وعظة بونا اسطفان
فغال قرية لاطية في لحف جبل، تنظر إليها من عين كفاع فلا ترى إلا قبة كنيستها الشامخة — اليوم — كأنها أصبع جبارة تومئ بها إلى الأعالي. أما بيوت القرية فمستكنة في ظلال الأشجار صيفًا شتاء، ولعلها القرية اللبنانية الوحيدة التي لا ترى بيوتها الشمس بالمرة حين يقصر عمر النهار.
ولو درجت العادة أن تُعطى قرية الوسام الزراعي لاستحقت قرية فغال أرفع النياشين. إنها غزيرة المياه، فكأن عيونها أنداء تدر للقرية خيرات كثيرة، وتنعش أشجارها المتلازة فتعيش متعانقة متآخية لا تعرف الانقسام الطائفي، فاللوزة تعانق التينة والزيتونة حد المشمشة. والتوت — رحم الله أيام التوت — قائم بين هذه كلها. والبحر ترقص أمواجه قبالة الضيعة، فتضاحكها راضية، وتتوعدها وتهاجمها من بعيد، غاضبة.
إذا سرت في هذه الضيعة الغابة تلتبس عليك الطريق، ولا ترى بيتًا من بيوتها المظللة بالأشجار المختلفة حتى تطأ عتبته. أهل قرية فغال عاملون قانعون يتقون الله، شعارهم: على قد بساطك مد رجليك لا ينفقون فوق طاقتهم. فأكره ما يكرهون الدَّيْن، ولذلك تراهم دائنين لا مديونين. يحبون الأرض ويتكلون على كرمها فيحرثونها ويسقونها من الينابيع المتفجرة من صدر الجبل النائمة قريتهم في حضنه، ومن يتكل على الأرض لا يبتعد عن خالقها.
إنهم ككل أبناء القرى يتكلون على السماء فإذا لم تمطر رفعوا إليها أبصارهم واستسقوها مصلين مبتهلين. إن بدعة المطر الاصطناعي لم تعث بينهم ولو حدثتهم عنه لأجابوك: لا نريده غصبًا عن الله. أما السياسة فلها أخصاء يسمونهم زعماء. فهؤلاء يروحون ويجيئون ويعيشون على هامش المدينة ليكونوا سفراء القرية. وهم يسمونهم لبطالتهم مهندسي طرقات. وقد يبطر واحد من هؤلاء ويطغى فيستحيل حاكمًا بأمره إذا تعرف بأصحاب النفوذ. يتقرب من المسئولين ليستبد بالأهلين المساكين. والزعامة عند هؤلاء محل قومسيون نقال، وغالبًا ما تكون في ذلك الزمان، في بيت خوري الضيغة؛ لأن تحت جبة كل أكليريكي، كبيرًا كان أم صغيرًا، حاكمًا مستبدًّا.
وإذا تغلغلت في قرية فغال بدا لك في رأس الضيعة بيت ضخم بالنسبة إلى البيوت الأخرى المتواضعة. فهو مؤلف من ثلاث غرف قائمة لصق بيت طويل عريض، ينام سقفه الخشبي على قناطر معمدة. في هذا البيت الواسع يسهر جمهور القرية شاتين مصطلين بناره التي لا تطفأ؛ لأن في هذا البيت تنام قفة عظام ليلًا نهارًا. عجوز تسعينية عقلها وحواسها كاملة وإن كانت ملامحها غير قابلة للوصف.
أما الغرف فواحدة يسمونها الصالون وإن كانت لا تتسع لعشرة أشخاص، والثانية لمنامة الخوري البتول وحده. وهذا الخوري مديد القامة كبير الهامة لا يقل تكعيب هيكله عن ثلاثة أذرع معمارية. لا يتزنر على خصره بل تحت إبطيه؛ لأن كرشه يحتاج إلى حبل جمل، وكان زناره عرض أصبعين حتى لا ينطوي فوق كرشه.
