عيد الصليب من عين كفاع
جبل جاج أقرع، قاعد بوجهنا ككبير أناس امرئ القيس. بجاده رمادي مجعد، وفي وجهه نكت كأنها البثور التي تأتي الوجوه على الهرم. تلك فضلة أرز تشهد لنا عند الدهر على (أصدقائنا) الذين يأخذون منا جزية المحبة. بل بقية كأس شربناه منذ كانت الألوهة فينا والمعبود منا. وإلينا ابن التي كانت لأورويا فكان أطمع من أبيه. حلق الرءوس ونعم، وصار الحالق عريسًا والهيكل مضجعًا لحبيبته الجميلة بالحذاء، إن (يهوه) كان في كل عهد حجل صيد، وبيته ستارة.
سامحك الله يا حيرام.
يظهر جبل جاج من عين كفاع كحنية مذبح سقط عقدها فعوضها الله منه قبته الزرقاء. تتدرج إليه الذرى كالكاهن إلى مذبح ربه، فما أجمله والغروب يلفه بعباءته كما اشتهى الزاجل اللبناني أن تفعل به حبيبته.
تلوح في الأمد الأبعد قرنة جفرون فتخالها منبر واعظ بليغ لا يفلق الناس كلامه المعاد، ولا تمل العين حديثه الصامت، وإذا لاحت عليها نار الرعاة حسبته منارة بحر الظلمات.
يؤثر بي جدًّا منظر الغروب ولا سيما بعد ما مال النهار. وها أنا أرسمه لك من خلف تاركًا لغيري وصفه من قدام، فإذا احتضرت الشمس خلت جبل جاج جمرًا مكسورة حدته، حتى إذا فارقت الشمس المريضة رمد رويدًا رويدًا، وازرق من خلفه الأفق الأغبر، ثم تشتد الزرقة وتسود إذا طالت غيبة القمر. فلو شهد فولتير غروبنا العجيب لنساه ذاك الشروق الذي انخلع عقله حين شاهده.
ولجبل جاج منظر نهاري أريد أن تعرفه. إن اتزرت سماؤنا حلقت الشمس فوق الغيم وضربته فيلوح كسبيكة فضة خارجة من تحت يد الصائغ، فالشمس عندنا تفضض لا تذهب.
وإذا استقبلت عند الدغيشة ملعب أدونيس ومرتع الزهرة — جبل الفتوح — تراءت لك سنديانة أغبة الوحيدة، الواقفة في الرقيع بين عاليه وعين الكفاع، كأنها شبح أحد الأجداد الذين عمروا هذا الجبل، وإذا أشملت نظرك رأيت البحر كشقة كرمسوت تلبق بعشاق البرفير والأرجوان.
كثيرًا ما يصعد الدخان عند أقدام السيد المتكئ فنحسب الناس يبخرون ضيفهم الدائم، ويستنير الأفق قبل وصول راعي النجوم فتخال نارًا توقد خلف جبل (القرين) وتوشك أن تحرق شعور بنيات الجبل، ثم تتسع قنطرة النور وتبدو صلعة ملك الليل كرقيب يتسرق من وراء جدار، حتى إذا قارب قرصه الثلثين خلته قاووق جدي الخوري لو كان طوبه البابا وصوره داود القرن.
وإذا علا القمر ذراعًا تأخذ الظلال في الهرب من وجهه واحدًا خلف واحد، كعذارى لبنان القرويات من وجوه الزائرين. ظلال تمثل للشاعر دنيا لا يحلم بها إلا من كان كشاعر بنت الرقمتين يرى بعينيها وترى بعينه، وإذا علا القمر قامتين اشتد البهق وتوارت الأشباح في الكهوف، واختفت في الأودية هاربة من وجه الفاتح، وتجلت كنيسة بجه تحت برقع النور كأنها قلعة فقرا.
أما وادينا الرهيب فيظل متمردًا ولو استوى الملك على العرش، فهو خارجي كابن الزبير لا يبايع ولو صلبوه. ضيقت جباله علينا، ولكنها أرتنا الشمس على ضربة حجر منا، فظننا يوم كنا نحلم أن ملكوت الله لنا وحدنا، إننا ندركها بيدنا إذا استوينا على قمة (الشباع).
