون به لمجرد الاعتراف بالواقع الظاهر المتواتر، بل يعترفون به لأنهم ينتفعون منه، ولأن دعواهم كلها قائمة على شكوى الظلم والاضطهاد، وعلى الحاجة الملحة إلى الإنصاف.
يعرفون أنهم مكرهون، ويحاولون في الزمن الحديث أن يفسروا ذلك تفسيرًا يبرئهم من العلة، ويرجع بالعلة كلها إلى أمم العالم دونهم، فلا يفلحون!
على أنهم في الزمن الأخير يسلمون أن العلة منهم، ولكنها علة تشرفهم ولا تعيبهم، وإنما تعيب غيرهم من أعداء الساميين.
العلة في زعمهم أنهم قوم محسودون؛ لأنهم قوم ممتازون بالنبوغ والنجاح، وأنهم أصحاب كفايات لم تجتمع لغيرهم من الأمم … فهم ناجحون في ميادين الأعمال، ناجحون في ميادين العلوم والفنون، وخليق بهذه الكفايات النادرة، خليق بهذا النجاح الملحوظ أنه يجلب عليهم الحسد والكراهية، لغير ذنب جنوه!
وهذا هو الوهم الباطل بحذافيره!
هذه هي الإشاعة الكاذبة من الألف إلى الياء!
هذه هي الأكذوبة التي يقوم الدليل عليها بالحساب والأرقام، والنظر إلى الواقع الذي نراه بيننا، ولا يذهب بنا إلى بعيد.
في مصر كثير من الجاليات التي تعمل في ميادين الحياة العامة غير الصهيونيين.
فيها جاليات من اليونان، ومن الأرمن، ومن إخواننا أبناء الأمم العربية الشرقية.
ونظرة سريعة إلى الناجحين من كل جالية، ترينا بالحساب والأرقام أنهم لا يقلون عن الناجحين من الصهيونيين.
ويبقى بعد ذلك فارقان عظيمان: الفارق الأول أن الناجحين من هذه الأمم ينجحون في التجارة والزراعة والصناعة والعلوم والفنون، وأن الصهيونيين — على خلاف ذلك — قلما ينجحون في عمل غير السمسرة والتجارة.
والفارق الآخر أن الجاليات الأخرى تعمل وحدها ولا تستند إلى عصبة عالمية من أبناء قومها منتشرة في أرجاء العالم، وليس منها طوابير خامسة مبثوثة في كل بقعة تعاونها سرًّا وجهرًا، وتحارب من ينافسونها ويزاحمونها، كما يفعل الصهيونيون.
فالصهيونيون — مع هذا التعاون بينهم وبين طوابيرهم الخامسة في أنحاء العالم — لم يبلغوا من النجاح مبلغًا يفوقون به غيرهم، ولم يبلغوا نجاحًا إلا في ميدان واحد دون سائر الميادين.
ندع هذا ونعود إلى دعوى النبوغ في العلوم والفنون، فلا نرى أن الصهيونية أنشأت لها ثقافة مستقلة قط في زمن من الأزمان، وإنما يستفيد الصهيوني الألماني من ثقافة ألمانيا، ويستفيد الصهيوني الإنجليزي من ثقافة إنجلترا، ويستفيد الصهيوني الأمريكي من ثقافة أمريكا. ويقال مثل ذلك عن الصهيونيين في إيطاليا وسويسرة وهولندة والبلجيك، فهم يستفيدون من ثقافات هذه الأمم، وينبغي لذلك أن يكون الناجحون منهم في العلوم والفنون أضعاف الناجحين من جميع الأمم بالنسبة لعددهم، ولكنهم بالنسبة إلى عددهم وبالنسبة إلى استفاداتهم من جميع الأمم، أقلُّ من غيرهم في عدد النابغين بكثير.