كانت تنام مع هللون العجوز بنت بنتها، الست لوسيا الأرملة الشابة. وكانت تداعب جدتها ولا تبالي بزواجر أمها. وكانت الجدة تحب هذه البنت حبًّا جمًّا رغم شيطنتها، وتستجيب لأكثر رغباتها. فأقبلت البنية على جدتها تطلب منها حكاية المساء كما عودتها كل ليلة، فقعدت البنت على حافة فراش ستها وأصغت تنتظر الحكاية العتيدة.
ولكن هللون كانت مضطربة تفكر بعواقبها الأربع: الموت والدينونة، والجحيم والنعيم. وفيما هي منتظرة وصول الواعظ الشهير الأب اسطفان البنتاعلي، فنادت بأعلى صوتها المرتجف: يا خوري بطرس، وأين صار بونا اسطفان؟
وشخصت عينا هللون إلى الباب؛ لأنها كانت تستدل على مجيء الخوري بطرس من العتمة التي تسبقه وتنتشر رويدًا رويدًا ثم تسد الباب لأن الخوري كان عملاقًا ضخمًا بلا جبة فكيف به إذا تثقل في كانون. وبعد هنيهة دخل الخوري ليقول: أبونا اسطفان صار في عين كفاع. واليوم ختم الرياضة. والليلة يكون عندنا افحصي ضميرك جيدًا.
فقالت هللون: يهمني أن أسمع وعظته أولًا، وبعد ذلك أفحص ضميري وأعترف وأتناول.
فقال الخوري: أظن أنك عارفة أن الليلة ليلة البربارة.
– وكيف! معلوم عارفة.
فطوقت كاترين عنق ستها وقالت بغنج صبياني بريء: فإذن يا ستي احكي لي حكاية البربارة.
– تكرم عيونك ولكن بشرطين: أولًا أن تقولي سيرة القديسة بربارة، وثانيًا أن تتلثمي لأن بربارة كانت قديسة، ولا يجوز أن تسمعي سيرتها وشعرك منبوش مثل الجنية. اسم الصليب وذكر الصلبان.
فأخذت البنت تتلثم وتتوقر، وتترصن، وأرهفت أذنيها للسمع، وبدأت هللون بقصة القديسة بربارة. وغادر الخوري المكان.
والتفتت البنت إلى ستها مستغربة خروج عمها الخوري حين بدأت ستها بالحكاية القديسة، فقالت العجوز: عمك يا بنتي سمعها في السنكسار أربعين خمسين مرة. ما لك وما له، اسمعي أنت.
بربارة يا بنتي قديسة كبيرة ولها أعظم إكرام في الكنيسة. أبوها وثني اسمه ديو سقوروس. كان يحبها جدًّا لطباعها الكريمة وجمالها. رباها في حصن منفرد حتى لا تقع عليها عيون الرجال.
فقالت البنت: وكيف قدرت عاشت، وحدها، يا ستي؟
فقالت الجدة: عاشت وحدها لأنها ما كانت مثل بنات اليوم. وفي الحصن أخذت تتأمل في الدنيا وشكت بآلهة أبيها وآمنت بالمسيح له المجد.
فقالت البنت: قلت يا ستي: إنه رباها وحيدة في حصن، فمن دلها على المسيح؟
– إلهام رباني. تقبريني يا شاطرة! بس اسكتي ولا تقاطعيني. ولما بلغت، أراد أبوها أن يزوجها بأمير من أمراء البلد فرفضت، وطلبت منه أن يبني لها حمامًا فبناه وأمر أن تفتح فيه طاقتان، فأشارت هي أن تفتح فيه ثلاث.
