رسالة شقت طريقًا وبنت جسرًا
كنت في دار المكشوف أمعن مع الشيخ فؤاد حبيش في الأحماض، يوم تلفنت للمغفور له السيد عبد الحميد كرامي في سوق الغرب، أسأله إذا كانت زيارته ممكنة. فأجاب — رحمة الله عليه: أهلًا وسهلًا إذا كانت زيارة غير أشغال. أما إذا كانت من أجل الطريق — طريق عين كفاع دير مار يوسف — فنصيحتي لك أن تبقي (العرايض) معك يومين ثلاثة، وبعدها نرى.
وفي اليوم الثالث استقال، وساعتئذ أدركت معنى ذاك التأجيل.
وألف الوزارة سامي بك، فقلت في نفسي: ما الحيلة وأنا لا أعرفه إلا معرفة وجه. لا دالة لي عليه، فإلى من نلتجي؟
وبعد تفكير غير طويل قلت في نفسي: التجي يا صبي إلى نفسك، ما حك جلدك مثل ظفرك. أما دلتك سيماء سامي بك على طواياه؟ ألا يقرأ المكتوب من عنوانه؟ أما عرفت أن روح هذا الرجل في كفه؟ وهو مستعد — في كل ساعة — أن يهبها لاثنين: الأفضال والنضال.
وإذا لم يكن لديك شفيع غير قلمك وحق القرى في الحياة فهذا يكفيك. أما سمعت أن سامي بك هو أبو المشاريع العمرانية، وأنه إذا بان له حق لا ينام حتى يقره. أنسيت قول الشاعر: إن تطلبوا الحق نعطي الحق صاحبه. هذا لسان حال كل رجل دولة نزيه كسامي بك.
ورحت إذ ذاك أفكر كيف أداور أمري، فقالت لي النفس: الحقيقة وحدها يجب أن تقال لرجل كهذا لا يحب إلا الصراحة. في يدك ثلاثون عريضة من ثلاثين قرية أهلها يستصرخون الحكومة طالبين شق طريق فيها لهم ولغيرهم حياة، فأقدم ولا تردد. وأخيرًا أقدمت مستعينًا بالحبر والورق الذي خذلني في مواقف عديدة حتى اتخذته — مؤخرًا — عنوانًا عامًّا لما أكتب.
وقعدت أكتب رسالة لسامي بك مستلهمًا وجهه المنير وابتسامته التي تضيء وجهه ووجوه من في حضرته، وبدأت أبجل وأعظم.
وبعد هنيهة قرأت ما كتبت فإذا به مبتذل، حبر على ورق. فقلت: أبهذه الثرثرة يواجه الرجل الحر؟ أهذا كلام يدر؟ هذا كلام يسمعه أولياء الأمور كل يوم متأففين متضجرين، وحبر على ورق لا يخرج من الظرف إلا لينام في سلة المهملات، فإن كان ما لا بد منه، فغيِّره.
سيدي صاحب الدولة الأفخم
العصر — يا مولاي — عصر هرولة واستعجال، فاسمح لي أن أهنئك بسرعة وأخاطبك بسرعة.
يعتقد غيري بخيرات المقابلات الجزيلة، أما أنا فبالعكس، فإذا أردت أن تصغي، فالمكتوب خير من المسموع وأبقى. وإلا فإني أضن بوقتك ووقتي. أضن بوقتك الثمين وتضييعه في الإصغاء إلى وكيل مسخر عن منطقة منسية لا يعرفها إلا الجباة، ولا يرتادها إلا المرشحون، قبل ساعة الانتخاب بأيام، وهب أن المقابلة كانت فعمَّ تنجلي تلك الغمرة؟ نفتش كلانا عن عبارة يجمل بها الحديث، أبخرك وتشكرني، وأنصرف من عندك لكي أتبجح في كل محضر: قابلت دولة سامي بك، ما شالله، رجل لطيف جدًّا، متواضع كأنه ليس رئيس دولة.
عفوًا. والوعود يا مولاي، كيف ننساها وهي بيت القصيد؟ تعدني أنت وعدًا أجعله أنا حكمًا مبرمًا، فيتصاعد الدعاء من أفواه الآملين. إن الثناء حاصل في كل حال يا سيدي، فنحن قوم تعودنا أن نكون دائمًا مع (الواقف) أما من يقعد، فيقعد وحده، إننا نقوم مع القائمين، ولا نركع مع الراكعين.
إن الثناء على السلف واجب، فكل من استوزر — وأنت منهم — لم يترك شيئًا من جهده. وأنا من المؤمنين بقول المثل: الحرب بالنظارات هينة. لذلك أراني أوسع على أولياء الأمور وأعذرهم؛ لأن أعباء السياسة تنوء بها الجبال — وخصوصًا في عهد القنابل — فكيف بأكتاف الرجال.
فلهذا، إننا نطلب لك من الله المعونة لترضي، (أولًا وآخرًا) أربعة وخمسين رجلًا، فتبقى في كرسي الحكم زمنًا تستطيع به القيام بعمل جليل.