وإذا ذكرنا الطوابير الخامسة في ميادين الأعمال الاقتصادية، فلنذكر هذه الطوابير الخامسة في ميادين العلوم والفنون، ولنذكر أن الصهيونيين يتدخلون في شركات الصحف وشركات الإعلان وشركات النشر والطباعة، وأنهم يتعصبون ويتألبون ويتحزبون، فينال الكاتب الصهيوني من الشهرة فوق ما يستحقه، ويبدو ذلك جليًّا من شهرة أناس من أمثال لدفيج، وموروا، وزفايج، وكافكا، وريلكه، وبروست، وسارتر، وآخرين وآخرين … فإنهم أقل من نظرائهم في بلادهم، ولكنهم يشتهرون بفعل الدعاية والتآمر عليها، لأنهم صهيونيون آباء وأمهات، أو لأنهم أبناء أمهات من الصهيونيين.
إن المقياس الصحيح لنبوغ الصهيونيين في العلوم والفنون هو تاريخهم القديم.
إن تاريخهم المستقل بثقافته ودراساته هو المقياس الصحيح لتلك العقول، أو لتلك الكفايات!
وقد كانت في الإسكندرية مكتبة جمعت مئات الألوف من المجلدات في الطب والفلك والجغرافية والحكمة والرياضة وسائر العلوم، وكانت هذه المكتبة الجامعة التي احترقت في بعض الحروب عنوانًا لثقافة الأمم القديمة من يونان ورومان وبابليين ومصريين، وكانت فيها محفوظات من تآليف هذه الأمم ومقتبساتها، فكم كتابًا كانت فيها من تآليف الصهيونيين الأقدمين؟
كم أثرًا من آثارهم في علوم الفلك أو الجغرافية أو الهندسة أو الطب أو الفلسفة، أو غيرها من ثمرات العقول الإنسانية؟
لا كتاب! ولا أثر! ولا ثمرة … وهذا هو المقياس الصحيح لتلك العقول وتلك الكفايات.
إنه لم ينكر السبة لأنه لا سبيل للإنكار، وإنما اعترف بها واعتذر منها كما قال بحروفه: «إننا نسكن بلدًا بعيدًا من البحر، ولا نتصل بالمعاملات، وليست بيننا وبين الأمم مواصلات، فهل من العجب أن أمة كهذه الأمة على بعدها من البحر قبل اشتغالها بالكتابة تظل مجهولة بين غيرها؟»
وقد أورد فولتير هذه العبارة، فعلق عليها قائلًا — على فرض أن كتب العهد القديم تعد من كتب الصهيونية: «لا بد نلاحظ أن اثنين وعشرين كتابًا صغيرًا ليست بالعدد الكبير إذا نظرنا إلى آكام الكتب التي كانت محفوظة في مكتبة الإسكندرية … ولا شك أن اليهود قد كتبوا قليلًا وقرءوا قليلًا، وأنهم كانوا على جهل مطبقفي علوم الهيئة والرياضة والجغرافية والطبيعيات، وأنهم لم يفقهوا شيئًا من تواريخ الأمم الأخرى، ولم يبدءوا بالتعلم إلا في الإسكندرية، حيث أخذوا يهتمون بتحصيل بعض المعارف، وما كانت لغتهم إلا خليطًا بربريًّا من الفينيقية والكلدانية المحرفة، ناقصة في تصريفات الأفعال، فقيرة في أدوات التعبير، وهم عدا هذا لا يظهرون الغرباء على كتبهم ولا على عناوينها …»
ومن السهل أن يقال عن فولتير كل شيء إلا أنه كان من أعداء الساميين، ولو كان من أعدائهم لما قدح ذلك في كلامه عنهم، لأنه لم يقرر كلمة واحدة في غير الواقع الملموس.
تلك حقيقة الدعوى التي يروجها الصهيونيون عن النبوغ المحسود، وعن الكراهية التي يثيرها في النفوس امتيازهم بالكفايات والملكات، فهم في الثقافة عالة على كل أمة يستمدون منها التعليم، وهم في ميادين الأعمال دون غيرهم من الأمم التي لا تستعين بالطوابير الخامسة كما يستعينون بها، وآية ذلك ظاهرة من المقارنة بينهم وبين الجاليات الأخرى من الديار المصرية.
وتلك الطوابير الخامسة هي مصدر القوة الصهيونية العالمية، وهي التي نشرحها فيما يلي من الفصول.