عن المونوبول والغلاء
بلغت بي السيارة كوع غلبون، فطرحت الصوت على الضيعة، والصوت تلفون القرى، فجاءني المكاري بدابة آية في الدواب، وما ركبتها حتى أخذت في التحويل الصاعد والنازل فخلت جزيرة تزحل. بانت أذناها على الضهر، وظل ذنبها في النهر. ولم أعد أدري إلى أي القطبين أنا أقرب.
اعلم علم اليقين أن من ذم زاملة المكاري، فكأنه قدح في عرضه، ومع ذلك لم أحتشم منه فقلت: يا سبحان الخالق، من أين لك هذه العروس، ومن هداك إليها!
فضحك وقال: الغلا جلاب. قلت: حقًّا إنها عجيبة. فامتعض وقال: البرهان أنها شغلتك عنا فما قلت كيف حالكم. قلت: خف ربك يا رجل، وهلتني دابتك، كيف حالكم جميعًا، كيف الضيعة من كعبها إلى رأسها؟ فقال: بخير تسأل خاطرك. قلت: والأحوال؟ قال: لا تسأل، الأحوال أوحال. سنة ضيقة.
قلت: لا خوف عليكم، الزيت غال جدًّا، فقال: وأين الزيت! بعناه في المعصرة، بأربعين وخمسة وأربعين، ورأس السعر كان خمسين. قلت: الدخان يسد العوز، اضحكوا في عبكم.
فملأ الوادي دعاء للشركة، وإذ لم يجد من يستبد به ضرب الدابة بعصا لسعني رأسها فخلتها عصا موسى تستحيل ثعبانًا عند ذكر فرعون، وأثنيت من أجلها على طول الأتان الذي استبشعته. واشتد إيماني بلا تكرهوا شيئًا.
ودخلنا الضيعة مع الدغيشة، فجاءت الوفود للسلام، وطالت سهرتنا كليالي كانون. كنا فرحين (بالطريق) لو لم يأتنا من جبيل نبأ غلاء الطحين، فاسودت الوجوه وقال شيخ المتكئين: لولا غلاء الحبة كنا بألف خير، يظهر أن ربنا لا يكملها.
كان عهدي بالضيعة فرحة مرحة، إنجيلية لا تهتم للغد فإذا بوجوه الناس كابية، وابتساماتهم مغبرة؛ وقلوبهم بلا رجاء. كلهم متشائمون خائفون، لا نكت ولا نوادر. ذهبت ليالينا الكشكشية، ننتظر نكتة فنسمع آهة. وبعد صمت غير قليل قال أحدهم: كيف نعيش السنة، ما بقي غير الدخان ويا ليته لنا، تسلفنا عليه من هذا وهذاك، ومن يعلم متى تستلمه الشركة منا، وكيف تسعره؟
فأجاب آخر: استلمت عام أول في تشرين وتستلم السنة في شباط، والسنة القادمة في نوار، وبعد ثلاث أربع سنين تتركه في ذقوننا إن لم توقفها الحكومة عند حدها.
فقلت له: وكيف الأسعار؟ فأجاب: كيف يعيش الفلاح مع غلاء الطحين وسقوط الليرة والدخان!
قلت: سمعت أنهم زادوا السعر ٢٥ بالمائة، فقال: عندهم ألف باب يخلصهم من الزيادة، وما عندنا باب واحد يخلصنا من شرهم. ما نظرت بعينك حرق الدخان في الصيف؟
فتأفف أحد المؤمنين بالقيامة العتيدة وقال: هذا آخر زمان. فاحتد آخر وقال: كيف العمل يا بشر، أيش ينفعنا الكلام في القرنة؟ فأجاب أبو طنوس، العمل عند الله، والأمل بسعي سيدنا البطرك.
فأحب أن يداعبه شاب قاعد لصقه فقال له: خبرونا أن البطرك لان، وسكت.
فتعالى أبو طنوس إذ ذاك ولكش الشاب لكشة أزخم من الأولى وقال له: سمعت بأذنك يا ذكي. ثم هز برأسه والتفت إلينا قائلًا كأنه يوبخنا جميعًا: العوذ بالله، يجينا كل قبز لسانه يلحس قفاه، ويتطاول على الأوادم في بيوت الناس ولا نقول له كلمة. وتقلقل كمن يريد الخروج فاسترضيناه، ولا تسألني كيف، فللرضا عندنا تقاليد كثيرًا ما تغسل الدم.
ثم عدنا إلى حديثنا فسألتهم عن جمعية مزارعي الدخان، فأثنوا عليها جدًّا، وخبروني أنها قابلت الرئيس ووعدها خيرًا، فقال متشائم: الحكومة ملتهية بالاستقلال، والترتيب الجديد. فرد عليه أحدهم: أنت لا يعجبك شيء، النقلة من البيدر إلى البيت تكلفك جمعة، ومع هذا تلوم الحكومة إذا تأخرت ساعة.
