بابا نويل
أول ما يواجهك في ذلك البيت العتيق فراش ممدود حد صندوق دهري أطول منه. صندوق ألبسته الأيدي التي تعاورته ثوبًا دسمًا فتنكر تحته خشبه. في خواصر ذلك البيت اللبناني القائم سقفه على ثلاث قناطر، دقت أوتاد هنا وهناك، كانت هي (البورتشابو) في ذلك الزمان.
أما أروع ما في صدر ذلك البيت، فرفٌّ خشبي وضعت عليه قوارير فخارية مختلفة الأشكال، وشماعدين وثريات للشموع البيضاء والصفراء، وسرج وقناديل تضاء أمام صور وأيقونات وصلبان ومسابح تكاد تشغل مساحة لا تقل عن أربعة أذرع طولًا في أربعة عرضًا، فيخال الداخل إلى ذلك البيت أنه أمام مذبح لا ينقصه إلا (بيت الجسد).
وكان مندسًّا في ذلك الفراش هيكل بشري ما فيه إلا العظم والروح والجلد. أخذت الأيام من عرض أكتافه فدق واستطال. وأما لحية ذلك العملاق، فظلت محافظة على أبهتها ولم تخسر منها إلا مقدارًا زهيدًا لا ينقص من مهابة الشدياق ولا يحط من قدرها.
عمَّر الشدياق اسطفان كثيرًا، فعزا العوام طول حياته إلى عفته، فمنهم من يؤكد أنه ما اشتهى امرأة قط، ومنهم من نزهه عن ذلك تنزيهًا. ولولا زجر الخوري للغلاة لقالوا: إنه حُبِلَ به أيضًا بلا دنس.
وكانت امرأة طاعنة في السن من نساء القرية تنظر إلى زوجها الشيخ، وتصر شفتيها وتسكت كلما سمعت ما يقول الناس عن الشدياق، ولا تزيد على القول: أعرفه عندما كنا وليدات نرعى المواشي.
وفي ليلة عيد الميلاد سنة ألف وثمانمائة و… كان الشدياق اسطفان قد فات التسعين، فتململ في فراشه بعد ظهر ذلك النهار. وتنبهت ابنة أخيه مرتا إلى همهمته، فهي تنتظر الساعة، والانتظار صعب، فمغمغ قائلًا: مرتا، هاتي اسقينا.
وأخذ الإبريق بيديه الثنتين، ومع ذلك لم يحكم توجيه أنبوبته إلى الهدف فشرب هو واللحاف، ولما أبطأ لهاثه تنهد وقال: سامع حس ناس، من عندنا يا مرتا؟
– عندنا متَّى يا جدي.
– متَّاه، كيف الطقس؟
– الشمس مريضة يا عمي، ولكن النهار دافي جدًّا.
– وهذا الذي جاء من أميركا إيش خبر عن الغائبين.
– الليلة يسهر عندك مع الضيعة.
– أهلًا وسهلًا، سمعت يا مرتا.
– نعم سامعة. النقل حاضر.
وأخذ الشدياق ينسحب من تحت لحافه رويدًا رويدًا، وبعد جهد قعد في فراشه فبدا — حين تكوَّم — كأنه كرسي عمود في قلعة متهدمة. وأراد النهوض فعجز، ولكنه تماسك وابتدأ يصلي وهو يحاول شد صرمايته التي لم يرق لها أن ينتعلها. وظل يعالجها ويتلو صلاته بحرارة، حتى استظهر عليها، فمشى إذ ذاك يجر رجليه وكأنهما ليستا منه. ولولا تقوس ظهره لخلته ماردًا أفلت من قماقم سيدنا سليمان؛ لحية بيضاء كأنها صوف فروة عتيقة، أصبحت خصلها جدائل لما بينها وبين المشط من عداوة. فهي بنت عم شعر الشنفرى لحًا، وإذا ارتفع نظرك عنها قليلًا وقع على حاجبين كأنهما رفرف فوق أنف مروَّس معقوف كمنقار نسر.
كان ملبوس الشدايقة غنبازًا أسود مقلمًا، ولكن الهرم الذي اعترى غنباز الشدياق اسطفان أخذ الكثير من لونه وحلت محل أقلامه أنهار من الخواء نمَّت عن بطانة بيضاء. ومشى الشدياق غير محكم الزنار، فتجمع برداه، عن يمين وعن شمال، كستار مسرح مفتوح نصف فتحة، أما الممثلون فقد تواروا واضمحلوا. وما بلغ الباب القبلي حتى انهار على فروة مدَّت له. ثم أخذ يستوي على مهل حتى تمثل بشرًا سويًّا، واستند إلى حائط البيت رازحًا تحت أثقال التسعين التي تمطت بصلبها وناءت بكلكلها على منكبيه.