وإذا ترطب الهواء الغربي ظهر جبل معاد قرب الفجر الكاذب ككاهن مربوع عريض الكفل يلبس درعًا من القطن المندوف مشرشر الأطراف.
هذا مشهد أراه كلما اكتمل القمر. أما المشهد الذي أراه في العام مرة فهو ليلة عيد الصليب.
أقف ليلة العيد قرب الغروب فيطير عقلي من رنين الأجراس المتجاوبة حولي في أودية ومغاور وهوى وآبار عين كفاع. وأسمع ما لو سمعه بولس حين رجع غانمًا من السماء، لما قال: لم تسمع به أذن ولم تره عين. فهذا يتحقق عندنا ليلة ١٤ أيلول.
التفت صوب الشرق فرأيت نور الشمس يزنر الجبل، كأنه يشد حقويه كبطرس، وإن لم يذهب به حيث يشاء كما أنذره معلمه، وصعدت نظري إلى قرنة حفرون الناتئة كعرف الديك، فخلت يسوع والشيطان واقفين عليها يتعاتبان. يذكره إبليس بفرصة ضيعها، ويعرض عليه الدنيا مرة أخرى، فعجبت واعجب معي أنت لشيطان يعرضها على ربه! وإن قلت لكاهن هذا يدور بك حول (الطبيعة الإنسانية) حتى تدوخ، وإذا قلت شيئًا آخر قال لك (بحسبما هو إله) وهكذا تكون دائمًا بين نارين مع (المحامين) عن الله، وهم كالهر لا يقع إلا واقفًا، فارمه كيف شئت.
وكأنني رأيت الجدال انتهى بقول عدو البشر للمخلص: هذه شواربي احشها إن ظهرت لهم ولم تأكلها، ولكن السيد تغلب أيضًا على جبل جاج ولم يدخل في التجارب، وإن لم يتجرأ على الظهور فهو يعرف ما عنده ويحب السترة.
أخذتني هذه الأفكار حتى بدت أنوار العيد، فصعدت إلى (قبة الوادي) ودقت أجراس الجوار، فحسبت داود قام وهو يرقص ويرتل للتواب الرحيم، وعينه على أوريا أخرى، لا تستبعد حديثي، فمن عين كفاع أسمع ثلاثين جرسًا وأكثر تدق كلها في تلك الساعة، فتصور كيف تكون؟ ثم علت التهاليل على القمم، فخلت كهان الكنائس المتهدمة نفضوا غبار القبر وتجمعوا على الذرى يصرخون مع الصارخين: محبة بالمسيح كيرياليسون.
وبين تهاليل الفتيان وهتاف الصبيان وتسبيح الكهول والشيوخ، تندلق ألسنة النيران من رءوس وأحشاء الجبال، كأنها ألسنة أفاعي الشك، ثم يتعالى الدخان كسلم يعقوب المشهور فتقول: هذه ساعة القيامة والدنيا تحترق، كما زعموا، وتحسد المستعدين، وهكذا تستحيل بقعتنا معبدًا منيرًا، فتغبر الفقاقيع الغائمة على كأس الفضاء الذي يشكل عندنا كأس شمبانيا. وإذا جاز القاطع والمانع في التشبيه كما يحلو في المنطق قلت: محيطنا كقشرة بيضة — كبر ما شئت — نصفها من الغبراء، والنصف الآخر من السماء.
تخيل أنت ما تشاء، أما أنا فأصف ما أرى، وإذا لم تصدقني فشرفنا بزيارة.
لاحت لي طغمات الوقيد على رأس جبل (بوشال) كصفوف عسكر في الجبهة؛ لا تضمحل فرقة حتى تتقدم أخرى، والدخان ينعقد فوقها كليل بشار، ولكنها حرب بلا رماح ولا سيوف. فالكواكب لا تتهاوى.