فانتفض كهل عتل — نسيب أبي طنوس — وقال: يا الله، الليلة قصتكم عجيبة يا جماعة، هذا يقول: البطرك لان، وهذاك الحكومة ملتهية بالاستقلال. صح فينا قول المثل: القلة تورث النقار. نعم الاستقلال قبل الخبز، غيرنا خسر المال والرجال، ونحن أخذناه على الهينة. مَن مِن لبنان يقف وقفة أده، الله يعطيه ستين ألف عافية، ويطول عمره ما دامت الدنيا دنيا.
فأعجبت نخوة كهلنا الجمهور، فاهتز بعد خمول، ونسي الغلاء ورعبه، وصفق بعض التلاميذ لكلامه كأنهم في المدرسة. فالتفت أبو يوسف يمينًا وشمالًا مستغربًا وقال للأولاد: عندنا عرس! استحوا، أمس مات الشيخ، كفنه ما تلوث بعد.
وانثنى يسأل جاره عن التصفيق فخبره، فسرَّ، وحاول أن يتكلم فسبقه أحدهم وقال: اصبروا يا ناس، الله يساعد الريس عنده ألف مسألة أهم من مسألتكم. وأيده جاره بقوله: أي نعم مص القصب عقدة عقدة.
وتركوا الكلام لأبي يوسف فقال: سمعت من كثيرين أن ريسنا ممتاز، يحب الفلاح، لا بد من الفرج في أيامه، اصبروا لا تكونوا لجوجين. ثم نظر إليَّ وقال: خبره يا خال عن الحالة كما هي، ولا تنس غلاء الطحين، لو بعنا أقة الدخان بورقتين — ليرتين — وبقي سعر الطحين على حاله ما ترقينا شيئًا. الفلاح تهمه الحبة، ومتى وجدها وجد كل شيء، وإذا بقي الغلاء اشتهينا العضة بالرغيف.
فقال له أحد المعلمين وهو يومئ إليَّ: ما باله فينا يا خال، باله بأحمد فارس.
فحرك أبو يوسف يده في وجه جاره وسأله: منو أحمد فارس؟ فما فاز بجواب. وأخذ الأستاذ يخبر عن تصريحات الرئيس وما ينوي عمله من مشاريع عمرانية حتى كان الكلام عن الري وجر المياه، فقال أبو طنوس: نحن لا نحتاج جر نهور، نحتاج جرة قلم تقصف عمر الغول؛ يعني الاحتكار.
فقال آخر: حسب الرئيس كل بلادنا مثل جبيل والبترون، فلو زارنا ووقعت عينه علينا رق قلبه لنا وكش الشركة من لبنان كله.
ودخل في تلك الساعة نسيبنا يوسف مراسل الشركة، فتصافحنا وقعد، وكأنه لم يعجبه (كش الشركة من لبنان كله)، فأخذ يبين منافعها للزراع، ويقابل بين أمس واليوم بإيمان وطيد. وأفاض في تمجيد أعمال الشركة ونفعها كأنه خوري عتيق يعدد عجائب العذراء في الشهر المريمي. ثم وجه كلامه إلى أبي يوسف وقال له: يا خال، بذمتك بدينك بحياة أولادك، قل لي: أي أحسن، احتكار غالان، أم احتكار الحواط وملكان؟
فأطرق أبو يوسف وانتظرنا الجواب، فإذا به يقول: الفلاح في الحالتين مقهور، ولكن الحرية حلوة، وحرق الرزق قبالة العين من يطيقه.
فقال كهلنا: سمعتم يا ذوات، عرفتم قيمة الاستقلال.
وخفت أن يتطور الحديث فقطعته مسائلًا عن الجمعية، فقال واحد: الجمعية لسان حالنا كلنا، تقضي وتمضي عنا، ونحن نؤيدها بكل قدرتنا. قلت: من منكم موظف فيها، فقال: طلبوا المختار فما رضي.
فالتفت بأحدهم، فأجابني: لا تتعجب، مأمور يخاف على الوظيفة، ومثله ابن عمنا عضو الاختيارية. ولكن هذا لا يهمنا، المهم العمل، قريبًا تقدم الجمعية بيانًا طويلًا عريضًا، للحكومة والأمل بالله.
وانتقلنا إلى شئون أخرى، وبت أترقب الساعة التي تجمعني برئيس الجمعية أو نائب رئيسها، لعلي أصور الزراع للرئيس كما هم، فهم يرون فيه (المسيح الآتي ولا ينتظرون آخر) وحسبنا الآن أن نحددهم له تحديدًا قاطعًا مانعًا كما يقول المناطقة: الزراع أو القرويون، أو الفلاحون، هم وحدهم الذين يخاطبون ربهم بإيمان وطيد: أعطنا خبزنا كفاف يومنا، أحلال أن يؤخذ الرغيف من أيديهم؟