الورق قليل جدًّا، ولا فسحة للكلام والإكثار منه، فلنوجز: ليس لنا في هيكل الحكومة شفيع، فنفوز بشيء عند (التوزيع) ومال الدولة كمال الصدقات يؤتى على حبه، ذوي القربى واليتامى، والمساكين، وابن السبيل، والقرويون عمومًا، ونحن خصوصًا — يا سيد — أبناء سبيل بكل ما في الكلمة من معنى. إن القرية متروكة على الله، ومشاغل الله جل جلاله أكثر من مشاغل النواب الكرام.
إن كل وكد من يقتسمون أموال الطرقات، في طرق بيوتهم وبيوت أنصارهم، وما بقي فلطرق مناطق الاصطياف. ونحن لو يعلمون (مصيِّفون) في قرانا، ولسنا نبلغها إلا بشق النفس، وعلى ظهور الحمير، والحمير مهدودة القوى في أيامنا هذه.
وإذا ركبنا سيارة دفعنا (أم الخمسين) فدى لعيني الأربعة والخمسين، عن بضعة عشر كيلومترًا، وهيهات أن نبلغ بيوتنا سالمين من العطب.
هذه حال طرقاتنا حيث توجد، أما ما نشرب فمن مياه الشتاء المجموع في الآبار والصهاريج، وأغلبه ملوث، فتفشو بيننا (الدورية) في أيلول وتشرين، والكينا عزيزة نادرة.
أما العلم فأخو الطرقات والمياه. مدارس — إذا وجدت — خير من تعليمها الجهل المطبق. كان أحد العلماء نوى أن يزورني لغرض أدبي، فلما درى بما دون بيتي من أهوال، تغلبت مخاوف الطريق على لذته الأدبية والعلمية، فنسي ما حلم برؤيته من آثار.
قرأت تصريحًا لك قلت فيه: إن الله خلق الكون في ستة أيام، فما قولك في أرض تكون كما تركها الله في اليوم السادس، لولا بقية آثار فيها؟ فقرى بلاد جبيل أصلح مكان لاختبار علماء الجيولوجيا؛ لأن طبقات الأرض فيها كما كانت بعد الطوفان.
صرحت أنك ستعتني بالقرية، فحسنًا تصنع. وسمعت أنك ستزورها فأحسن وأحسن تصنع. فما راءٍ كمن سمعا.
فحال دولتنا كسيدة تلبس (روبًا) مزركشًا، فوق ثياب ممزقة بالية، أو أننا كبائعي البندورة، خير بضاعتنا على وجه (السحَّارة) أما ما تحت ذلك فخبص في خبص.
الخلاصة أننا نستغيث بك، نريد طرقات، ومياهًا، ومدارس لمنطقتنا المحرومة، وهذا آخر حجر نضربه في (الجوزة).
إننا نرجو من نوابنا الكرام أن يمهلوا الحكومات، رحمة بنا نحن الذين انتخبناهم، ريثما تسخن الكرسي تحتهم، فلا نكاد نخابر حكومة حتى تنقلب، فنعيد الأمر كما بدأناه.
وفي الختام تفضلوا — يا صاحب الدولة — بقبول احترام المعجب بمواهبكم والمقدر علمكم وعبقريتكم، وإننا نشكركم سلفًا وإن قال المثل: ما شكر السوق إلا من ربح.
وحرصًا على بقاء هذه الرسالة سالمة من كل مبتذل، أتبعتها بقصاصة كتبت فيها:
أضم إلى رسالتي هذه ثلاثين عريضة موقعة من ثلاثين قرية، وهؤلاء جميعًا يلتمسون شق طريق عين كفاع–دير مار يوسف، فهذه العقبة إذا ذللت، لا يضطرون إلى اللف والدوران وإضاعة وقتهم، وإن كان من حطب لا من ذهب.
ونظمت تلك الأوراق وأدرجتها في ظرف يسعها وأرسلتها مضمونة. قال الكثيرون: ما أقل عقلك، الغرض على قد المرسال. رح أنت.
وبعد أيام رحت أنا، وكان مدير النافعة محمد بك رعد، فتأهل وقال: سيدنا سامي بك قال لي: أسرع، عجل، ضع ٥٠ ألف ليرة لطريق عين كفاع–دير مار يوسف. نحن في عصر السرعة كما قال، فلا يكون هو أسرع منا. اقرأ هذا المكتوب وأعده إليَّ، مكتوب ظريف نازك، يستأهل أكثر من خمسين ألف ليرة تدفع لإغاثة بلاد.
وهكذا عدت مظفرًا من السراي أردد قول أبي فراس:
وهذه المرة كان الحبر والورق أغلى من الألماس مئات المرات، صادف أرضًا طيبة فأغل أيما غلة.
أما الطريق فشقت الخمسون ألف ليرة قسمًا منها، وبنت جسرًا حال دون النهر وأرواح العباد، ولكنها لا تزال حيث تركها سامي بك. لست أذكره بها لأن الكريم لا يهز، والفاروق عمر بن الخطاب لم يذكره أحد بتلك الأرملة.
كم كنت أسمع الناس يقولون حين تقف بهم السيارة عند منتهى الطريق ويشمرون للمشي: الله يرد أيامك يا سامي بك. وأنا أقول معهم: الله يطول عمر هذا الصاروخ الذي يحق له كلما ولي الأحكام، أن يردد قول الحجاج بن يوسف: لا أهم إلا أمضيت، ولا أخلق إلا فريت، ولا أعد إلا وفيت.