استسقاء
لو رجعت اليوم يا سيد، لاشتهينا أكل التين.
•••
كان الخوري يوحنا عبود جدي ومعلمي، وهو أول شخص لزمته في فجر الحياة، فما أحسنت قراءة السريانية حتى حملني على الصلاة معه، فكنا نقيمها أينما اتفق، في البيت، قدام الباب، على البيدر، في الحقل، في الكنيسة. كلانا يحمل (شحيمة) فكنا (خورسًا) متنقلًا نقيم الصلاة حيث تدركنا، وكانت صبوتي صلوات متتابعة، فكأنني كنت كاهنًا (بالمقلوب).
كررت تلك الصلوات مئات المرات، وما هي إلا ترانيم وأناشيد صوفية رائعة، حتى حفظتها عن ظهر لساني، ولا يزال جلها عالقًا بذهني على بعد عهدي بها، وأشهد أنني ما برحت أهتز لسماعها، كما كان يرتاح الخليفة المنصور إلى الحداء أكثر من الرصد والبايات.
وفي ٨ شباط سنة ١٨٩٩ فرغنا من صلاة (النهار) وجلسنا على المصطبة الشرقية، فقص عليَّ جدي نبأ مار مارون وتلاميذه الثلاثمائة والخمسين شهيدًا، وكانت تنهداته متتابعة، حتى أجهش بالبكاء فخفت عليه، ثم ذكر رهبان دير (القطين) وهو كهف عظيم قبالة قريتنا عين كفاع، لا تزال آثاره ماثلة وإن أقوت وطال عليها سالف الأمد.
وبعدما حشا ذاكرتي بقصص أولئك النساك الحبساء نهض قائلًا: الحقني يا صبي.
ومشى ومشيت وراءه وانقطع الكلام، وشرع يصلي في طريقه إلى الهيكل، تارة يهمس، وحينًا يهمر، وإن حياه أحد رد التحية بإيماءة كالومضة، زاويًا ما بين عينيه كخلقته، وما بلغ الكنيسة حتى رأى أخاه بالرب الخوري يوحنا الحداد في ساحتها فسلما (بالمجد لله)، تحية القدماء، وجلسنا على مقعد حجري، ودار حديث قصير، فاستكبرا أمر القيظ نذير المحل والقحط والجراد، وعزا الكاهنان انحباس المطر إلى خطايا البشر الكثيرة، ورأيا أن هذا (الغضب) لا يرفعه عن الأرض إلا الصلاة والزياحات، فعزما على إقامة زياح حافل لصورة مار مارون استسقاء للمطر.
ثم قرأ جدي فصلًا من (مرشد الكاهن)، وقرأت لهما فصلًا من كتاب الاقتداء بالمسيح، ثم استأنفا الحديث، فذكرا ثالثهما الخوري موسى — جدي لأمي — الذي مات منذ أشهر، فقص جدي على الخوري حنا حلمًا أذكر منه أنه رأى أخاه الخوري موسى يقيم قداسًا (كبيرًا) في برية واسعة، وحوله جمع غفير من أحياء وأموات يعرفهم جدي. وبعد التأويل والتعبير ربح الميت قداسًا وجنازًا أقاماه له في الغد.
وانفض مجلسهما ودخلا الهيكل، فقرعا الجرس، وزينا البيعة، وأسرجا قناديلها، ثم تحولا إلى (القرَّاية) فنبشا الصلوات الخاصة بمار مارون في الشحيم والسنكسنار والريش قريان، وأعلما عليها جميعًا.
وقرع الجرس ثانية، وما أمسينا حتى دق به ثالثة، فأقبل كل جمهور الضيعة وقامت الصلاة، وامتلأت الكنيسة رنينًا وهزيزًا، ثم تليت على الملأ سيرة أبيهم القديس مارون، وما قاسى من الشياطين التي كانت تجربه، فانفجرت الصدور تنهدًا، ولما نال إكليل السعادة الأبدية فارقتهم النوبة وابتهجوا.
وكان الكاهنان يرصدان القارئين حتى إذا بدرت من أحدهم غلطة أخذوه بها وصلحوا خطأه بنبرة عنيفة، وكان جدي أكثر تحديًا للشمامسة، وكثيرًا ما كانوا يكرهون معاونته ويهربون منها. ولكنه لم يلن لهم ومات لا يعرف الهوادة، كأنما كان يعتقد أن الغلطة تفسد الصلاة، فما كان يحابي أحدًا حتى الكهنة.
