حكاية الماء
ما شققنا الطريق ووصلنا إلى بيوتنا بالسلامة حتى أعلنت الحرب الهتلرية، وما انتهينا من قرع الجرس ابتهاجًا حتى حملت إلينا أول سيارة نبأ إعلان تلك الحرب المشئومة فوجم الناس، ولكن (الطريق) نفعتهم جدًّا فصاروا يبيعون محصولاتهم، وسهل عليهم الأخذ والعطاء.
وبعد شق الطريق رادوتنا فكرة جر مياه الشرب إلى القرى العطشى، وكان النبع المسمى (نبع قطرة) هو أملنا الوحيد فراجعنا الحكومة بشأنه فوعدتنا خيرًا، وفي ساعة سوداء حمل إليَّ أحد الأصدقاء جريدة لبنان الرسمية لأقرأ فيها مرسومًا يجيز للرهبانية اللبنانية البلدية جر مياه ذلك النبع إلى دير كفيفان في بلاد البترون.
فعقدنا الاجتماعات وطيرنا برقيات الاحتجاج، فلجأ الرهبان إلى تهدئة الخواطر، وعللوا أهالي القرى باقتسام المياه، ورأى الجميع: الصلح سيد الأحكام. وعندما كان فريق من وجهاء قرى ساحل بلاد جبيل يشدون العزائم إلى دير ميفوق ليقتسموا والرهبان ثياب العوام ويقترعوا على لباسهم، وعندما كان رهبان ميفوق يشربون والمدعوين على جلد الدب كنت أنا في طريقي إلى بيروت فبتدين.
لم يكن بقي إلا بضعة أيام حتى يمسي المرسوم نافذًا، فأقمت الدعوى في مجلس شورى الدولة وهرولت إلى بتدين، فسبقتني إليها الصحف التي نشرت خبر الدعوى المقامة مني على رئيس الرهبانية العام والحكومة اللبنانية.
وعلى الغداء قال لي فخامة الشيخ بشارة الخوري: تقيم الدعوى علينا ونغديك عندنا!
فأجبته بما لي عليه من دالة: عندك عندي، وما أقمت الدعوى بدون إخبار إلا لأن (الدق محاشر)، وإذا لم أفعل ذلك أخاف أن (تروح علينا) ويعدِّي السبت، فأولاد الحلال كثار. قد فعلت لأقطع الطريق عليهم وأترك لفخامتك مجال إعادة النظر، فالرهبان يعملون بقول المثل اللبناني: من بعد حماري لا ينبت العشب، وقصتهم مشهورة.
فقال: وما هي.
قلت: في التقليد عندنا يروون حكاية هي أن راهبًا انقطعت تكة سرواله، فالتفت في ذلك الليل البهيم فوقعت عينه على خيط يربط الأرض بالسماء فتناول السكين وقطعه ليربط به سرواله، فابتسم الشيخ، جزاه الله عنا خيرًا وأرسل نكتته الناعمة، ومن طبعه أن يرسلها ولا يجعلك تحس أنها داوية: اشكر ربك. هذا ما نتمناه.
وهكذا خنق الشيخ ذلك المرسوم في المهد، وأُعطي الشعب حقه، ولكن جرة الرهبان لم تطلع من البير فاضية، قبضوا ثمن المياه خمسين ألف ليرة.
وخططت السبل بعد خمس سنوات، فأعدت الكرة إلى بتدين وقلت لفخامة الشيخ: يقولون عندنا: إن تخطيط السبل دعاية انتخابية.
فقال: لا. لقد أرصدنا مبلغ ثلاثماية ألف ليرة. وستشربون إن شاء الله.
قلت: وندعو لفخامتكم بطول العمر.
ثم كان ما كان، وجاء الأستاذ ريمون أده نائبًا عن بلاد جبيل، وها هو قد نفذ ووسع دائرة البيكار فشرب ساحل بلاد جبيل كله أو كاد، ولم يبق غير التلفون والكهرباء.
فإلى الشيخ الرئيس الذي سمع صوتنا وحفظ لنا هذا الحق الحيوي أحر الدعاء، وإلى الأستاذ ريمون أده الذي جاهد ولا يزال يجاهد في سبيل المنطقة التي ينوب عنها أجزل الشكر، وهنيئًا لمن شرب، هكذا نقول. نحن زائلون جميعًا، أما المشروع فباق إلى ما شاء الله.
وفيما يلي فقرات من عرض القضية الذي رفعناه إلى مقام محكمة شورى الدولة الموقرة ننشره هنا ليذكرنا الناس ويترحموا على من أحسنوا إليهم. بعد الوفاة طبعًا عملًا بسنة منح النياشين عندنا.
قرى بلاد جبيل العطشى
الأستاذ مارون عبود يقيم الدعوى على الحكومة، وعلى رئيس الرهبانية البلدية بعد صدور مرسوم بالترخيص للرهبان بأخذ مياه ميفوق إلى دير كفيفان!