ونظر إلى الطبيعة بعينين جفت ماويتهما فرآها صفراء مغبرة فقال: عجيب! كيف اصفرت الدنيا، ما كانت هكذا منذ أيام. وحك صلعته كمن يشغل باله أمر خطير، وأطرق إطراقة طويلة. ورفع رأسه فإذا بدمعة تكرج في ثلم من وجنته لتنهار عند مدخل لحيته.
وطفق الشدياق يجهش ثم تعالى بكاؤه فلفت أنظار العابرين والعابرات. وشاع في القرية أن الشدياق اسطفان يبكي، وهو من لم يُر قط باكيًا فتضاربت في ذلك أقوالهم.
رأى الشمس جانحة لتتوارى خلف الجبل فانتحب. أدرك أنه إلى ما تصير إليه صائر، فراح يناجي نفسه: هي تغيب وتشرق، أما أنت يا اسطفان فإلى ظلمة القبر. لا شروق ولا غروب. إنه يضيق صدره وهو في فراشه اللين فكيف به متى وسدوه التراب. إنه يبرد، وهو نائم حد الموقدة فكيف به متى نام في قلب الأرض حيث يبقى في ظل الموت إلى الأبد.
ورأى نصف قرص الشمس قد أوشك أن يتوارى خلف الجبل فأرسل زفرة حرى. وأخذ يتحلحل ليعود إلى مرقده قبل أن يختفي كانون الله ويقرصه البرد.
وما ذكر الله والعذراء حتى عاد إليه إيمانه بالخلود والحياة الأبدية، فتشدد ونسي البكاء.
ذكر أن المسيحي الصالح لا يموت بل ينتقل من وادي البكاء والدموع إلى دار النعيم حيث يتمتع برؤية الله وجهًا لوجه.
ثم عاودته نوبة الشك فانخرط في البكاء وقال. هل بعد الشقا بقا، ترى نعيش ليوم عيدك يا مار مارون؟ آه يا حبيب القلب، نلتقي يا ترى في الخدر السماوي؟ من يعلم؟ وبينا هو غارق في تلك الظلمة سمع صوت امرأة تناديه: اسطفان، ضيعت إيمانك بالحياة الأبدية!
فتلفت فلم تقع عينه على أحد، فقال في قلبه: مؤكد، هذي العضرا مريم، من يقول لي هذا غيرها. ثم التفت وخاطبها كأنه يراها: لا تؤاخذيني يا ستي السيدة. الآخرة مخيفة، والموت يفزِّع. عذري معي، ابنك يسوع بكى في البستان. أنا متكل عليك يا حبيبتي. تعبنا وشقينا حتى نرى وجهك الحلو. لا تخيبينا.
وخاف الشدياق أن يعتب عليه الله فاستوى ما استطاع مادًّا بصره إلى فوق وقال يناجيه بأعلى صوته: يا صاحب الخيمة العالية، يا من تعيش في النعيم، ويمجدك الكاروبيم والساروفيم، ماذا عندك للشدياق اسطفان الذي قضى حياته متبتلًا؟ هل تحاسبه على كل هفوة؟ ألا تتساهل معه؟ ألا تدخله أخدارك السماوية بعد أن عاش تسعين سنة تحت مظلتك الكبرى لا يهمه إلا طاعتك.
ارحمني يا الله كعظيم رحمتك. ما أرعب ساعة الميعاد يا الله؟ قلبي يدق، أنا خائف جدًّا. شدَّدني يا الله. الشيطان يجربني دائمًا. أينما رحت أراه حاضرًا. تف له. ما أبشع وجهه، وذنبه وقرونه.
وتذكر الشدياق أنه أمسى فراح يرتل وهو ماش، الميمر السرياني: برمشو صليبوخ روشيمنو على هادوماي … إلخ.
وكان متَّى ومرتا قد أضرما النار في الموقد فحمي البيت، وارتمى الشيخ ليتربع قرب النار.