ولما انحلت الصلاة قال للشعب قبل منحهم البركة: غدًا نقيم قداسًا وزياحًا كبيرين، فعلى الجميع أن يعترفوا ويتناولوا ليربحوا الغفران الكامل الممنوح من سيدنا البابا لعيد مار مارون بشرط زيارة الكنيسة الخورنية والصلاة لأجل ارتفاع شأن الكنيسة البطرسية.
•••
ومع الصبح سمعت جدي يقول لأبي: ما أفاق مارون.
فقال أبي: أنا أروح معك خلِّ الصبي ينام.
فنفر جدي وقال: صح فيكم قول الإنجيل يا حنا، أنتم ما دخلتم ومنعتم الذين يدخلون. يا ضيعان تعبي، هيهات أن يكون خوري بعدي في هذا البيت.
يا إخوتي المباركين
اجتمعنا اليوم لنعيد عيد أبينا العظيم، فمار مارون هو التاجر الذي حكى عنه الإنجيل أنه وجد درة ثمينة فمضى وباع ماله واشتراها. نعم يا أولادي، إن مار مارون هو العبد الصالح الذي ربح بالخمس وزنات خمسًا أُخر، وفلح كرم الرب من الصبح حتى المساء، كما سمعتم أمس، وتسمعون الآن من مديحه، فالذي انقطع عن الدنيا كلها وقعد في مغارة يصوم ويصلي ليلًا ونهارًا، ويدافع عن الإيمان بتقوى وحرارة يستأهل أكثر من هذا المدح. صح فيه قول مار أفرام ملفان البيعة: ويكون لهم بعد موتهم أعظم إكرام. وأي إكرام أعظم من العبادة.
ما كان أبونا ما مارون يعيش كما نعيش نحن، وما كان يفتكر بما نفتكر به نحن، كان يطلب ملكوت الله وبره. ومار مارون ما كان يلبس كما يلبس إكليروس اليوم الغنابيز المزررة، ولم يكن يحمل عصا مذهبة ومفضضة. كان لباسه الشعر ليقهر النفس المتكبرة، وعصاه من الزعرور ليرد بها عنه الكلاب، وصليبه كان في عبه ليخزي به إبليس اللعين، لا للزينة والبهرجة، وهذا التاج الذي على رأسه، والعصا التي بيده نحن الذين يغرنا المجد العالمي حملناه إياهما، ولو كان أبونا غير هكذا ما طلب يوحنا فم الذهب صلاته ودعاه. فمار مارون قس، والقديس يوحنا فم الذهب مطران عظيم ومن ملافنة البيعة.
إن مار مارون غلب الشيطان كما خبرنا السنكسار، ونحن أولاده يغلبنا الشيطان كل ساعة. مار مارون شفى مرضى كثيرين، ونحن المرضى في قلوبنا وليس من يشفينا، نحن كما قال مار أفرام كنار الروح: دبت الآكلة في الجسم وسرت.
يا حسرتي علينا يا أولادي، إذا حجب الرب عنا رحمته؛ فلأننا ما عدنا نفتكر به. تركناه فتركنا، ما عدنا نفتكر إلا بالدنيا، من كبيرنا إلى صغيرنا، أبونا مار مارون أسس ونحن ما وضعنا حجرًا على الحيط، خراب عمومي في الدنيا والدين، الروح الطيبة راحت مع القدماء، وخطايانا الكثيرة ورَّثت كل هذه الضربات والبلايا والضيق، متى كان ينقطع المطر في كانون وشباط، ومتى كان يخاف الناس من الجوع والعطش في جبل لبنان.
كيف نخاف نحن المسيحيين من الجوع، وإنجيلنا يقول: أبوكم السماوي يقيتكم، ولا تهتموا بما للغد. كيف نخاف الغضب الرباني وعندنا التوبة والاعتراف، والمناولة والصلاة. فإذا كنا نحن البشر يرق قلبنا على من يصرخ حول بيوتنا، وعلى بقرة تعج في القبو، فماذا تراه يفعل ربنا الذي قال: من منكم إذا طلب منه ابنه سمكة يعطيه حية. أما هو الذي جرأنا على الطلب منه بإلحاح، أما هو قال لنا: اطلبوا تجدوا، اقرعوا يفتح لكم. قووا قلبكم واقرعوا بابه ولا تخافوا.