وقالت البنت: ما الفرق بين الثنتين والثلاث طاقات؟
فأجابت هللون: على اسم الثالوث يا بنتي، لا تكثري السؤالات. القصة طويلة حتى نخلصها قبل وصول بونا اسطفان والهيلجي: رسمت القديسة بربارة إشارة الصليب على عمود رخام بالحمام فأثرت أصابعها به، وظل رسم الصليب عليه. ثم أخذت تكسر أصنام والدها وتبزق عليها. ودرى أبوها بعملها فهب ليفتك بها بسيفه، فهربت من وجهه وركض خلفها. وكانت في الطريق صخرة تسدها فانشقت الصخرة حتى مرقت بربارة ثم عادت الصخرة إلى حالها كأنها لم تنشق.
فابتسمت الصبية كاترين ولحظت العجوز ذلك فقالت لحفيدتها: آمني يا ابنتي، لا تشكي بعجائب الله. ثم تابعت سرد حكايتها: ودار أبوها الدورة فوجد بعد التفتيش أن بنته بربارة مختبئة في مغارة فضربها بقساوة وجرها بشعر رأسها إلى بيته. ثم قادها إلى الحاكم، ولكن الحاكم لاطفها لأنها أعجبته. ووعدها وعودًا كثيرة إذا كفرت بالمسيح وسجدت للأصنام. فلم ترض لا بكثير ولا بقليل. ولما عجز الحاكم عن ردها إلى دينه، وهو دين أبيها، أصدر أمره بتعذيبها. فجلدوا جسدها الطاهر فامتلأ جراحات.
وأجهشت البنت للبكاء فقالت جدتها: اصبري يجيئك الخبر. وألبسوا بربارة ثوبًا من شعر، وألقوها في حبس الدم فظهر لها المسيح وعزاها. وشفى جراحها.
فاطمأن قلب البنت كاترين حين شفيت بربارة. أما الجدة فقالت: وفي ثاني يوم قدمت للحاكم فأمر أن يمزقوا جلدها بأمشاط حديدية، وأحرقوا خواصرها بشموع وقطعوا ثدييها.
فصرخت البنت، فجاء عمها الخوري وقال لهللون: لا تفزعي البنت بحكاية البربارة.
فقالت هللون: يه، أنت خوري ووكيل بطرك وتقول: لا تفزعي البنت بحكاية بربارة! أهي حكاية يا خوري بطرس؟
فاستحضكت كاترين وقالت هللون: ما وصل بونا اسطفان؟
فقال الخوري: بونا اسطفان على الطريق. بحياتك لا تفزعي البنت.
فعقدت هللون نونتها وازداد وجهها تجعدًا وقالت: لو كانت البنت في القداس ألا تسمع السنكسار؟ أنا ما زدت ولا نقصت. والتفتت بكاترين وقالت: وصلنا عند قطعوا ثدييها وساقوها عريانة في أسواق المدينة والجلادون يضربونها بالكرابيج، فابتهلت إلى الله فسترها بثوب من نور فلم يعد أحد يبصر عريها.
وأخيرًا حكم الحاكم مرسيانوس بقطع رأسها. فاستأذنه أبوها بذلك، فأخذها إلى الجبل القريب وهناك قطع رأسها بيده.
فصاحت البنت: أما والد وحش. ديب كاسر. ستي، كيف حفظت السنكسار مثل كرج الماء! فصرت هللون أصابع يدها إشارة الانتظار فأصغت البنت وقالت الجدة: وبينما كان الوالد القاسي راجعًا إلى بيته وثيابه مصبوغة بدم الشهيدة البتول، أرعدت السماء بغتة وانقضت عليه صاعقة ومات. وبعد أيام قليلة مات الحاكم فجأة.
فصاحت البنت: آهيك. وقالت هللون: ولذلك يصلي الناس للقديسة بربارة كيلا يموتوا بغتة بلا اعتراف ومناولة. البربارة سلام الله على اسمها عجائبها كثيرة. منها أن رجلًا كان متعبدًا لها، ولما احترق بيته وأحاطت به النار صرخ يا قديسة بربارة! فجاءت إليه حالًا وهو على آخر رمق فسترته بثوبها وحمته من النار، وظل حيًّا حتى اعترف وتناول ودهن بزيت المسحة وفاضت روحه.
