صباحيَّة
استقل عيد الميلاد بكل ما يتعلل به القلب الإنساني من رموز سامية وأمل بعالم أصلح وحسبك هذه الكلمة: المجد لله في العلاء، وعلى الأرض السلام، والرجاء الصالح لبني البشر. لم يدع لعيد رأس السنة شيئًا من المعاني الإلهية، فكان عيد السماء وظل عيد رأس السنة عيد الأرض؛ ولذلك خلا هذا العيد من المعاني التي تربط الأرض بالسماء.
لقد أمسى من تقويم الدهر، كهنيهة يتنفس فيها المسافر الصعداء، ثم يستأنف الخبط في بيداء الأمل. يلتفت المرء في هذه الوقفة، إلى الوراء فيمتلئ قلبه مرارة إن كان خاب، ويزود سنته بالكلمة المشهورة: تذكر ولا تعاد. وإن كانت سنة خير وبركة تلهف على واحدة مثلها تقبر الفقر.
الخائب في هذا اليوم يرجو ظفرًا عتيدًا، والمفلح يتمنى مزيدًا، ولولا هذا الرجاء لخلا هذا العيد من كل معنى.
إني أرى الناس فيه سواسية، فالشيوخ المطلون على هاوية الأبدية، وأصحاب الرؤى والأحلام من الفتيان والفتيات يلتقيان جميعًا عند عتبة رأس السنة. كلهم يتقبلون التهنئات بحرارة وابتسام. لا شك في أن ابتسامة الشيخ رخوة، ولكنها ابتسامة في كل حال.
وعلى ماذا يهنأ الشيخ؟ ألأنه ماض لسبيله غدًا أو بعد غد؟ ولكن لا. الشيخ يرجو عمر لبيد، وعلى الأقل عمر لبيد الذي سئم الحياة وطولها وسؤال الناس كيف لبيد؟ فليأمل. ليس عند الله أمر عسير.
هذا سر الحياة، وهذا لغزها المعقد المقعد، وكلما طول الحبل طاب للجواد المرعى.
أصبح هذا اليوم محطة لإذاعة التمنيات، فلا تسل عما يتبادله فيه الناس من هدايا طريفة، وما تهدر فيه من ثروات على الموائد الخضراء، أما الفقير فحصته ألم وحنق وسب الدهر. كشف البخت في كل مكان، في كل بيت، يستخبرون الورق، فيضيعون ما عندهم في سبيل استكشاف ما تضمره لهم الأيام، ومتى كانت الأيام تكشف ضميرها للناس، إن كان لها ضمير.
هذا حديث رأس السنة العام، أما الخاص فهو ذكريات عن شيخي. كان لجدي في ليلة هذا العيد رأي غير رأي الناس. كان يجلس متربصًا عن يمين الموقد، كعادته كل ليلة وعصاه حده، فيذكرني قول زهير: وألقوا عصي الحاضر المتخيم. أجل لقد ألقى جدي عصاه، وقعد في قاعة الانتظار، يقضي السهرة وشفتاه ترقصان الهوينا، قد تفلت من بينهما ألفاظ ولكنها لا تفهم، يولي ظهره السامرين كأنه لا يعرف أحدًا منهم، وكلهم أولاده وأحفاده وأنسباؤه.
القيامة قائمة حواليه، لعب ورق يتفاءل به الغالب، ويتشاءم المغلوب. كلاهما يخال أن هذا اللعب جد، وعليه يتوقف نحس عامه وسعده، فكأنما سر الغيب يكمن في نقاط الورق وتزاويقه. يحتال كل منهم على الفوز، ويتوسل له بالحيلة والغش، زاعمًا أنه إذا غلب استولى على أمد الحظ، وواكبه التوفيق والإقبال في سنته الجديدة.
وتدار على الناس أكلة ليلة العيد التقليدية: القمح المسلوق، المخلوط بالجوز واللوز، وما يتبعه من نقل فلا يأكل جدي إلا نقرة، فأخاله من تلك الطيور القواطع التي طالما شبه لي بها الناس في طريقهم إلى دنيا الأبدية.
وينام جدي، وأنام أنا، والجمهور لا يزال في صخبه، لا أعرف ماذا كان يحلم ابن تسع وثمانين بمناسبة هذه الذكرى. أما أنا فمهما نسيت فلا أنسى أنني كنت أحلم بالصباحيات: بالسكربينة الجديدة، بالقنباز المقلم، بالزنار الحريري، بالطربوش الأحمر العزيزي، بمجاني الأدب الذي وعدني به ابن عمتي الخوري، بالساعة التي قال خالي الخوري أنه يرسلها من القدس.
إن هذه الصباحيات تافهة بالنسبة لصباحية جدي. كانت (صباحيتي) أولًا، ريالًا مجيديًّا ثم أخذت تكبر معي حتى جعلها أخيرًا ليرة ذهبية.