صلوا يا أولادي ولا تملوا، لا تتكلوا علينا وحدنا، فنحن فقراء بالروح. عندما كانت الكاسات والصلبان من خشب، كانت القلوب من ذهب، واليوم بالعكس كاسات وصلبان من ذهب، وقلوب من خشب، ويا ليت، خشب منخور. الويل لنا من تلك الساعة التي يقيم فيها ربنا الخراف من عن يمينه والجداء من عن شماله.
كلكم تعرفون مَثَل التينة، فربنا يسوع المسيح لا يقصد بالتينة إلا نحن الرعاة. فلو رجع المخلص اليوم يا أولادي ماذا كان يعمل؟ الله يعلم.
وضاق به الكلام وخانه اللسان وتغرغرت عيناه بالدموع، فالتفت صوب المذبح ليمسحهما، فوقعت عينه على الصليب فقال بصوت أعجز عن وصفه هذه الكلمة العظيمة على سذاجتها: لو عدت اليوم يا سيد لاشتهينا أكل التين.
وكان سكوت عميق، وأجهشت العجائز، وقرعت الصدور. وعاد جدي إلى الكلام فقال: فلنصل يا أولادي، فلنتشبه بأبينا مار مارون، فبصلواته عمل العجائب الكثيرة. ما هي الصلاة، الصلاة حكي الإنسان مع ربه، فإذا كان حكي الناس مع بعضهم يولد المحبة والألفة، وإذا كان انقطاع الجيران عن الكلام يقوي العداوة حتى نعجز عن حلها، فأيش قولكم بمن لا يحاكي ربه؟ إذا كان أهل البيت لا يكلمون بعضهم فماذا يكون البيت؟ طبعًا كلكم تقولون: جهنم الحمرا.
صلوا إذن فكل ما تطلبونه تنالونه كما يعلمنا الإنجيل الطاهر، اطلبوا من ربنا أن يتحنن علينا ويرحمنا. أن يروي قلوبنا العطشانة إلى النعمة الإلهية، ويسقي زروعنا، ويبارك علينا، ويحمينا من الجراد.
صلوا عن نية بطركنا الجديد مار إلياس بطرس الحويك حتى يساعده الله على تجديد البيعة وصيانة عزها الروحي، ويسير على درب بطاركتنا القديسين. وصلوا له حتى يقوم بوظيفته، فحملته ثقيلة. ولكنه يقوم بها بمعونة الله الذي لا يخيب المتكلين عليه كما قال داود. البطرك إلياس كلكم تعرفونه رجل مجرد عن الدنيا، وفيه روح آبائنا الأقدمين، وقد حكينا عنه منذ شهر من على هذا المذبح المقدس.
أما أنا وأخي الخوري حنا فعبدان حقيران خاطئان، نقع ونقوم تحت نير الرب سبعين مرة لا سبع مرات، كما قال النبي داود. فصلوا لأجلنا كما نصلي لأجلكم، ولنتضرع جميعنا إلى أبينا مار مارون ليسمع صلواتنا ويساعدنا ويسهر على كنيسته، ولا يهملها لأجل خطايانا الكثيرة. رزقنا الله شفاعته، آمين.
ولما انتهى القداس سار الجمهور بصورة أبيهم مار مارون يحملها الخوري حنا الحداد، وجدي يبخرها، والشمامسة يرتلون ويترنمون؛ والشباب يقرعون الجرس قرعًا عنيفًا، فالفرصة سانحة، وقرع الجرس أحب شيء إلى قلوبهم، ولا سيما أن قرعه في غير وقته كان فلتة في تلك الأيام.
لا أزال أتذكر جدي كيف كان يبخر دائمًا بحماسة، وهو ابن ثمان وثمانين، ويرتل بصوته الجهوري الجميل، الذي لم أرث منه شيئًا. يبخر وهو يعود القهقرى، وأنا خائف إن تعثر بحجر رجله فيقع. كان جدي ينظر أحيانًا إلى السماء، وما دريت لماذا حتى كان المساء وتلبدت الغيوم وسقط المطر. وقال لكنته أمي: هاتي عشيني، الرب قبل صيامي وصلاتي. كثر خيره.