شيخ منودل، ينوس كرقاص الساعة. نسي الشك والفزع حين تدفَّأ. ولذعته النار قليلًا، فتجهم وجهه وانقبض كأنه رأى في الموقد نار جهنم. تذكر عواقبه الأربع فارتاع وانكمش. وعلا اللهيب فخال أنه يرى من خلاله شبابيك الجنة مفتوحة مضاءة، فتهلل وتذكر عليقة موسى التي اشتعلت ولم تحترق، فانحرف فكره عن نيران الجحيم. إذن في النار ذكريات طيبة للمؤمنين، فما باله وهو الرجل الصالح الذي راض نفسه على الفضائل المسيحية، يفكر هذه الأفكار السوداء؟
لا شك في أن إبليس يجربه ليقطع أمله ويتزعزع إيمانه في أخريات حياته، فصلب على وجهه مرات وخرج من جو تلك الأفكار التي خاف منها، وصاح: مرتا بخِّري الصورة.
فنهضت مرتا بمجمرتها، تبخِّر الصورة فملأت رائحة البخور الجوري البيت، فتنشقه الشدياق وهو يهتف: إخايه! صار كصوفي أسكرته المشاهدة، حتى خيل إليه أنه يرى في دخان المبخرة الصاعد سلمًا مثل سلم يعقوب يرتقي به إلى سماوات ذي العرش، فأخذ يرتل بصوت رخيم لا ارتجاف فيه ولا اهتزاز، كأنه ابن أربعة عشر.
وما انتهى من إنشاد هذه المديحة حتى صرخ: يا بنت! بخرتِ صورة مار مارون؟
وبخرت البنت ورتل هو: لك شرف مفرد كبدر الضيا، وأومأ إلى متَّى فشاركه في ترتيلته التي لم يصرم حبلها إلا الفواق. وما ارفضَّ موكب صلاته الحافل، حتى عاد إلى قعدة الأربعاء وهو يقول: ترى يكون لنا حظ ونسمع تهاليل الساروفيم، ونرى الراكب على الكاروبيم! ما أحلى هاتيك الساعة. قريبًا نلتقي يا مار مارون.
وقدمت له مرتا العشاء وفيه ما تحرِّمه الكنيسة في صوم الميلاد — وهو ابن تسعين يحل له أكل كل طعام — فكفَّ عنه يده ونفسه تشتهيه. لم يأكل إلا بضع حبات من الزيتون ورأس ثوم شواه. ولماذا الأكل، أليحرم الأجر؟ غدًا نأكل إن شاء الله اللحوم والألبان، فديوك الميلاد تغلي على النار، وتغني في القدور كأنها جوقة ترتل: المجد لله في العلا …
وقال لمرتا وهي ترفع الصينية: غدًا نأكل مع الضيعة من طعام العيد. فمنذ صار الشدياق ذلك الشيخ الجليل الذي تقبِّل الناس يده ويلتمسون دعاءه وبركته، أخذ يدعو أهل الضيعة إلى مأدبة الميلاد التي يعدها لهم كل عام.
وعاد الشدياق إلى فراشه واحتبى بلحافه، ووفدت أهالي الضيعة عليه. المسنون يمسونه بالخير نصف ساجدين. تنحدر أيديهم من قمم رءوسهم لتستقر على ساحات صدورهم الرحبة. والصغار ينكبُّون على يديه يقبلونهما، سيان عندهم اليمنى أو اليسرى. وجلس الناس سطورًا سطورًا حوله وبين يديه، وطغت على البيت رائحة منبعثة من مصابيح الزيت المطفأة فأخذ بخناق الشيخ سعال ديكي، ولو لم يسرع أحدهم إلى فتح الأبواب لكان فطس وذهب مأسوفًا على شبابه.
وساد البيت سكوت رهيب، لم يكن يسمع صوت نابس. فكأن الناس في صحراء لا أنيس فيها ولا جليس. الجميع يتطلعون إلى الشدياق بعيون مفتحة والشدياق يحرك شفتيه الراقصتين، يتمتم ولا يبين. وأخيرًا انشق فمه وخرجت منه هذه الكلمات: هذه ليلة مباركة يا إخوتي، فيها ولد سيدنا يسوع المسيح بمذود البقر ليعلمنا التواضع. علينا أن نولد مثله كل سنة؛ لأنه — لاسمه السجود — قال: الذي لا يرجع إلى بطن أمه ويولد ثانية لا يستحقني. والولادة الثانية معناتها أن ينظف الإنسان نفسه وجسده حتى يعود طاهرًا نقيًّا كالمولود جديدًا.