تحلق الأنوار على الجبال، كأنها جراحات السيد تفتحت على التلال لتغرق الكتبة والفريسيين بطوفان أحمر، أو كأن للجبال عيونًا محمرة تتفتح على الأمة الجريحة، ثم تنطبق خوفًا من جلال المشهد. وتسمع خشخشة الهشيم المحترق، كأنها فحيح الثلابين، وكل هذه الأصوات تتحد لتصير صوتًا واحدًا يهتف مع المعيدين: محبة بالمسيح كيرياليسون.
إنهم يكرمون المسيح باللهيب ويسوع كان لهيبًا حقًّا، كما قال الشاعر السرياني في بيلاطس ومحكمته: قامت القشة على الكرسي حتى تدين اللهيب.
إن نار تلك الخشبة ستظل متقدة ما دامت الإنسانية في حاجة إلى نار ونور، فمن للمقهورين غير الناصري الشهيد، فهو إمام المجاهدين، ومن يقتد به لا ييأس. فسلام عليك يوم ولدت، ويوم تموت، ويوم تبعث حيًّا.
أهلًا بك يا سيد، ولكنك طولت الغيبة. عجل عجل.
لو ترى محبة بالمسيح كيرياليسون تطير عن رءوس الجبال كالعقبان وتتصاعد من الأودية كاليمام، لهتفت معهم: هاللويا كيرياليسون. فما أعظم هذا الضعيف وما أسعده، ولئن طرد من القصور فهو سيد الأكواخ ولا يذهب من مخيلة الشعراء.
عظيم هو هذا المصلوب. يدفئ أنفاسنا ميلاده، وتفرح معنا الأرض بقيامته، ونودع الصيف بمهرجان صليبه.
إن جبال بلادي أبهج منظرًا، وأعطر روائح من جبال الأرز كما قلت يا رينان. فلو تراها ليلة هذه المحرقة البريئة لقلت أكثر، ولو رأيت محبة الناس ليسوع ليلتها لتيَّمك حبه.
يخزي الله من يكفرك، ولكن الذي كان في أورشليم كالدجاجة الغريبة صار عندنا أغرب.
حللت يا يسوع محل ابن عمنا العاشق، وإلهنا الولهان الطماح، فأهلًا وسهلًا ومرحبًا.
علمتنا: أعطنا خبزنا كفاف يومنا فهات خبزًا.
إننا ننسى ليلة عيد صليبك أوجاعنا، ونصدق من خبروا أنك حملتها عنا، ولكن صباحنا أسود. إن خيراتنا بين أيدي هؤلاء المهللين ليلة عيدك، والمتوجين في صباحه، والمعجن عدو الرغيف.
أعطينا ما لقيصر لقيصر، وما لله لله، فأصبحنا على الأرض البيضاء، فهل عندك تعليم جديد تبلونا به لنؤجر؟
البشرية كلها علينا، والدينار الذي رأيته في القدس نام مثلك في الحبس. قلت: لا تعبدوا الربين فتركناه وتبعناك، فانظر ماذا تعمل لنا، هات ما عندك يا يسوع فالاتكال عليك.
هل من هرقل يخلصك من أكاسرة اليوم؛ لنعيد لك عيدًا جديدًا؟ هل من هيلانة تنجيك من الرطوبة التي ألبستك قميصًا من الزنجار، أنا والله خائف عليك من الاستسقاء.
سلام أيها القروي، والمجد لك يا ابن الضيعة.
(نوِّروا) يا مساكين، نوَّر الله عقول رعاتكم، إن بساط الصيف واسع، أما الشتاء فطوبى لمن يقطعه. إنه يعيش عمرًا جديدًا. تعللوا بقول معلمكم: من يصبر إلى المنتهى يخلص.
عظموا الخشبة بعد ثلاثة عشر قرنًا، واسألوا الله أن لا تسوِّس.
وقرب نصف الليل انتهى الفيلم، فقعدت منهوكًا كمن قطع عشرين واديًا، وهبط ربعي عن التلال، وجرى حديث عن الرب يسوع سأنقله إليك فلا تلج بحياة ربك، وإذا عذرتني كما عذر جارته بنت المجدل فربحت سعادة الدارين، نعمت وإياك هناك بجيرة ذات النورين، ليت لي ولك ربع حظها.