جينا للضيعة جينا
إلى الدكتور سليم حيدر
إذا كان أعجبهم فيما مضى أن يسموا ابن العميد والطغرائي ذا الوزارتين فكم تراه تعجبني، وأنت أديب وشاعر، مثلهما، أن تكون ذا وزارات: تلفون وبرق وبريد وزراعة. وليس من الغريب أن تفلح حيث تكون، فالذي رآك مثلي هلالًا لا ينكرك بدرًا كاملًا.
وبعدُ فلا أسمع إلا تقرير اعتمادات بالملايين للتلفون الأوتوماتيكي، فهل فاتك أن القرية التي يتغنى بها شعراء العامية والفصحى فيها بشر ذوو أرواح!
إذا تحدثت يا معالي الوزير، عن الخبز والطعام أمام جوعان أخذ يبلع ريقه، وطفقت شفتاه تنطق بغير الكلام، فمشروع القانون المعجل لإنشاء ٢٥ ألف خط تلفوني إلى الملحقات هو الذي اقتضى أن نوجه إليك الخطاب.
ونحن ماذا؟ أمن الملحقات أم من الذيول؟ راجع الملفات في مديرية الهاتف تعلم أنه قرر لنا إنشاء خط منذ سنوات، فإذا كان كل وزير لا يعمل إلا المهم (في نظره) فنحن لن نسمع صوت (هاتف) إلا في القبور يوم ينفخ في الصور؛ لأنني لن أصير وزيرًا لأعمل لضيعتي ومنطقتي.
لقد أرتني الأيام، أن كل من يحل في الدست يحسب أنه ما جاء إلا ليركب (الدست) ويطبخ أطيب ما عنده لمن عنده أما نحن فبين حانا ومانا ضاعتِ لحانا، وعشنا ونعيش منتوفين.
لنا سنوات واقفون عند الحوض، والناس يردون ويصدرون ولا نفوز بنقطة ماء. كل وزير يقدم الأهم على المهم، ومن يكون الدفتر معه لا يقيد نفسه من الأشقياء.
إذا كان الاصطياف يا صاحب المعالي، هو المهم في نظر الدولة وهي لا تبالي إلا بالرجل الغريبة، فنحن نربع ونصيف في قرانا، ويشرفنا بزياراتهم أناس يهم الدولة أن يذكروها بالخير ويثنوا على تقدمها وعمرانها. فما لكم لا تذكرون إلا الاصطياف! ألا فاذكروا النفوس ولو مرة. أتهمل ثلاثة أرباع الدولة وأكثر لنري السياح أننا إلى الأمام سائرون.
إن حياتنا أعز من قروش تمهدون سبل اكتسابها لأناس على حساب آخرين. فلو أعطيتمونا نقطة ماء، وشرارة كهرباء وتلفونًا لا يلبي إلا بعد ساعات لصارت ضياعنا مصيفًا ومشتى ومربعًا.
حقًّا لقد صرت أخاف الإقامة في بيتي، وهذا أقصى الذعر وأسوأ حالة يبلغها الإنسان. إن هذا القلب الذي كان يمشي بنظام أوتوماتيكي قد صار يحرن قليلًا، وإني لأخشى أن يتعس وليس له من يشد به، فأقرب طبيب إليه يبعد عنه ثلاث ساعات. أعرفتم الآن لماذا نلج ونلح؟
أنا رايح بعد أسبوع إلى عين كفاع، وإذا كان ما أخشى أن يكون، فماذا تنفعني أو تنفعكم: إنا إلى الله وإنا إليه راجعون.
يعز علينا أن نشكو، ولكن طفح الكيل، والوعاء الذي لا يمتلئ يكون معيوبًا. اذبحوا (للابن الشاطر) ألف عجل مسمن، ولكن لا تبخلوا علينا بشاة بشارية نعلق في جيدها جلجلًا.
فمتى هذا الوعد، ومن ينتظر سنوات غير الذي يحلم بالوزارة.
في حزيران ١٩٥١ قيل لي: في آخر تموز تتصل بالعالم تلفونيًّا فشكرت وخرجت.
وما انقضى تموز حتى راجعت، فأجبت في آخر آب. وذكرت في أوائل أيلول فما نفعت الذكرى، وصح بتلك المواعد قول النابغة: تمر بها رياح الصيف دوني.