كنت ووالدي مع هذا الدينار على طرفي نقيض، تعجبني أنا طلعته ورنته، وتعجبه هو قيمته. أما ضمن حق قنطار طحين. فيظل الدينار في حوزتي حتى الظهر، ثم يزج في سجنه الموقت. أما لداتي فكانوا يتسابقون على (تصبيح) ذويهم، والضربة في (الصباحية) لمن سبق. ولكن من أين لهم جد كجدي تسخى نفسه عن أصفر رنان. كانوا يخوضون الضيعة خوضًا من كعبها إلى رأسها وما يجمعون إلا متاليك وبشالك، أما الليرة الذهبية وعليها صورة خيال — مار جرجس — فكان لا يظفر برؤيتها أحد غير مارون.
أذكر أننا تجمعنا مرة وقصدنا قرابة لنا اشتهر بالشح، لنصبحه بالخير. وعند انشقاق الفجر شققنا بابه واستولينا على المبادرة هاتفين بصوت واحد: صبحك بالخير.
فهالته كثرة عددنا وأوجعه صباحنا، ولكنه تجلد وقال: الله يصبحكم بألف خير.
وسكت وسكتنا، فقال أحدنا: هات صباحيتنا. فأجاب: ألا يرضيكم أن يكون الواحد بألف. قال هذا وأيقظ زوجته، وهي عجوز مثله، فقابلتنا بوجه كالنعل. ولما قال: أعطيهم صباحيتهم استبشرنا وظننا أننا فتحنا القلعة. وما خاب الأمل إلا حين قامت إلى قدر هرمة جاءت معها في جهاز عرسها وقعدت تصب القمح البائت بكرم حاتمي، فقلنا لها: هذي أكلة السهرة، والصباحية تكون من الكيس.
فتنطح العم للجواب وقال: ما سمعتم قول الإنجيل: لا تعبدوا ربَّيْن الله والمال.
وقالت هي: أولاد وقاح بلا مربي.
ومرة حاول أخ لي أن يوقظني ليصبحني في رأس السنة، ولكنني سبقته فخاب فراح وهو يبربر: الله لا يسعد صباحك.
وفي آخر عمر جدي وكنت صرت أفهم الخمس من الطمس، والكوع من البوع، تجرأت عليه وقلت له: أنت تعبس وحدك يا جدي في هذه الليلة.
وكأنه قد أعجبه مني أني فطنت لبعض سره فانبسط وجهه وقال لي: هذي ليلة محبة ذات عندنا نحن البشر. نودع السنة الرائحة بالطمع، ونستقبل الغادية بفم مثل فم الحوت، قلما تجد رجلًا يحاسب نفسه حسابًا صارمًا. أما جدك يا مارون فموقفه في هذه الليلة من نفسه موقف الديان الرهيب، يستعرض كل أعماله في بحر السنة.
أتذكر حسناتي وسيئاتي، أكلف نفسي التكفير عن إساءاتي في عامي الجديد بما أزيده من حسنات. فلو كان كل رجل، بل كل صاحب سلطان يحاسب نفسه حسابًا عسيرًا في رأس كل سنة، لما بقي في الأرض مظلوم، ولملأ السلام الأرض وعاشت البشر بسلام. ولكن المادة سدت الأبواب على المحبة فنامت خارج البيوت.
صدقني يا ولدي إذا قلت لك: ما وقعت عيني في هذا اليوم إلا على ناس يتمنون زيادة المال، ولا فرق عندهم بين حرام وحلال. فما داموا لا يفكرون إلا بالمادة، ولا يعنيهم غير زيادتها في العام الجديد، فمن أين تدخل الرحمة إلى القلوب؟!
أبواب القلوب مغلقة، الإحسان يقرع ولا يُفتح له. فرأس السنة عندنا عيد ابتهاج وطمع ومنافسة: ابتهاج بما كنزنا. وطمع بجذب المادة صوبنا، لينتفخ كيسنا، ويكبر صندوقنا، ومنافسة على ادخار ما تيسر لنا من حطام الدنيا.
فإذا ظل الناس لا يحاسبون أنفسهم كل عام إن لم أقل كل ليلة، ماتت ضمائرهم، وموت الضمير موت السلام، ولا سلام ما دام المال معبودًا.
ثم حملق بوجهي وقال: أَتَفْحَصُ ضميرك كل ليلة كما علمتك؟
فترددت في الجواب، فقال: أيش بك؟ رد.
فقلت: نعم.
فقال: (نعمك) ضعيفة. افحص ضميرك ونم. وما صبح إلا فتح.
وفي الغد فتح مصره، ونزل (الخيال) إلى الساحة. وكان مارون بطل الصباحيين — لا السباهيين — في الجيرة.