وما أنهت هللون حكاية بربارة حتى سمع حداء الغوغاء في القرية:
فقالت هللون: سمعت يا بنتي هذا الاحتفال؟ هو تذكار طواف بربارة عريانة في شوارع المدينة. واقترب الغناء ودخل المعيِّدون بيت الخوري وخلفهم صبيان القرية وشبابها، وهم يصرخون:
وتقدم (المسود) يرقص عند فراش هللون ويهتف:
فصاحت هللون: أعطوهم وبحبحوا.
ودخل الخوري بطرس وهو يقول: عجلوا روحوا، جاء المحترم بونا اسطفان. لك البشارة يا ست هللون!
فهتفت هللون: الله يبشرك بالخير، ويرزقك آخرة صالحة.
ودخل المحترم بونا اسطفان الصالون بقامته المربوعة يتغربل ويتدحرج كأنه برميل سنمورة. لون وجهه أسود ولا يعرف من ثوبه إلا إذا تبسم. فلو كان علمانيًّا لكان (مسودًا) بلا صبغة. وعاد الخوري بطرس لاستقبال الواعظ في القاعة، ودار بينهما حديث هللون العجوز وأنها تنتظر بحرارة، تريد أن تسمع وعظ بونا اسطفان.
فقال المحترم: وكيف نعظ امرأة بمفردها، وماذا أقول لها؟
فقال الخوري بطرس: الكلام الذي يدور على لسانك.
فقال الأب اسطفان: قولوا لها تستعد. أنا حاضر.
فنادت هللون بنتها لوسيا لترتب فرشتها وتساعدها على الجلوس جلسة لائقة بكلام الله وبكهنوت الواعظ الجليل.
وبعد هنيهة دخل المحترم البيت يتوكأ على عصاه الأبنوسية، وأعطى هللون يده فقبلتها، ثم ابتدأت المعركة البتراء، وما قال حضرته:
حتى ضربت هللون صدرها تلتمس شفاعة القديس الذي تخيلته. وكاد الخوري بطرس يقرض شفته السفلى المندلقة من شدة العض عليها سترًا للضحك، وتابع المحترم:
فاشتد القرع وتحمست الشيخة وقد أخذتها بلاغة الوعظ، فقال لها خوري الرعية: توفي صدرك، قتلت حالك يا بنت الحلال. ولما قال بونا اسطفان:
امتلأت هللون إيمانًا، وظنت أنها إذا قالت للجبل انتقل ينتقل. واقعنسس المحترم وازداد كرشه نتوءًا حين رفع عقيرته وأنشد مسك الختام.
وكان يشد على هذه الكلمات: حصاني، وسيفي، ورمحي، والتنين. فرسم بذلك الصورة الواضحة التي أراد طبعها في مخيلة هللون. واقترب من العجوز وصلى على رأسها متمنيًا لها خلاص نفسها.
وجاء حفيدها طانيوس شقيق كاترين يسأل جدته عن موضوع الوعظة فأجابته: والو! خمنتني خرفت. مَن مِن القديسين راعي الحصان وحامل سيف، وناقل رمح وقاتل التنين غير مار جرجس! يقبرني حصانه، وسيفه ورمحه. نسيت يا ابني أن صورته على الليرة الإنكليزية، خذ تفرج عليه وحطها بعبك.
وهم طانيوس بإخبارها أن مار جرجسها هو عنتر عبس، فنكزه خوري الرعية الذي حضر تمثيل الرواية المؤلمة فأمسك عن الكلام. وقال الخوري وهو يلملم أذيال جبته استعدادًا للخروج: إيمانك أحياك يا ست هللون.
فأجابته متهللة: الحمد لله، قبل الرب طلبتي فما مات قبلما سمعت كلام الله من بوز بونا اسطفان.
فقال الخوري: حظك كبير. ثم خرج وهو يتمتم: الكنيسة القريبة لا تشفي.