فهزَّ الرجال رءوسهم إعجابًا، وتنهدت العجائز متأسفات على مواهب الشدياق كيف ضاعت ولم يصر كاهنًا.
أما خوري الضيعة فكان يؤمِّن بإعجاب على كل ما قاله الشدياق ويتحسر في قلبه على قيراط من مثل فصاحته النادرة، ثم يقول للذين حوله: هذا رجل قديس، المثل الصالح أبلغ واعظ، وشدياقنا طاهر نقي مثل الآباء الأبرار.
وقبل أن يتوغل الشدياق في موعظته دخل المغترب الخواجه توما فهمس بعضهم: جا، جا.
وظل سمع الشدياق صادقًا. فسأل: منو جا؟ فخبروه. والتفت الشدياق فرآه فهتف بلا شعور: بسم الأب والابن والروح القدس. هذا هو. لا ينقصه إلا الذنب.
وتقدم منه الخواجة توما بزِّيه الفرنجي الذي لم تر الضيعة مثله من قبل؛ لأنه أول من هاجر وعاد، فكاد الشدياق يتراجع لو استطاع ولكن الجدار خلفه، وسلم توما سلام الأمير كان فكاد يخلع يد الشدياق الهزيلة. لم يرق للشدياق ذلك السلام الخارج عن حظيرة الاحترام التي أقامتها القرية حول شدياقها، ولكنَّ كل شيء مر بسلام. وقعد المستر توما قعدة بلادنا، جلس على طراحة في صدر الحلقة فتضايق وكاد بنطلونه ينشق، فقام ابن عم له وبنى له مقعدًا من المساند والمخدات، والشدياق ينظر وقد غاظه خروج المساند من صفها. ولا سيما أن الخواجة توما جلس ولم يحتفِ كالآخرين. ما خلع نعليه حين داس البلاس الذي يصلي عليه الشدياق ويقبله مرات حين يسجد. وزادت في الطين بلة، حركات توما الغريبة الدار. لم تعجب الشدياق حركات توما وسكناته، وكان يجن حين يسمع منه بعض ألفاظ أميركية مثل: يِسْ، وتنكيو، وفاري كود، وغود نايت وغيرها. ولكنه احتمل ذلك وهو يتمتم: مع آلامك يا يسوع. ما صبر الشدياق هذا الصبر إلا ليسمع من المستر توم أخبارًا جديدة بلغته عنه: فقال الشدياق: تُومَاهْ، أية ساعة جئت.
– أمس الظهر يا عمي.
فأجاب الشدياق: لا تؤاخذني، ما قمت بالواجب. عذري واضح ومقبول.
– يس، يس القصد مشاهدتك. الحمد لله شاهدناك بخير.
– كيف تركت جماعتنا؟
– الجميع بخير، يسلمون عليك.
فنكزه واحد ووشوشه: قل ويقبلون أياديك الطاهرة، ففتح توما فاه ليقولها، ولكن السبق كان للشدياق الذي قال: وكيف أحوالهم الروحية والمادية.
– بألف خير صاروا شبعانين كلهم.
وسكت الشدياق وهز برأسه، وظل يحرك شفتيه، ولكنه لم يقل شيئًا.
وأشار أحدهم على توما أن يخبر الشدياق عن الموارنة ويطريهم ففعل، فقال الشدياق: ما داموا متمسكين بمارونيتهم لا خوف عليهم.
– يس، عندنا كل شيء، كنائس، مدارس، خوارنة، إذا رأيتهم حسبت أنك في لبنان.
– عال، عال.
وانقشعت الغمامة عن وجه الشدياق وأخذ يتغنى متهللًا بنشيد مار مارون الذي يعرفه كل قروي، فسانده الجمهور في تلك الرحلة الشاقة إلا توما فكان مثل الأطرش في الزفة.
وما انتهى الشدياق من نشيده حتى فتح توما فمه ليحكي، فأومأ إليه الشدياق بجمع كفه أن يمهله ليأخذ النفس. وأخيرًا قال توما: سمعتك عند وصولي تحكي عن الميلاد، آه يا عمي لو عينك تنظر هذه الليلة في النايرك، هذي عندنا في النايرك وفي أوروبا ليلة عظيمة جدًّا. أحسن الهدايا تقدم للأولاد، سي، الأغنياء يعطون الأولاد الفقراء كل شيء، المأكولات الملبوس، اللعب. آه لو عينك تنظر يا عمي، كل بيت يعمل شجرة تكلفه المبلغ المرقوم، وفي هذه الشجرة أشكال وألوان. ثم هز توم رأسه وعامت على فمه لفظة فاري كود الكرسموس في أماركا.