في خراج قرية ميفوق من بلاد جبيل نبع اسمه (نبع قطرة) وفي هذه المنطقة ٢٦ قرية محرومة من المياه، ولا سبيل لسقيها إلا من هذا النبع. وقد طالب أهاليها الحكومات السابقة كلها بجر مياه النبع إليها دون جدوى. وظلت هذه القرى لا تجد ماء للشرب إلا المياه المجموعة من الأمطار. وبينما كان الأهلون يأملون أن تلبي الحكومة طلبهم، فتقوم بواجبها في جر مياه نبع قطرة إلى قراهم، فوجئوا بمرسوم يقضي بالترخيص لرهبان دير كفيفان (منطقة البترون) بجر مياه النبع إلى ديرهم، وحرمان أهالي بلاد جبيل من نبع ينبع ويجري في أرضهم، أي حرمانهم من مياه الشرب إلى الأبد، فأقام الأديب الكبير الأستاذ مارون عبود لذلك الدعوى على الحكومة وعلى رئيس الرهبانية البلدية الأباتي يوحنا العنداري، لدى مجلس الشورى. والأستاذ عبود من سكان (عين كفاع) إحدى القرى صاحبة الحق في نبع قطرة والدعوى التي أقامها الأستاذ مارون عبود، عدا عن حججها الحقوقية البالغة. طرفة أدبية، نقتطف منها بعض الفقرات قال: «هذه القضية تشبه الأمراض المزمنة، لقد طالبنا الحكومات السابقة كلها بجر هذه المياه إلى قرانا؛ لأنها حقنا الشرعي، أما هذه القرى فهي: بجه، عين كفاع، غبالين، غلبون، بيت الأشقر، الصليب، معاد، دير معاد، غرزوز، بخعاز، شيخان الرومية، جدايل، الريحانة، المنصف، البربارة، الحلوة، بعشتا، عمشيت، غرفين، العفص، حبالين، شامات، حصارات كورا الهوا، حصرايل.
إن هذه القرى جميعها محرومة من مياه الشفة، وهي تشرب من الآبار المجموعة مياهها من أمطار الشتاء، ولا أمل لها إلا بنبع قطرة الذي يحاول آباؤنا الرهبان المحترمون اختلاسه بمرسوم …!»
وبعد أن يعدد الأستاذ مارون عبود محاولات الرهبان لإتمام المشروع قبل صدور المرسوم، واحتجاجات الأهلين، يشرح الحق الشرعي لسكان بلاد جبيل، دون الرهبان، في هذا النبع فيقول: «إن هذا النبع ليس في خراج دير ميفوق كما ورد في المرسوم؛ إذ ليس لدير ميفوق خراج، وإنما هناك قرية اسمها ميفوق والدير فيها. أما هذا النبع، نبع قطرة، فيصب فوق قرانا التي تطالب بالشرب منه، بينما آباؤنا الرهبان، زادهم الله رشدًا، يكلفون المياه ضد طباعها، يكلفونها أن تتحدى ناموسها الطبيعي ليرضوا عنادهم المشهور، يريدون أن تمشي المياه مشية السرطان (السلطعون)، وتسير طلوعًا، ومن طبيعتها أن تشق طريقها نزولًا، فالمياه لا تعرف إلا التحويل النازل. أما التحويل الصاعد فليس في حسابها، وإن حاول الرهبان تعليمها حسابًا جديدًا، فهيهات أن تتعلم وسنخرجها من مدرستهم تلك. (إنه لا يجوز) أخذ ماء من منطقة لا تستغني عن ذاك الماء لتسقي منطقة أخرى في استطاعتها أن تشرب من نبع آخر أغزر وأكمل منفعة وأعم فائدة وأقل تكاليف. إن المثل اللبناني يقول: الماء لا يمر على عطشان. فكيف تجهل هذا الرهبانية، وهي لبنانية بلدية؟! فهل وصلنا إلى زمان تحرف فيه الأمثال، كما تحرف القوانين، مدنية ودينية؟»
إذا ادعى الرهبان أنهم يريدون سقيا دير لهم، وعملوا بالمثل اللبناني القائل: بقر الدير ورزق الدير، أجبناهم: ونحن عندنا دير هو دير معاد.
كيف يسوغ الرهبان أن يأخذوا المياه من ميفوق في بلاد جبيل إلى دير كفيفان في بلاد البترون؟ إن دير كفيفان يستطيع الشرب، كما قلنا، من ينابيع عديدة، أما دير معاد فإذا سمح الله، ولن يسمح بذلك جل جلاله، وقدر الرهبان أن يغتصبوا حقًّا بمرسوم، عطش هذا الدير وعطشنا معه إلى أبد الآبدين ودهر الداهرين، بلا آمين.
- (١)
إلغاء أحكام المرسوم.
- (٢)
تصفية حساب مياه ميفوق كلها ما عدا النبع الفوقاني.
- (٣)
جر مياه ميفوق الزائدة إلى جميع قرى بلاد جبيل العطشى؛ لأنه حقها الشرعي.
ونحن نؤيد هذه المطالب المحقة الشرعية، من جميع النواحي الحقوقية والعرفية، ومن الناحية الواقعية أيضًا؛ إذ إن قرى بلاد جبيل المذكورة ليس لها أمل بغير نبع قطرة، ولا يجوز أن تحرم منه، هذا فضلًا عن أنه ينبع من أراضيها.
ونحن نأمل من مجلس الشورى أن ينظر في القضية على هذا الضوء، كما نلفت نظر المسئولين إلى ضرورة إرواء عطش أبناء قرى بلاد جبيل الذين لم يتنازلوا عن حقهم في مياه قطرة.