ولكن الغريق يتعلق بحبال الهوا. فراجعت أيضًا فقيل لي: في آخر شباط ينتهي كل شيء. ولكن شباط شبط ولبط، وآذار شخر وهدر، ثم هبَّ هواء نيسان السخن وما تفتح في أرضنا برعم من براعم التلفون، وها قد مرت أربع سنوات ولا رجاء ولا حياة. ألسنا كلنا أبناء دولة واحدة؟ أما لنا ما للعاصمة والملحقات؟ إننا راضون أن يكون لنا من الجمل شعرات من ذنبه، لا من أذنه كما يقولون.
أنشكو نزوح أهالي القرى إلى العاصمة ثم لا نعمل للقرية شيئًا؟
أرى مثل الحكومة معنا كمثل أب يلبس زوجته وبنته الكبرى أحدث الثياب وأغلاها، وأنفس الحلي وأبدعها؛ للصباح حلي وثياب، وللعصر حلي وثياب، وللمساء حلي وثياب. أما أولاده وبناته الآخرون، فليس لهم فسطان شيت ولا طقم كاكي، عوراتهم مكشوفة يمشون بالزلط يا واو.
أمن العدل أن لا يتصل ابن القرية بطبيب حتى يدركه قبل أن يفطس؟ وهل من العدل أن نشقى ساعات مشيًا على الأقدام لندعو الطبيب ونجلب الدواء؟
يقولون: إننا في عصر السرعة، ثم لا نشعر بالسرعة إلا في الوعود. فقبل أن نسأل نجاب: نعم نعم. ولكنها نعم بلا نعيم.
٢٤ مليون ليرة وثلاثة أرباع المليون للتلفون الأوتوماتيكي، ونحن لا نرى ولو خازوقًا في أراضينا، يعللنا بالآمال، أنعيش على أغاني الإذاعات، جينا عالضيعا جينا. ضيعتنا غامرها النور. يا ضيعا ما بنساك. غنوا للضيعة حتى تنام. بنِّجوها لتنسى أوجاعها وآلامها.
يقولون: إن الإيحاء بتكرار الكلام يشفي من المرض، ولعل هذه الأغاني تجعل الضيعة تصدق أن السعادة فيها وما في الحواضر إلا الشقاء. فليت هؤلاء الذين ينادون: ترمس أحلى من اللوز ينامون في القرية ليلة لنرى كم يرون بها من نعمة.
القرية تسعد في مخيلة الشعراء ولا تُقصد إلا في موسم الانتخابات، فإذ ذاك تصير يد الفلاح المبردية ناعمة كالحرير، وعباءته أجمل من الفراك، وعصاه المعقدة قضيب ماريشال، ومنجله وشاح الأرز.
مسكينة الضيعة، ومساكين فلاحوها فما خلقوا إلا للتطبيل والتزمير واستقبال الزعماء والزحف إلى المدن للمظاهرات، حين يصفرون لهم.
يا معالي الوزير، إذا كان القصد من تركنا والاهتمام بغيرنا هو أن نُري الغرباء ما أحرزه لبنان من تقدم، فنحن مستعدون أن نريهم أن لبنان سحارة بندورة خير ما فيها على وجهها.
ما أسمع إلا من يحسدون القرية على فرنها وتنورها، وكوخها وعرزالها، ومعازها وكرازها، وعنبها وتينها، ناسين نفوس أهلها المتألمة وشقاءهم في سبيل العيش. فهل أقل من أن نسقيهم إذا عطشوا، وإذا مرضوا أن نمكنهم من الحصول على الطبيب في الوقت المناسب؟
وكيف يقدرون على ذلك وليس لهم بريد ولا برق، ولا سيارات غب الطلب. إذا كان المكتوب يصل إلى أقصى عواصم الدنيا قبل أن تصل رسالة إلى القرية فكيف نستغيث؟! ومع ذلك تشكو المدينة من تهافت الناس عليها. أليس كل فتى قروي ذاق حلاوة حياة المدينة أسابيع يطلق قريته البتات؟ فإذا شئتم أن تظل القرى عامرة فرفهوا — ولو قليلًا — عن سكانها المساكين، فلا يكون عليهم الغرم، ولغيرهم الغنم.
إنها لقسمة ضئزى.