فقال الشدياق: إيش دين هذه الشجرة؟
– هذه شجرة الكرسموس، يعني الميلاد. يعلقون فيها الملائكة والشموع، الشريط من كل لون، علب شوكولا وبسكوت وكاتو.
فقال الشدياق متعجبًا: أسامي غريبة؟ ولأيش كل هذا؟
– إكرامًا للميلاد.
– تبارك اسم سيدنا يسوع المسيح، واصل خبره لهناك؟ إذن في البلاد التي كنت فيها ناس تعرفه مثل الموارنة.
– يس، يس … معلوم، كلهم نصارى يا عمي.
– هذا حد علمي، عال عال.
– يا ليتك تعرف كيف يتصورون الميلاد.
– هات خبرنا، ولكن قوس حنكك مرتخ. شد البراغي واحكِ.
فضحك المستر توم وقال: تعودت اللفظ الأميركاني. ثم صر بوزه قليلًا وقال: يتصورون الميلاد شيخًا كبيرًا لحيته لزناره وشواربه شبر وأكثر. يحمل على ظهره كيسًا فيه هدايا للأولاد العاقلين. فينام جميع أولاد الأميركان تلك الليلة منتظرين هدايا سانت كلوز (بابا نويل) الذي ينزل إلى البيت من المدخنة، وفي الصباح يكون تحت مخدة كل ولد منهم سكربينه جديدة، فيها ملبس ولعب، وأشياء وأشياء.
فهز الشدياق رأسه وصاح: يه، يه، يه، يه، صار الميلاد بياع سكربينات! المسيح الذي قال: من لا يدخل من الباب فهو لص وسارق، ينزل من المدخنة، ما شاء الله عن بلادكم يا ابني. كل شيء فيها ينمسخ. نعم، كل شيء … أنت، مثلًا، رحت توما ورجعت توم وتومي. وقال باستهزاء: تعرف يا مستر توم، حكاية الميلاد عندنا غير حكايته في بلادكم. اسمع يا ابني حتى أخبرك: كان في ضيعتنا خوري اسمه الخوري نصر الله. كان متزوجًا وماتت خوريته بلا أولاد. والخورية مثل الصنوبرة إذا انقلعت لا تفرخ، كما تعرف. وهذا الخوري كان من أغنياء الضيعة الكبار، وليس له إخوة حتى يأخذوا التركة. وهو في الوقت نفسه رجل تقي عمال خير، يريد أن يوزع مقتناه على المحتاجين. كان يعظ يوم أحد النسبة — أظن أن أميركا نسَّتك أحد النسبة — هو الأحد الذي قبل الميلاد — كان يعظ يوم هذا الأحد ويوصي الناس أن يكونوا أتقياء، ويسيروا بخوف الله لتحل عليهم بركة الميلاد. ثم ينتظر عتمة ليلة عيد الميلاد ليحمل كيسًا من الدراهم إلى عائلة فقيرة، ولهذا كان يقول لهم، من يعتقد أنه يستحق بركة الميلاد فليرد بابه ردًّا. وهكذا كان كل سنة يقصد بيتًا ليترك فيه الكيس لتلك العائلة. وبقي يعمل ذلك سنين. وأخيرًا عرف الناس أن الخوري هو الذي يحمل إليهم ذلك الكيس فصاروا يسلكون سلوكًا حسنًا، ويصلون إلى الله لتحل عليهم بركته مع هدية الميلاد.
هذه حكاية الميلاد عندنا لا حكاية ميلاد أميركانك الذين صيروا الطفل الإلهي لعبة أولاد. قالوا: إن أميركا فيها جنون كثير فيما صدقت لولا هذه الخبرية.
واندحر المستر توم في هذه المعركة فأراد فتح جبهة ثانية، فراح يحكي عن جورج واشنطون وتحريره أميركا.
فصاح الشدياق وكان صدره قد امتلأ غيظًا: منو هذا جرج شنتان حتى تذكره وتنسى مار مارون؟ مار مارون حررك من عبودية الطاغوت. خرفت يا توم، رجعت إلينا تلفان، ما فيك شعرة من الموارنة.
وكان الناس يعجبون بحديث المستر توم ولكنه لما احتك بالشدياق سقط من عيونهم، وقال واحد: شخص مثل الشدياق حرام يموت.
ولما تقهقر المستر ثانية في معركة الأشخاص، راح يتحدث عن الاختراعات الحديثة فقال: اليوم اخترعوا آلة تحكي وحدها. مثلًا، حديثنا الليلة، تلقطه هذه الآلة وتراجعه لنا ساعة نريد.
فلم يزد الشدياق على قوله: الدنيا فيها كذب كثير.
فاستاء توم وحلف للشدياق أنه رآها وسمعها، وكان نوى أن يحضر معه واحدة منها ولكنه جاء على عجل. ثم خبره عن الأوتوموبيل والبالون فاستولت على الشدياق الدهشة وأصابه شيء كالذهول. وفتش عن منفذ فوجده فقال: ربما أنها صحيحة وإلا فكيف صعد مار إلياس إلى السما في مركبته النارية.
وطاب للسامرين أن يتحدثوا عن الآلة المسماة بالفونوغراف والشدياق يسمع ولا يجادل، وعيون الناس شاخصة إليه، وظلوا مستغربين سكوته العميق حتى رأوه يحل حبوته ويتمدد ويصيح: ضعف الضو يا مرتا؟
ورأى الناس المصباح يزهر كما كان، ولكن مرتا رفعت الفتيلة ففاض النور، وبعد هنيهة صاح الشدياق: مرتا، الضو ضعيف يا جدي، مخِّطي السراج، صبِّي الزيت.
وجاء دور النقل وأخذ الجمهور يتلهى بأكل التين المطبَّع والزبيب واللوز والجوز. كانوا يلغون ويلغطون، والشدياق مشغول عنهم في انحلال جسده، فهو يموت عضوًا فعضوًا. وكان المستر توم يفيض في التحدث عن عجائب أمريكا والناس يصغون إليه مرتخية أفواههم.
وفي تلك الفترة قال الشدياق بصوت كأنه خارج من قعر بئر: أين الخوري؟
فاقترب منه الكاهن فقال له: أتت الساعة، صلوا جميعًا لأجلي، صلوا يا إخوتي، اغفروا لي من أجل المسيح. حلني يا محترم.
فوقف الخوري على سلاحه منتظرًا اللحظة الملائمة. واستحال البيت كنيسة، ركع الجميع يصلون ويرتلون طلبة المنازعين ليعاونوا الشدياق على رحيله من هذه الدنيا، وبصوت يكاد لا يسمع رتَّل الشدياق وعيناه مغمضتان، النشيد المريمي:
وانقسم الجمهور جوقتين مرتلين، وسكت الشدياق ولكنه ظل يحثهم بهزة الرأس:
- (١)
يهب مرتا بنت ابن أخيه بيته وما حوله من أرض وما فيه من متاع، بشرط أن تأخذ ابن عمها متى.
- (٢)
يلتمس من غبطة البطريرك أن يحقق بعد موته ما حرمه إياه من حياته فتبنى كنيسة على اسم مار مارون وقد جعل لها وقفًا ضيعة أخرى بكاملها.
- (٣)
يقف ما بقي عنده من عقار على بناء مدرسة لأحداث الضيعة، ومن ريعها يدفع راتب المعلم ليدرسهم السريانية والعربية.
وأصبح الناس والشمس مكسوفة والضيعة في عتمة، فارتفع الشدياق عندهم إلى مرتبة الطوباويين. وفيما هم يأكلون مأدبة الميلاد التي أعدها لهم الشدياق قال واحد، والكلام يزاحم الطعام: بعدما رحت، فطلعت صوب بيت الشدياق فرأيت الملائكة طالعين نازلين من البيت.
وقال جاره: وأنا رأيت كوكبًا طلع من البيت وحلق ثم اختفى خلف الجبل.
وقالت امرأة: طول الليل ونحن نسمع أغاني وتراتيل وصنوج ونواقيس تدق في بيت الشدياق.
وقال الخوري: الشدياق قديس لا شك فيه، فالشمس كسفت مرتين مثل هذا الكسوف: مرة يوم موت سيدنا يسوع المسيح، ومرة اليوم، هنيئًا لنا صار عندنا قديس، وهو وحده يغل لنا ويدر علينا أكثر من ألف وقف.